رشدي بويبري: باحث في الدراسات الاجتماعية، جامعة ابن زهر، المغرب
تعد قضية العلاقة مع الغير اشكالية إنسانية عريقة عرفت حضورها في تفكير الإنسان واحتلت حيزا مهما من اهتمامه بشكل مبكر، لكنها لا زالت لحد الآن تحتفظ براهنيتها في النقاش الفكري، الفلسفي والديني والعلمي. فهي إشكالية إنسانية وقضية صاحبت الوجود البشري الفردي والجماعي منذ القدم. ورغم أن البعض يعتبرها قضية فلسفية ويُرجع بوادر بروزها الى فلسفة ديكارت خلال المرحلة الحديثة من تاريخ الفلسفة، أو يربطها آخرون بفلسفة هوسرل في الفلسفة المعاصرة، إلا أن كثيراً من الباحثين أكدوا أنّها قضية إنسانية متعددة الأبعاد وحاضرة في مجالات متنوعة بدءا بالدين ومروراً بالسوسيلوجيا وعلم النفس وكذا الفلسفة والفن وغيرها. ولا يقتصر حضورها على تجربة ثقافية أو حضارية بعينها بل نجد لها صدى واضحا في كل الثقافات وفي أغلب الحضارات سواء القديمة منها أو الحديثة. وترتبط مسألة العلاقة مع الآخر بمجال العلاقات الإنسانية بما تحمله وتعبر عنه من تشابك وتعقيد وقد أفرز التعبير عنها مجموعة من المفاهيم المتنوعة مثل الغير والآخر والاختلاف والتنوع والتبادل والتشارك والتعارف والصراع وغيرها.
في المجال الإسلامي نجد صدى لإشكالية العلاقة مع الغير في أصول الفكر الإسلامي، القرآن الكريم والسنة النبوية وكذا في إبداعات مفكري الإسلام بدءا من مقولات علماء الصحابة إلى ما أثّله الفقه الاسلامي والفلسفة الإسلامية والتجربة السياسية والاجتماعية للعالم الاسلامي خلال مراحله التاريخية المختلفة. أما في الحقبة المعاصرة فقد بدأ طرح هذه الإشكالية بحدّة مع صدمة الاستعمار الغربي للمجتمعات الإسلامية منذ الحملة الفرنسية على مصر في القرن ١٩. حيث طرح مفكرون مسلمون هذه الإشكالية للنقاش واختلفوا حول ضوابط التعامل مع الآخر المختلِف الحامل لقيم حضارية وثقافية مختلفة أو مخالفة للهوية الثقافية الذاتية. فذهب فريق إلى ضرورة الانفتاح على الغير بلا قيود ولا حدود والتماهي معه قصد الانتفاع بما عنده والاستفادة من ثقافته وحضارته للتخلص مما تراكم في الأمة من تخلف. في مقابل هؤلاء اتخذ آخرون موقفا عدائيا من الغير يدعو إلى الانغلاق على الذات والاكتفاء بمقوماتها مهما كان ما يملكه مشروع الاخر الثقافي والحضاري من جاذبية وجِدّة. وبخلاف الفريقين ظهر نَفرٌ من مفكري الإسلام يدعو إلى الانفتاح على الآخر والتسامح معه من موقع المطلب الشرعي الموصي بذلك وقصد الاستفادة مما يملك من حكمة وإنجازات علمية وتكنلوجية وأساليب تنظيم للحياة الفردية والجماعية لكن دون الذوبان في نموذجه الحضاري. هذه المواقف الثلاثة من الغير تجد لها صدى في التاريخ الإسلامي حيث كان هناك فرق بين المقاربة الفقهية القديمة التي كانت تقسم العالم الى عالمين متناقضين ـ دار الاسلام/ دار الحرب ـ والمقاربة الصوفية التي كانت تمتح من معاني التواضع والتسامح والانفتاح على المخالف مهما كانت مخالفته.
ومنذ نشأة الحركة الإسلامية المعاصرة بمختلف مدارسها الفكرية وتعبيراتها التنظيمية واجتهاداتها السياسية وتنظيراتها الحركية وجدت نفسها وجها لوجه أمام هذه الإشكالية ومطالَبَة في نفس الوقت بموقف حاسم واستراتيجي تجاهها. لذا نجد محاولات جدية لمعالجة هذا الموضوع وإصدار مواقف فكرية وعملية تجاه ما يطرحه من تحديات، وهو نفسه ما انعكس على تجاربها الدعوية والسياسية. ولم يكن التحدي مطروحا على المفكرين الإسلاميين وحدهم فقط بل طال أيضا المفكرين العلمانيين لكونهم معنيين هم كذلك بالحوار والتواصل مع مخالفيهم من المذاهب والتيارات الأخرى. ولا يخلو الباب من كتابات متعددة لمفكرين علمانيين تناولت إشكالية العلاقة مع الآخر من زاوية الطرح العلماني ونظرته ومطالبه. ورغم بعد الشقة بين الفريقين من المفكرين والحركات وتعدد القضايا الخلافية بينهما، إلا أنه وبسبب تصاعد التحديات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية، تبلور وعي لدى كليهما بأهمية مد جسور التواصل لتأسيس حوار استراتيجي يستهدف محاولة ردم الهوة التي تفصلهما وتحقيق التوافق حول القضايا الخلافية. لكن ورغم الكثير من المحاولات التي بذلت في هذا الصدد لا تزال القضية بحاجة إلى جهود أكبر وجرأة أكثر في التعاطي الجاد مع الخلافات وبلورة آليات عملية لتدبيرها. وهذا ما يطرح على الباحث الأكاديمي تحدي تقييم تلك التجربة وتقديم قراءة نقدية فيها إسهاما في تطويرها والدفع بها إلى طريق النجاح.
عموما يحتفظ موضوع العلاقة مع الآخر بجديته وراهنيته وإلحاحه ويحمل أيضا في طياته الكثير من التساؤلات والمفارقات. وفي مقدمة تلك المفارقات، التناقض بين تعاليم الإسلام وواقع المسلمين. فبالرغم من أن التعايش وقبول الاختلاف والحوار بالتي هي أحسن ومد جسور التواصل مع الجميع معاني راقية أطر بها القرآن الكريم والسنة النبوية علاقة المسلم مع الآخر المختلِف، وقدمت السيرة النبوية نماذج رائعة لتجليات هذه المعاني في الواقع البشري وعلى هديها سار الخلفاء الراشدون، إلا أن التاريخ الاسلامي لم يتضمن فقط هذه الصور الناصعة المُشرقة بل ظهرت في مراحل منه دعوات لإقصاء الغير ورفض التعايش معه والمطالبة بالانغلاق على الذات بل وشيطنة هذا الآخر. وإن كانت هذه النماذج محدودة في التجربة الاسلامية إلا أنها تشكل دعامة لمنتقدي الإسلام الذين يحاولون إظهاره بمظهر التعصب وعدم التسامح. يضاف إلى ما سبق ما طرأ في واقع المسلمين من مستجدات فكرية وتحديات واقعية صارت تطالب العقل المسلم بإبداع أجوبة عنها بنَفَس تجديدي وفكر أصيل ينطلق من الأساس القرآني والنبوي ويستأنس بالتجربة التاريخية المشرفة للحضارة الإسلامية في التعايش مع الآخر والحوار والتواصل معه ويُراعي فقه الواقع وما يستجد فيه من قضايا وتحديات.
اترك رد