الاستاذ الدكتور الاخضر عزي: جامعة محمد بوضياف-المسيلة-الجزائر
طالعنا باهتمام كثيرا من المؤلفات والدراسات حول النفط ،منذ قرار تأميم البترول الجزائري عام 1971م، وما نجم عن ذلك من تنمية في الجزائر المستقلة ،كما ادركنا من خلال قراءات متعددة وبنظرات متقاطعة ما قيل بعد ذلك، من ان امريكا ليست دولة عظمى ذات ركائز استراتيجية فحسب، بل كونسرسيوم شركات متعددة الجنسيات يرأس مجلس ادارتها رجل يتربع سعيدا في البيت الابيض ويحمل لقب الرئيس وهذا الرئيس-كما قيل- مجرد اصبع مبلول يستخدم الكونسرسيوم لمعرفة اتجاه الأرباح، لدرجة ان احد الاطباء الامريكان صرخ وصرح قائلا:”ها قد انعم الله على امريكا برئيسي نفطي كبير !!!!(1990) ” وهذا تعبير عن اهمية النفط والصراعات الدائرة حوله منذ حقب بعيدة، وقد اقر بذلك تشرشل، حين اكد تأكيدا قطعيا:” من يملك نفط الشرق الاوسط يملك العالم”، كما بدأت اسئلة اخرى تطرح نفسها من نموذج:لماذا ينخفض الدولار؟ !!! ،ما هو الوباء او الداء الذي يخفيه تدهور الدولار؟لماذا الاصرار على سياسة الدولار الضعيف؟ ……ثم جاءت حرب الخليج(احتلال العراق للكويت والانسحاب منها تحت ضربات بلاد التحالف وعلى رأسها امريكا) ؛لكننا لم ندرك- للأسف-ان ام المعارك ليست في العراق ولا في الصراع بين البلاد العظمى على مناطق النفوذ، لكن على جبهات انهيار الدولار، ذلك ان قوة امريكا وهيمنتها العسكرية-اليوم- ليست هي كذلك على الجبهات الاقتصادية والمالية.كما علمنا ما كان يقترحه بعض من خبرائنا في الجزائر-خلال سبعينيات القرن العشرين- أمثال: اسماعيل محروق(وزير المالية في عهد بومدين) وعبد المالك تمام(وزير مالية في عهد بومدين كذلك)، لما اقترحا ربط العملات العربية بعملة عربية مستحدثة تحل محل الدولار، لتفادي محيط الهيمنة الدولارية والتحكم في سعر البرميل في حال وقوع الصدمات الخارجية، لكن ماذا حدث؟ دائما ردود الافعال الخفية لأمريكا وحلفائها،ثم جاء كتاب الاكاديمي الايراني الدكتور ابي الحسن بني صدر المعنون”النفط والسيطرة-دور النفط في التطور الرأسمالي الراهن على الصعيد العالمي-(بيروت:دار الحكمة،1980)، والمؤلف كان اول رئيس للجمهورية الاسلامية الايرانية بعد سقوط النظام الشاهنشاهي بداية1979م، وقد صيغ الكتاب وفق ابعاد استشرافية تنويرية بعيدا عن التنظير العلمي الكلاسيكي، حيث ذكر في الصفحة12 من الكتاب ما معناه:لقد فتحت التبعيةla dépendance ابواب بلادنا(ايران) امام منتجات وبدع الغرب وعمقت اغترابنا وحالة اللامساواة التي نعاني منها…… ان بلداننا قادرة على معالجة هذا الوضع من خلال عملية تغيير شاملة تشمل البنى الاجتماعية والاقتصادية وفق ذاتيتناEndogène ،كما تستهدف اصلا تطوير صناعتها وزراعتها اعتمادا على النفس بالدرجة الاساسبية”……لقد تذكرت هذه الفكرة وأنا اتابع محاضرة الباحث الجزائري حميد تمار(الملتقى الدولي-البويرة-ديسمبر2016) والتي انهاها بضرورة ملحة لخلق نموذج نمو يأخذ الابعاد الداخلية:Création d’un modèle de croissance Endogène(ينظر مداخلة المعني بعنوان:Du financement de la stagnation a la croissance Endogène. ، لقد بين الباحث الايراني بنو صدر بواقعية علمية استشرافية ان مؤلفه هذا-1980م- سيساعد في عملية التغيير الشاملة التي تحتاجها بلداننا الاسلامية عمليات التحرر الناجز من علاقات التبعية، لتستطيع بلداننا ان تقف على قدميها في هذا العالم المتصارع وتلعب دورا كبيرا في تقدم العالم وتقدم للبشرية بشارة عهد جديد(ص12، نفس المرجع) ولدى معالجته اسعار المنتجات النفطيةles produits petroliers(ص76، نفس المرجع) تعرض للطريقة المتبعة في حساب قيمة النفط الخام التي تجعل قيمته في الحقيقة اقل بكثير مما هو معلن؛ذلك ان هذه الطريقة تحاول تضخيم نفقات الانتاج وأسعار الاجهزة المستخدمة وحساب الاستهلاك والاحتياطي وأخيرا ابراز الضرائب المدفوعة للدول التابعة والتي تعود في الواقع بقنوات اخرى الى الشركات نفسها، ان هذه المحاسبة تجعلنا لا نعي شيئا عن حقيقة النهب لذلك ، وتحليل سعر البرميل يعطينا فكرة عن كيف يتوزع بين البائع والوسيط من خلال تحليل السعر كما يلي:نفقات الانتاج للبرميل الواحد،عائدات الدول المنتجة،الربح الصافي للشركة النفطية،النقل،نفقات التصفية،التوزيع والوسطاء،الضرائب المباشرة وغير المباشرة للدول المستهلكة والتي تشكل لوحدها انذاك حوالي:5.75دولار'(السعر محدد ب11 دولار للبرميل) اي ما يكافئ52.بالمائة……فمن يا ترى المتسبب في التلاعب بالأسعار؟ ويخلص المؤلف الى ان هناك عوامل ادت الى انخفاض سعر النفط الخام وانخفاضه النسبي المتزايد مقابل اسعار المنتجات النفطية. النفط يستخدم في جميع النشاطات الاقتصادية للدول الصناعية باعتباره مادة خاما ووقودا ومادة انتاجية اساسية وكل تغيير في قيمته ينعكس على اسعار جميع المنتجات الاخرى………………. ومن جهته وخلال سنة1982 اي بعد عامين من تداول هذا الكتاب، نشر كتاب اخر للباحث المصري فؤاد مرسي بعنوان:”ازمة مصر الاقتصادية الراهنة والطريق نحو الخروج منها” حيث يذكر في الصفحتين :16-17 ان البترول رأسمالCapital وليس دخلا بالمعنى العلمي ،لأنه لا يتجدد ومن ثم فان استهلاكه او تصديره استهلاك لراس المال وتقضي السياسة الحكيمة تحويله من رأسمال نافذ يولد ريعا لفترة محددة الى رأسمال متجدد ينتج دخلا، اي استثمار عوائده وليس استخدامها في تمويل الاستهلاك المحلي فضلا عن ضرورة ترشيد الاستهلاك المحلي نفسه حتى لا تواجه البلاد قبل نهاية الثمانينيات(ثمانينيات القرن العشرين) ازمة طاقة….. البترول ليس مصدر طاقة فقط لكنه مادة اولية ايضا وككل م
ادة اولية لا يدخل عليها عنصر العمل لا تولد قيمة مضافةValeur ajoutée..
كما صدر كتاب اخر تحت توقيع:”عفوا ايها النفط “من تأليف الدكتور اسامة عبد الرحمن(مجلة كل العرب، العدد286، الاثنين 15/02/1988 ،ص66 ) حيث يذكر الكاتب في مقدمة كتابه انه لا يمكن للنفط ان يظل محتفظا بالدور المحوري في التنمية ومن هنا يأتي هدف تنويع المصادر diversification ويطرح سؤال محوري مفاده: ترى ماذا يفعل العرب اذا نضب معين بترولهم الذي توهموا انه لن ينضب أبدا؟ !، يرد بأنه لا جدال في ان النفط يمكن ان يكون المركز الرئيسي لتنمية حقيقية شاملة تتمثل في حدها الادنى في قاعدة اقتصادية منتجة معطاءة قادرة على النمو بمنظور التطور الذاتيEndogene وعلى مواجهة اية هزة اقتصادية وثمة امثلة لدول استطاعت رغم ندرة مواردها الطبيعية ان تقف في مصاف الدول الكبرى وكان المرتكز الفعال وراء كل ذلك ارادة جادة volonté réelle في التنمية وإصرارا على توجيه الموارد المالية والبشرية توجيها سليما ضمن استراتيجية تجد طريقها الى التطبيق وتواجه كل متطلبات التنمية الحقيقية الشاملة، ثم يطرح سؤال في نهاية كتابه ،مضمونه: الم تكن للعرب -ايها السادة -حضارة مزدهرة بدون النفط؟ هذا هو البترول بكلماته السحرية منذ اكتشافه، هذا هو البترول الذي حولته السياسات الحمقاء من نعمة موارد الى نقمة موارد،……
عرضنا بعض افكار هؤلاء الكتاب لتبيان أن الامة التي لا تعرف تاريخها لا تحسن صياغة مستقبلها واستشرافه لان معرفة التاريخ يفيد في حوكمة المعلوماتGouvernance de l’information بشتى صورها وأنماطها، فللمعلومة دورة حياةCycle de vie يجب اخذها في الحسبان في كل عمل توقعي استشرافي لبعث سياسات الاقلاع بما يتوافق ومتغيرات داخلية وأخرى خارجيةExogène حتى لا تبقى بلادنا رهينة اللوغاريتم المحير لملفات التنمية المستدامة في اطار اقتصادي تنوعي يستفيد من كل الموارد وفي نطاق مشاركة جوارية واعية لا تقبل التفاعل السلبي مع ما يعرف بمؤشر البؤس او الشقاء(يعادل مؤشر الشقاء او البؤس:التضخم في نهاية السنة+اسعار فوائد الاقراض البنكي+معدل البطالة-التغير الحاصل في الناتج الوطني الفردي) ، تجدر الاشارة الى ثراء ساحة النشر في الجزائر ولا تخلو من كتب تعالج الريع البترولي وأسس الاقلاع وهي مؤلفة من طرف باحثين زاوجوا بين الخبرة التلقينية المدرسية والممارسة السياسية في دواليب الدولة الجزائرية مثل: عبد الرحمن مبطول بمداخلاته الرائدة حول نقاط الارتكاز في الاقلاع والتي اختزلها في خمس اشكاليات سحرية:قيمة الدينار الذي يوجد اصرار على بقائه مخفضا مع نمو كبير للصرف الموازي دون تبرير موضوعي لذلك،القرض الوطني ومحاربة السيولات الموازية،المحيط غير الرسمي والتهرب الجبائي حيث ان 99 بالمائة من الايرادات الجبائية تتأتى فقط من 12 ولاية وهناك 36 ولاية لا تساهم إلا بواقع 1 بالمائة في اجمالي الموارد الجبائية،تغييب البنوك الاسلامية،لامرونة النظام الجبائي وإشكالية الجباية البتروليةFiscalité pétrolière
اضافة الى كتابي الخبير مصطفى مقيدش المعنونين:
Mustapha,Mekideche :l’économie algérienne a la croisée des chemins(Repères actuels et éléments prospectifs),Dahlab,Alger,2008
وهو يتساءل في الصفحة25 عن مدى وجود متغيرة جزائرية او تشكيل جزائري للمرض الهولندي وضرورة التخفيض من هذا المرض مع الاشارة الى انه خلال سنة2004 لوحدها كان هناك حفر لحوالي بئرا، منها 50 بالمائة في اطار الشراكة ،كما يستشهد بالمقولة الشهيرة:” الجزائر تشكل حالة خاصة في افريقيا البترولية ص23-” ثم يستدرك ما قاله زميله عبد اللطيف بن اشنهو:”جزائر اليوم تبذر بصفة جماعية مواردها الطبيعية في الاراضي والمياه والطاقة وفي المجالات التي يمكن ان تضمن للأجيال القادمة سعادتها” وقد اسمى بن اشنهو هذه النظرة :” ثمن المستقبل”le prix de l’avenir -ص21 من كتاب مقيدش ،كما يذكر مشاكل التسيير النقدي والمالي من خلال محاولة تفسير جدلية من الندرة الى الفوائض وهو –حسبه- مشكل معقد في طريقه الى الحل كما عالج اشكالية السياسات العمومية الداعمة للنمو ومدى وضوح تأثيراتها على الاقتصاد والمجتمع. اما كتابه الثاني فقد اختار له عنوان:Résilience et désordre de l’économie algérienne-une décennie de crises et de croissance molle,Dahlab,Alger,2016 وقد بدا في تحرير كتابه على غير عادته بالإشارة وفي فصل كامل الى مسالة النظرية والتاريخ الاقتصادي لتتبع مسارات التنمية وإبراز النجاحات والإخفاقات المسجلة وانهى تحليلاته بالإشارة الى الاقتصاد القائم على المعرفة للانتقال من النماذج والقوالب الجاهزة الى الممارسات الجيدة وتبني الحوكمة la gouvernance في تسيير الشأن الاقتصادي الجزائري وخاصة مشكلة المنظومة التربوية ومخرجات التعليم بمختلف مراحله.
كما نشر الباحث حميد تمار سلسلة من الكتب بأبعاد الاستشراف والمستقبليات، بعيدا عن واجبات التحفظ الاكاديمي الصرف، ومنها على سبيل المثال:
Hamid A.Temmar :l’économie de l’Algérie-les stratégies de développement(1970-2014),OPU, Alger,2015
Hamid A.Temmar :l’économie de l’Algérie-la gouvernance économique, OPU,Alger,2015
وهو مرجع علمي ،عولج فيه موضوع الحوكمة الجزائرية ،مع اظهار ردود الافعال الذاتية في منظومة القيم الجزائرية، خاصة مع تفشي بعض اوبئة التسيير ،مثل ظاهرة الرشوة والفساد المالي والإداري وغياب المساءلة المسئولة في ذلك المضمار، وكان لأهمية اقامة بنوك المعلومات وحوكمتها في المكان والزمان مكانة محورية دالة.
اضافة الى ما ذكر، خرج الباحث الجزائري اسماعيل قومزيان عن صمته وتحفظه العلمي ونشر كتابا تحت عنوان:
Smail,Goumeziane :l’Algérie et le nouveau siecle,Edif,alger,2013
وقد تناول في سبعة فصول مرتبة مسائل تتعلق ب:ازمة الاقتصاد العالمي، الجزائر-الاقتصاد والسياسة- مبرزا اهمية مناقشة ما بعد البترول،مسالة الاسلام السياسي، موضوع الشباب ورهانات التعبئة،موضوع العلاقات الجزائرية الفرنسية، موضوع الجزائر وأوروبا والحوض المتوسط والعلاقة مع أفريقيا، وأخيرا موضوع :من التحرير الى الحريات. مع الاشارة الى ان هذا الباحث كان استاذا جامعيا سابقا(معهد العلوم الاقتصادية-جامعة الجزائر-حقبة سبعينيات القرن الماضي) ووزيرا للتجارة في الجزائر، وله من الدراسات الاستراتيجية بأبعاد فكرية متميزة ما يكفي لضمان تكوين اكاديمي مكيف،
كما ظهر كتاب الباحث الجزائري عبد الرحمن الحاج ناصر(محافظ سابق لبنك الجزائر المركزي) والمعنون
La Martingale algerienne,Reflexions sur une crise,editions barzakh,alger,2011
وقد عاد المؤلف -رغم كينونته الرياضية القياسية -الى التاريخ للاستلهام، ورأى في “المقامرة الجزائرية” بعد تحليل تجلياتها؛ انه لا بد من ربطها بالأزمات، لتتبع التجربة والتأملات الواجب تثمينها في سبيل اقلاع اقتصادي نوعي ومستدام، وقد جاء كتابه في اربعة اجزاء:المعادلات الأساسية ،الصيغة السحرية،الشروط الضرورية،النتيجة،وقارئ الكتاب(تم ترجمته من طرف نفس دار النشر) يستشف ان الباحث صاغ مجمل افكاره وفق مقاربات براغماتية احيانا ودوغمائية في منافذ اخرى، بحيث يقدم رؤاه بكل شفافية معتزا بالذين عمل معهم في دواليب التسيير الرسمي للاقتصاد الجزائري موضحا الكوابح والعوائق التي عرقلت مسارات ابداعاته في التسيير المالي والنقدي خاصة بعد اقرار قانون النقد والقرض الصادر عام 1990م، كما يبين بكفاءة علمية نادرة العلاقة بين اسعار البترول وتقلباتها وتاثير ذلك على ميزان المدفوعات ومنه احتياطي الصرف الاستراتيجي ومسائل صرف الدينار الجزائري وخوف بعض المتعاملين من تحويلية الدينار الجزائري وكذا اقامة صندوق سيادي وعراقيل تجسيد لغياب الثقافة المقاولاتية التي هي احدى سبل الاقلاع الاقتصادي المستدام.
رغم وجود نخبة جزائرية مهاجرة في جامعات كندية وأوروبية، تعمل ضمن فرق التفكيرthink tank ، ويوجد ضمنهم رؤساء مؤسسات اقتصادية منتجة للثروة والمعارف تعمل على توظيف المعرفة بشكل مكثف، إلا انهم لم ينسوا الاهتمام بدراسة مكانة وقدرات وطنهم، وهكذا نجد الدراسات المعجمية الاستشرافية التي تم جمعها من طرف الخبير المهاجر: الطيب حفصي ،تحت عنوان كبير: (التنمية الاقتصادية للجزائر(تجارب وآفاق)
Taieb,Hafsi :le développement économique de l’Algérie (expériences et perspectives),éditions casbah,alger,2011
جاء الكتاب تارة على شكل استقراءات وأخرى على شكل استنباطات ؛قدمها باحثون جزائريون يمارسون مهام التدريس والبحث والخبرة في الجزائر وفي بلاد اوروبية وأمريكية وخليجية مثل:
بن بيتور احمد،عبد الرحمن مبتول،ناجي سفير،الطيب حفصي،عبدو عتو،كمال خياري،بوعلام عليوات، احمد بن سعادة،ام الخير تواتي، مرتضى زبوري،مهدي عباس، ارزقي الوناس،بشير معزوز ونور الدين بلحسين. وقد جاءت الدراسة المعجمية في خمسة أبواب وضعية الاقتصاد الجزائري،الاسس النظرية للأفكار والسلوكيات،العناصر المحركة للتنمية الاقتصادية،مقاربات حول تنافسيات البلدان من حيث عوامل النجاح المفتاحية، وأخيرا: نحو عقلانية في تسيير الاقتصاد الجزائري.
بعد مخاض عسير على مدى اكثر من ربع قرن ،جاءت بشرى ميلاد المجلة الجزائرية للاستشراف والدراسات الاستراتيجية Revue Algérienne de prospective et d’études stratégiques الصادرة عن المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة،جانفي- مارس2016 ،العدد الاول،136 صفحة، حيث تضمن العدد المواضيع التالية:
1-رفيق بوكلية حسن:استشراف الاقتصاد الجزائري(2010-2030)-بعض النتائج الاولية.
2-مراد برور:الساحة البترولية والغازية الدولية-شكوك وريبة ورهانات وتحديات تواجه الجزائر.
3-وردية مومو:محددات وعراقيل تدويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العائلية الجزائرية.
4-علي بن ثابت:اخلاقيات التنمية المستدامة-بعض عناصر التقييم والتثمين.
5-محمد بونعامة: النظام الوطني للمعلومات في مواجهة متطلبات العولمة.
6-بغداد شعيب ونور الدين منقر:اشكالية التحويلات الاجتماعية في الجزائر بين متطلبات الحفاظ على السلم الاجتماعي والمحددات المالية.
هذه شذرات عن عينة مختارة من المؤلفات التي عالجت الاقلاع الاقتصادي في الجزائر- دون البقاء ضمن دائرة الشك والارتياب والتردد.
مما لاشك فيه ان الهيئة البحثية لمخبر السياسات التنموية والدراسات الاستشرافية بجامعة البويرة يدركون حساسية الموضوع وأهميته الاستراتيجية في البحث والاستشراف؛ فجاء موضوع المؤتمر الدولي واضح المعالم ومتوازن منهجيا:”متطلبات تحقيق الاقلاع الاقتصادي في الدول النفطية في ظل انهيار اسعار المحروقات”، وقد جاءت الديباجة معبرة بكلمات مقتضبة يمكن ايجازها في:”تواجه بلدان الريع النفطي خللا تنظيميا وهيكليا في مدونة الاقتصاديات النفطية في راهننا ،مما سينجر عنه مستقبلا تحديات صعبة ومخاطر عميقة نتيجة كل صدمة خارجية وهذا ما يفضي الى تراكم اعباء اضافية غير مرنة في هذه الاقتصاديات التي تتأثر بالعوائد النفطية وهو الامر الذي يتطلب من هذه الدول تسريع خطط الاصلاح الاقتصادي الحكومية باتجاه تقليل الاعتماد على تصدير موارد الطاقة وتوجيه اهتمام خاص نحو التطوير والإبداع التقني والصناعي والخدمي وتسيير الكفاءات والسيطرة النوعية وغيرها من البدائل التي تكفل ابراز اقتصاد متنوع قائم على خلق الفوائض.
وهكذا كانت المحاضرة الاولى المقدمة من نصيب الباحث حميد تمار بعنوان” من تمويل الركود الى النمو الذاتي الداخلي” Du financement de la stagnation a la croissance endogène
حيث ان الجزائر- حسبه -تمر بوضعية ازمة خطيرة جدا وهناك اجراءات جذرية تواجه البلد لأجل انعاش وإعادة انبعاث في الاقتصاد: مطالبا بإصلاحات عميقة ،كون الاصلاحات الراهنة لا يمكن ان تؤدي إلا لتحقيق الاستقرار في الرصيد الموازنيSolde budgétaire نظرا لتبعية الاقتصاد ودورانه في فلك الريعية وكذا الاسواق العالمية ومن بين تأثيرات هذه الازمة على الاقتصاد الجزائري يبدو ذلك الانقلاب والانعكاس حول تغير مؤشر النمو خلال السنتين الاخيرتين والذي تحول من الجانب الموجب الى الجانب السالب(2012-2014) وليس للحكومة إلا تحمل هذه الصدمة في انتظار الاستقرار الذي يمكن ان يحدث في الاجل المتوسط اذا امكن تطبيق الاصلاحات المقترحة في ظل غياب اصلاحات عميقة ذات طابع اقتصادي كلي ،كما تساءل حول امكانية انتظار وصول سعر البرميل الى 130 دولار؛ حتى نتمكن من الاقلاع ؟؟؟؟؟والبلاد تعاني من عجز في الميزانية وفي احتياطي الصرف وتوجد في وضعية تطبيق تعديلات موازنية تظهر وانها خطيرة في مجال استقرارها السياسي والاجتماعي.كما شرح اسباب انخفاض الدينار بالتبعية للدولار وغياب المرونة، وحسبه فان هناك بلدانا منتجة للبترول قد تأثرت بنسب ضعيفة من هذه الضغوط نظرا للمرونة التي تتميز بها عملاتها في الاسواق المالية الدولية على غرار روسيا فنزويلا والسعودية ،فالدينار الجزائري هو- على غرار اقتصادنا -مرتبط ارتباطا كليا بالأسواق المالية وبالدولار وهناك بلدان عرفت كيف تضبط هذه التبعية عبر تقييم افضل لعملاتها وكذلك الانفتاح على اسواق جديدة. كما نبه الى كون الجزائر مطالبة بإصلاح نظامها الاقتصادي من خلال تقليص الواردات عبر تنمية وتطوير مناخ الاعمال فيها وكذا الاستثمار في المعارف وان تكون لها هياكل متكاملة وكذلك اضافة نمط جديد للحوكمة؛ مما يسمح بمشاركة المجتمع المدني ومراجعة اشكال الرقابة والخطط الموازنية وعلى الواردات وإدراج سعر الصرف والحفاظ على شروط الاستقرار والنمو الداخلي الذاتي Croissance endogène،نذكر من جهتنا أن النمو ذو المنشأ الداخلي يقوم فكريا ومعرفيا على ما يعرف بنظرية النمو الداخلي Théorie de la croissance endogène ، وهي نظرية علمية بخلفيات فلسفية ،تهدف الى تفسير النمو الاقتصادي ،انطلاقا من عمليات وقرارات اقتصادية جزئية وحدوية، وقد ظهرت هذه النظرية كرد فعل على نماذج النمو الخارجيExogène وخاصة نموذج صولو Modèle de Solow الذي يبني مرجعيته التأسيسية لنموذج النمو الاقتصادي على التطور التكنولوجي ،دون شرح للأصل الفكري المنهجي لهذا التطور والتطوير، كما ان اول نموذج للنمو الداخلي قد تم نشره من طرف الباحث Paul Romer عام 1986 في مقاله الموسوم Increasing Returns and Long Run Growth.
كما تناول الباحث بشير مصيطفى، صاحب كتاب: رائحة النفط، موضوع”مفاتيح الاقلاع الاقتصادي في رؤية الجزائر 2030″ ، وقد بدا في عرض نظرته بترديد عبارة :من استشرف ربح المستقبل والحاضر ومن لم يفعل خسرهما معا، كما اماط اللثام على وجود 14 قطاعا حيويا للنمو ،من بينها :الصناعة، الفلاحة،الصيد البحري،الطاقات الجديدة والمتجددة، وان كل ولاية جزائرية تتميز بنواة معلومات دقيقة تسمح بالتنبؤ والاستشراف مطالبا بضرورة تبني المدن الصناعية الذكية بدل المناطق الصناعية ،اما الباحث عبد القادر سماري “رئيس النادي الاقتصادي الجزائري” فقد عنون مداخلته :”شروط نجاح البرامج الاقتصادية للنهوض بالاقتصاد الجزائري مركزا على اهمية الاهتمام بأربع شرائح:الباحثون والخبراء -خاصة الطلبة- رجال الاعمال وليس المال-Créateur de richesse et non ramasseursالاداريون المسئولون-عموم المواطنين الذين ينبغي ان يتميزوا بالحس الاقتصادي والتنموي، ثم تساءل عن اي نموذج يمكن تبنيه ،موضحا مظاهر ومؤشرات نجاح اي نموذج والتي اختزلها في نقاط محورية كالتالي:
1-رفع الدخل القومي العام؛
2-تراجع نسب البطالة؛
3-ضمان الحد الادنى لمعيشة ورفاهية المواطنين؛
4-تراجع نسبة الفقر؛
5-رفع الصادرات وليس الواردات؛
6-تنويع المداخيل؛
7-استقرارية العملة الوطنية؛
8-الاستقرار الاجتماعي والأمني؛
9-استغلال الطاقات المادية والبشرية؛
10-اقامة المؤسسات المنتجة وتطويرها وإحيائها مع رفع نسب الاندماجTaux d’intégration الى 40 في المائة على الاقل؛
وأخيرا تجسيد الثقة والحرية المسئولة، كما اشار الى وجود سيولات بأكثر من 9000 مليار دج خارج القطاع الرسمي،ووجود اليد العاملة –مخرجات التكوين المهني مثلا- كما شدد على ضرورة التكامل بين المناطق داخل البلاد.
قدمت محاضرات قيمة من طرف باحثين من الجامعات الجزائرية والعربية والأوروبية تناولت النقاط الواردة في بروسيدينغ المؤتمر الدولي، كما كانت المناقشات العلنية راقية وبدون تشنجات او مبالغات فكرية، يبقى دور ترجمة كتب الخبراء الجزائريين وتقديم افكارهم وخبراتهم امرا لا مزايدة فيه، حتى تتطور الابحاث في ميادين العلوم الاقتصادية بشكل موضوعي ورزين.
بعد يومين من كثافة النشاط العلمي الاكاديمي،تشكلت لجنة الصياغة بإشراف الدكتورين: علام عثمان وفرج شعبان مدير مخبر السياسات التنموية والدراسات الاستشرافية ،وتم تبني التوصيات التالية:
توصيات الملتقى
– على الدول النفطية -عموما والجزائر على وجه الخصوص -وضع خريطة طريق واضحة المعالم؛ لبناء اقتصاد خارج قطاع النفط، تبدأ بإتباع سياسة رشيدة في الإنفاق ومبنية على إدراج سياسة الأولويات في الأجندة الحكومية.
– ضرورة تجسيد إرادة سياسية داعمة للتنويع الاقتصادي للوصول الى للإقلاع من خلال محاربة كل أشكال الفساد والهدر والتبذير في الموارد، مع اعطاء أولوية كبرى لترقية الاستثمار المنتج خارج قطاع النفط.
– الإصلاح المؤسسي عموما والقطاع العام على وجه الخصوص ورفع كفاءة هذا الأخير وإنتاجيته، اعتبارا أن ذلك سيسهم في مكافحة الفساد والحد من تأثيراته المباشرة وغير المباشرة وتحسين بيئة الأعمال بحكمانية واقعية.
– العمل على حصر الموارد الطبيعية في المنطقة وإعادة دراستها إحصائيا-منظومة المعلومات الجغرافية- لإقامة قاعدة بيانات للخطط التنموية المستقبلية المبنية على التنويع، وايلاء اهمية للتخطيط الاستراتيجي واليقظة والابتكار.
– اعتماد وتبني نماذج للتنمية لا مركزية، ومنح الولايات والبلديات حرية أكثر في اتخاذ القرارات الاستثمارية والبحث عن الموارد لتمويل التنمية المحلية بناء على الإمكانيات المحلية المتوفرة.
– تنمية الموارد البشرية في جميع القطاعات بالاعتماد على جودة مخرجات التعليم والتكوين وبناء القدرات واكتساب المهارات.
– الاستفادة من تجارب الدول المشابهة لظروف الاقتصاد الجزائري والتي غيرت منهج اقتصادها من نهج الاقتصاد الموجه البيروقراطي إلى اقتصاد السوق المنتج وليس اقتصاد البازار.
– تبني سياسة التنويع الاقتصادي عند وضع البرامج والخطط التنموية، وتنفيذ القياس الدقيق والمراقبة الصارمة والمرنة-في ان واحد- لرصد التنويع الاقتصادي وتقويم دوره في نجاح السياسات التنموية.
– القيام برصد ووضع استراتيجيات واضحة للتنويع وآليات التخفيف من حدة التقلبات الاقتصادية، والآثار غير المباشرة وعدم اليقين والتحولات المقلقة لدورة الأعمال الاقتصادية.
– إصلاح الخلل في الجهاز الإنتاجي ومن ثم وجوب الاستثمار في الأصول الإنتاجية المعمرة بطريقة مثلى، من خلال بناء قاعدة اقتصادية بديلة- لصادرات النفط الخام- مدرّة للدخل بشكل مستدام.
– العمل على رفع المعدلات الإنتاجية بتقييم معدلات الأداء في كل قطاع من القطاعات الإنتاجية والخدمية، ومن ثم تحسين كفاءة المواد المستخـدمة في الإنتاج، بما يكفل تحقيق علاقة عضوية بين قطاعات الاقتصاد الكلي.
– العمل على تدعيم القطاعات الاقتصادية – لاسيما القطاعات المنتجة- بالعمالة ورأس المال اللازمين لها، وتطوير تقنيات ومعارف جديدة؛ والبحث عن النمو المتوازن.
– فرض رسوم جمركية إضافية على المنتجات المستوردة التي لها بديل محلي ومساعدة المنتجين المحليين على زيادة تنافسيتهم من خلال خفض الضرائب على الأنشطة الإنتاجية؛
– إشراك القطاع الخاص- بشكل أكثر فعالية -في تنفيذ إستراتيجية إحلال الواردات؛ ووضع شراكات حقيقية بينه وبين القطاع العام، اعتمادا على المنافسة الحرة والشفافية وخلق روح المبادرة لدى الشباب.
– إرساء وتفعيل مبادئ الحوكمة وخصوصا حوكمة الشركات Gouvernance des entreprises في مؤسسات القطاع العام والخاص لتحسين أدائها وتحضيرها لمرحلة الانفتاح التجاري الشامل؛
– خلق وتطوير مشاريع التصنيع الزراعي خاصة في ميدان الصناعات التحويلية، من خلال توفير الدعم الكافي والتجهيزات اللازمة للنهوض بقطاع السلع الغذائية وضمان الأمن الغذائي بدل الاكتفاء الذاتي .
– اعتماد الأفضلية للسلع المحلية كمعيار أساسي في ميدان مشتريات الحكومة والصفقات العمومية؛
– إنشاء صناديق الثروة السيادية في الجزائر والاستفادة من الوفرة المالية في خدمة الاستثمارات المستدامة المنتجة،
– استثمار الفائض من الثروة في توظيفات مختلفة ومتعددة ( كشراء أذونات خزائن ، الاستثمار في العقارات ، في الأصول المالية .. الخ) لضمان إيراد مستقبلي مع الاخذ في الحسبان لاشكال المخاطرة.
– تزويد الصناديق السيادية بتقنية ملائمة للتسيير تتمثل في : الحوكمة الرشيدة والتوزيع والتصنيف الواضح للمسؤوليات في هيكل الإدارة ، والاستقلالية في العمل ، والشفافية التي تمكن من مراقبة أنشطتها.
– العمل على نشر ثقافة بيئة الأعمال والإبتكار –ثقافة المؤسسةCulture de l’entreprise -لاسيما بين الشباب وتبني الاقتصاد المبني على المعرفة بوصفه أحد الأدوات الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة.
– دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بوصفها أحد المداخل الرئيسية لتحقيق التنويع الإقتصادي الذي يعد ركيزة للنمو الاقتصادي المستدام، وإخراج المؤسسات الاقتصادية من رؤيتها ونمطها التقليدي القائم على الاستيراد والتجارة إلى الإنتاج والتغلغل الى منافذ الأسواق .
– توفير البيئة التشريعية والمؤسسية التنافسية المناسبة لجذب الإستثمارات الأجنبية المباشرة.
– العمل على إنشاء المدن المعرفية والتوجه نحو الصناعات المعرفية الهادفة إلى تعزيز جهود التنويع الإقتصادي.
اترك رد