عبيد خليفي: باحث جامعي – مركز البحوث في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة- تونس
تشهد تونس هذه الأيام حالة من التوتّر والإنقسام حول ملف حارق وهو “عودة الجهاديين من بؤر التوتّر إلى تونس”، غير أنّ هذا التوتّر صار تشنّجا مرفوقا بجدل عنيف إن لم نقل هو الجدل العقيم الذي سيقسم التونسيين مرّة أخرى إلى فريقين: فريق يدعو إلى رفض هذه العودة مطلقا، وفريق يطرح مفهوم “التوبة والغفران”، وما بين الفريقين مجال شاسع لإستحضار الفتنة بين التونسيين وتهيئة لظروف الخصام وربّما الإنفصال والصدام، يبدو الملف في حد ذاته خطيرا إذا أدركنا أنّ تداعياته تتجاوز بعده الوطني في علاقة بالترتيبات الإقليميّة والدوليّة وبداية تغيّر الإستراتيجيّة الدوليّة والتطورات الميدانيّة في سوريا والعراق واليمن من جهة، وفي علاقة بالمشروع الجهادي العالمي الذي سطّره كبار منظّري الحركات الجهادية من جهة ثانية.
تتحدّث الأرقام شبه الرّسميّة عن 3 آلاف مقاتل تونسي إلتحقوا بالتنظيمات الجهاديّة في سوريا، مع وجود تقديرات غير رسمية لعدد 5800 جهادي تونسي موزّعين بين مختلف مناطق التوتّر في العالم، كما تفيد بعض المؤشرات بمقتل وأسر قرابة الألف جهادي، وعودة 800 آخرين يخضعون إما للسجن أو المراقبة الأمنية الدّائمة، وهذه الأرقام تجعل من تونس متصدّرة لعقيدة “الهجرة والجهاد”، وهي العقيدة التي وجدت دعما دوليّا وإقليميّا شاملا دون إستثناء إبّان الثورة السورية والمحنة السنيّة في العراق، ولم تكن ليبيا سوى “دار الضيافة” للتدريب والتسفير والعبور، وإزاء هذه المعطيات يدخل ملف الجهاديين العائدين إلى تونس ضمن الترتيبات الجديدة للمشرق إمّا بوضعهم شوكة دائمة في أطراف المجال السوري لتحسين شروط التفاوض مع النظام السوري، أو لإعادتهم نحو أوطانهم والتحضير لنزاع جديد يستهدف مجال جيوسياسي جديد ربّما يكون المغرب العربي وتحديدا الجزائر، وهنا لا بدّ من إستحضار تجربة الأفغان العرب بعد عودتهم من أفغانستان عند الإنسحاب الروسي سنة 1989، حين تجلّى في النقلة النوعيّة لتجربة الجهاد في السعودية ومصر والجزائر واليمن متجلية في فروع تنظيمات جهادية متنوعّة شكّلت في فترة لاحقة فروعا لتنظيم القاعدة في هذه البلدان.
إن الإتهامات المتبادلة بين الأطراف السياسية في تونس حول مرجعية إلتحاق التونسيين بتجربة الجهاد في المشرق تجعل الملف أكثر خطورة من حيث غياب وحدة الموقف في وضع تصوّر شامل وإستراتيجيّة وطنيّة لمعالجة هذا المأزق الذي قد يطوّر الخلاف نحو الصدام، وفي إعتقادنا لا بدّ من تناول هذا الموضوع ضمن المرجعيات المتاحة من حيث المفهوم، ومن حيث المقاربات التشريعية والحقوقية.
إن المصطلح الذي يشاع اليوم والذي جاء على لسان رئيس الجمهورية التونسية هو “توبة المقاتلين وعودتهم”، وهو تصريح إختباري خلق ضجة جعلته يتراجع عن المفهوم ليطرح مسألة المحاسبة والمعاقبة، وفي كلا التصريحين سقط في المحضور السياسي وغابت عنه العقلانية السياسيّة، فليس من الوارد إستحضار مفهوم التوبة بإعتباره مفهوما دينيّا عقائديّا يحدّد العلاقة بين الإنسان وخالقه في تجربة الخطيئة والمغفرة، بل إنّ مفهوم التوبة يتنزّل في السياق الفقهي العقائدي الذي لا يمكن للسياق السياسي أن يستوعبه في وارد الدولة المدنيّة، كما يجب الفصل بين مفهومي عودة المقاتلين ومفهوم المراجعات، فعودة المقاتلين مرتبطة بفشل آني للمشروع الجهادي في سوريا والعراق وليبيا، ويمكن لهذا المشروع أن يستعيد المبادرة كلّما سنحت الفرصة بتغيّر الموازين الإقليميّة والدوليّة، أما مفهوم المراجعات أو ما سمي بترشيد العمل الجهادي فقد إرتبط بتجربتين أثمرت كتابات جدليّة متميّزة أبرزها: مراجعات الجماعة المصرية في سجن العقرب، وصدرت في كتاب تحت عنوان “مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية ونظرة شرعية” في أربعة أجزاء، ومراجعات الجماعة اللّيبيّة المقاتلة أثناء وجودهم في سجن بوسليم بتشجيع من سيف الإسلام القذافي، وصدرت في كتاب عنوانه “دراسات تصحيحيّة في مفهوم الجهاد والحسبة والحكم على النّاس”، وقد تصدّى كبار منظري الحركات الجهاديّة لهذه المراجعات ووسموها بمفهوم “التراجعات” لعلّ أبرزها ردود الدكتور أيمن الظواهري وأبو يحي اللّيبي وأبو مصعب السوري ويوسف العييري…
إنّ تلك المراجعات كانت تحت ضغط السجون والتعذيب، بحثا عن الخلاص، في حين رأت السلطة السياسية المصرية واللّيبيّة خلاصا من المواجهة الدائمة مع الحركات الجهاديّة، فهي أشبه بالهدنة بين الطرفين تكون المراجعات مبرّرا وتسويغا لهذه التهدئة بالمخاتلة بعد أن أنهكتهما المواجهة المسلحة، ولم تكن المراجعات قناعة عقائديّة فكريّة لأن رموزها إنسحبوا من المشهد الحركي أمام أجيال جديدة من منظري الحركات الجهاديّة، وقد إنحصرت هذه المراجعات بين نخبة محدودة ممّن شارك في كتابتها وتحريرها بأدوات لم تقنع عقائديّا، ولم تستطع أن تهدم الأسس العقائدية للصحوة الجهادية في ظل الإستبداد والهزيمة التي تعيشها الأنظمة العربية بتواطؤ غربي، بل إنّ أغلب من تمثّلوا المراجعات العقائديّة في السجون المصرية واللّيبيّة سرعان ما عادوا وإلتحقوا بالتنظيمات الجهاديّة سواء مع تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلاميّة بعد ثورات الربيع العربي.
إنّ السياق الجيوسياسي للمراجعات وترشيد العمل الجهادي يختلف جذريّا عن مصير الجهاديين العائدين إلى أوطانهم مُحمّلين بالخيبة والفشل بعد تهاوي حلم الدّولة الإسلاميّة في العراق وسوريا، فهؤلاء سيعودون متسلّلين هاربين من بطش السجون وتنكيل الأجهزة الأمنية، أو سيبحثون ملاذ آمن بين ليبيا والجزائر ومالي والنيجر حيث تسهل الحركة وتخفّ الرقابة، ومهما يكن فإنّ عددا لا بأس من الجهاديين يقترب من 560 قد عادوا بالفعل إلى تونس، منهم 260 في السجون والبقية تحت المراقبة الجبريّة، لكن الخطر المحدّق بتونس يتمثّل في إفتقار الأجهزة الأمنية والإستخباراتية لكافة المعطيات عن الجهاديين التونسيين في بؤر التوتّر، ولعلّ عودتهم متسلّلين ستمنحهم حريّة للحركة والفعل بإعتبارهم أشخاصا مجهولين لدى الأجهزة الأمنية، ومن المحال القول بأنهم عادوا “تائبين”، ولكنهم عادوا هاربين يائسين.
وعلينا الإشارة إلى أنّ أكثر الدول المغاربيّة متابعة لموضوع الجهاديين العائدين هي دولة الجزائر، فالنظام الجزائري الذي عانى ويلات العشرية السوداء في التسعينات ظل يتابع مجريات الرّبيع العربي وصعود الحركات الإسلاميّة للسلطة، على الأقل لدى الجارتين المغرب وتونس، ولا يخفي النظام الجزائري تخوّفاته من مؤامرة دوليّة وإقليميّة لتحريك المشهد الجزائري نحو الفوضى الدمويّة كما الحال في ليبيا القريبة وسوريا البعيدة، لذلك حاول النظام الجزائري توجيه الحكّام الجدد في تونس بضرورة مراعاة الخصوصيّة الجزائريّة في التعامل مع الإسلاميين، وظلّ محافظا على علاقات طيبة مع النظام السوري، كما حاول تحقيق تسوية سياسيّة في ليبيا تحت إشرافه، ولذلك لم يكن النظام الجزائري مرتاحا لمفهوم التوبة الذي أطلقه الرئيس التونسي خلال زيارته لأوروبّا، فأسرع بإستدعاء الرئيس التونسي في زيارة قصيرة جعلته يتراجع عن تصريحاته السابقة، إنّ الجزائر تدرك جيّدا أنّ الجهاديين العائدين إلى تونس سيلتحقون مباشرة بالجبال الحدودية بين تونس والجزائر، وهو ما يثير الرعب في إمكانية توظيف هؤلاء المقاتلين في حرب إنهاك وتدمير للقدرات الجزائريّة.
ليس من حقّ أي طرف في تونس أن يرفض عودة الجهاديين إلى تونس، لأنّ الدستور التونسي الذي كتبته الثورة يبدو صريحا في هذه المسألة: “يحجّر سحب الجنسيّة التونسيّة من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن” (الفصل 25، الباب الثاني: الحقوق والحريات)، وهذا الفصل يتمتّع بحصانة تامة عن أي تعديل أو تغير أو إلغاء من خلال الفصل 49 من نفس الباب: “لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدّستور”، فالذين يندفعون مطالبين بنزع الجنسيّة عن الجهاديين ومنعهم من العودة إلى تونس يستخفّون بالدستور كأحد مكاسب الثورة التونسيّة وهم يدعون مباشرة لخرقه ونسف أهم باب في الدستور يتعلّق بالحقوق والحريات، ويبدو أنّ بعض وسائل الإعلام دخلت في حملة تهييج ضد العائدين وتعبئة للرأي العام ممّا قد يسهم في عزلتهم وجعلهم قنابل موقوتة في غياب المعالجة الجديّة للملف.
إنّ حجم الملف يكاد يكون أكبر من قدرات الدولة التونسيّة من حيث المعالجة، فلن يكون السجن والتنكيل بالعائدين حلاّ سحريّا وجذريّا للجهاديين العائدين كما يدعو إلى ذلك بعض الأمنيين والإعلاميين، بل إنّ الهاجس الحقوقي يجب أن يكون حاضرا في كل معالجة ترمي إلى وضع تصوّر شامل بالقياس مع تجارب الدول المتقدّمة في معالجة هذا المشكل، فألمانيا والدنمارك وبعض الدول الأوروبيّة سارعوا لوضع خطة متكاملة في التعامل مع الجهاديين العائدين من زاويتي المحاسبة والتأهيل، علما وأن عدد المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق يتراوح بين 22 ألف و30 ألف جهادي حسب تقديرات الأمم المتحدة خلال خمس سنوات من الحرب السورية في مقابل 5 آلاف جهادي خلال عشرية الحرب الأفغانية ضد الإتحاد السوفياتي، وتضخّم هذا الرقم مع تزايد عدد اللاجئين نحو العالم الغربي يجعل الهاجس الإرهابي كابوسا للعالمين العربي والغربي، وقد سارع الأوروبيون إلى وضع تصوّر لإدماج المهاجرين والتفكير في إصلاح وتأهيل الجهاديين العائدين.
وفق قانون مكافحة الإرهاب في تونس تتراوح أحكام العائدين من بؤر التوتّر بين 6 سنوات و12 سنة في مؤسسة سجنيّة ما زالت تعاني من التعامل بالأساليب القديمة دون تأهيل أو إصلاح أو تفكير في الإدماج إجتماعيّا، وهو ما يجعل هؤلاء العائدين يحافظون على قناعاتهم الجهاديّة ويسعون لإستقطاب مساجين الحق العام، وهذا ليس بعيد عن تجربة أكثر من 3 آلاف سجين سلفي في عهد نظام زين العابدين بن علي، الذين حافظوا على أفكارهم وعادوا ليشكلوا ما بعد الثورة تنظيم أنصار الشريعة ويلتحقوا بمناطق التوتر في سوريا والعراق وليبيا، ولذلك نعتقد أن التعامل مع ملف الجهاديين العائدين يحتاج إلى بحث وتفكير لوضع تصوّر شامل يجمع بين العقاب والإصلاح، وهو تصوّر يحتاج إلى إمكانيات ماديّة ولوجستيّة كبيرة، وبالقياس للتجارب الغربيّة في هذا الميدان لا بدّ من إشراك ذوي الإختصاص ومؤسسات المجتمع المدني لتكون مساهما ورقيبا تحدّ من سلطة المعالجة الأمنية لهذا الملف.
إنّ ردّة الفعل الأمنية تجاه الجهاديين العائدين قد تساهم في تعقيد الأوضاع وترفع من نسبة خطورتهم في ردّة فعل إنتقاميّة يائسة من غياب فرصة “التوبة”، فالعائد لا يجب أن يعامل على أنه متطرّف بالفطرة، بل وقع التلاعب بعقله وأفكاره فالتحق بالتنظيمات الجهاديّة متشنجا، كما أن هناك من الفتيات ويقدّر عددهن بالعشرات قد هاجرن رفقة أزواجهن مرغمين، والمعالجة المتشدّدة ستزيد من تعقيد الوضع، لذلك يجب معالجة ملف الجهاديين العائدين حالة بحالة، والتفاعل مع المحيط العائلي وأفراد المجتمع من الكلية إلى المسجد إلى مجال العمل إلى أجهزة الأمن، وبالتالي وجب التعامل مع الجهاديين العائدين وفق ثلاثة مسارات متوازية: مسار التأهيل العقائدي لنزع الشرعية عن الأفكار المتطرفة المنحرفة، ومسار التأهيل النفسي للقضاء على روح اليأس وبعث روح التفاؤل بإمكانية تصحيح الذات، وأخيرا مسار التأهيل الإجتماعي الإقتصادي بإدماج العائد في الوسط الإجتماعي وتوفير موطن الشغل ضمن الدورة الإقتصادية الفاعلة.
إنّ التجريم الشامل للجهاديين العائدين من بؤر التوتّر لن يكون حلاّ على المدى البعيد، كما أنّ التساهل معهم يفتح أبواب الجحيم على البلاد التونسيّة، لكن معالجة القضيّة وفق تصوّر شمولي مبني على تفاصيل علميّة لدراسة الحالات الفردية للعائدين يخرج المنظومة الأمنية من سياق ردّة الفعل إلى سياق التوقي من الإرهاب، وهذا المجهود يحتاج إلى إمكانيات تفوق قدرات الدولة التونسية، لذلك وجب عليها أن تستعين بالتجارب الدولية في هذا المجال وأن تطلب المساعدة من الدول الإقليميّة خاصة الجزائر التي تبدو معنية بشكل مباشر بهذا الملف.
اترك رد