4 – التأويل عند الإمام الغزالي

* أستاذ الفلسفة بجامعة النيلين

صلاحية التأويل وشروطه:

صلاحية التأويل عند الإمام الغزالي، مرتبطة ومقرونة ب “الدليل”، وبالتالي فإن معيار التمييز بين مجموعة من التأويلات، يقوم على أساس “الدليل”: فالتأويل الصحيح هو الذي يسنده ويدعمه ويقويه دليل راجح وبرهان قاطع. في المقابل فإن التأويل الفاسد هو تأويل ليس له دليل. والتأويل لا يفسد إلا إذا اجتمعت قرائن تدل على فساده، أي إذا اجتمعت جملة من القرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى في النفس من التأويل.

ومرة أخرى نلمح تأثير الغزالي واضحا في ابن تيمية حيث يورد الأخير:” فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل. والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر”[i] ويورد لنا الغزالي مثالا يوضح لنا من خلاله مسألة ارتباط صلاحية التأويل بالدليل بقوله:” مثاله قوله عليه السلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة أمسك أربعا وفارق سائرهن. وقوله عليه السلام لفيروز الديلمي حين أسلم على أختين، أمسك إحداهما وفارق الأخرى. فإن ظاهر هذا يدل على دوام النكاح. فقال أبو حنيفة: أراد به ابتداء النكاح، أي أمسك أربعا فأنكحهن وفارق سائرهن، أي انقطع عنهن ولا تنكحهن. ولا شك أن ظاهر لفظ الإمساك الاستصحاب والاستدامة، وما ذكره أيضا محتمل ويعتضد احتماله بالقياس، إلا أن جملة من القرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى في النفس من التأويل. أولها أنا نعلم أن الحاضرين من الصحابة لم يسبق إلى إفهامهم من هذه الكلمة إلا الاستدامة في النكاح، وهو السابق إلى أفهامنا فإنا لو سمعناه في زماننا لكان هو السابق إلى أفهامنا. الثاني أنه قابل لفظ الإمساك بلفظ المفارقة وفوضه إلى اختياره فليكن الإمساك والمفارقة إليه، وعندهم الفراق واقع والنكاح لا يصح إلا برضا المرأة. الثالث أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه، فإنه كان لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وما أحوج جديد العهد بالإسلام إلى أن يعرف شروط النكاح. الرابع أنه لا يتوقع في اطراد العادة انسلاكهن في ربقة الرضا على حسب مراده بل ربما كان يمتنع جميعهن فكيف أطلق الأمر مع هذا الإمكان. الخامس أن قوله أمسك أمر وظاهره الإيجاب فكيف أوجب عليه ما لم يجب ولعله أراد أن لا ينكح أصلا. السادس أنه ربما أراد أن لا ينكحهن بعد أن قضى منهن وطرا، فكيف حصره فيهن، بل كان ينبغي أن يقول أنكح أربعا ممن شئت من نساء العالم من الأجنبيات فإنهن عندكم كسائر نساء العالم. فهذا وأمثاله من القرائن ينبغي أن يلتفت إليها في تقرير التأويل ورده. وآحادها لا يبطل الاحتمال لكن المجموع يشكك في صحة القياس المخالف للظاهر، ويصير إتباع الظاهر بسببها أقوى في النفس من إتباع القياس. والإنصاف أن ذلك يختلف بتنوع أحوال المجتهدين وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة مع هذه القرائن وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين”[ii]

وفي كتابه (معيار العلم) يتوسع الغزالي بشكل مفصل في مسألة الدليل، حيث يربط فساده وصحته ب(القول الشارح) الموصل إلى تصورات المعاني من جهة، وب(الحجة) الموصلة إلى (التصديق) من الجهة الأخرى. ” فالبحث النظري إما أن يتجه إلى تصور أو إلى تصديق. والموصل إلى التصور يسمى (قولا شارحا) فمنه حد ومنه رسم. والموصل إلى التصديق يسمى (حجة) فمنه قياس ومنه استقراء وغيره”[iii] ولذلك نرى الغزالي يحدد هدفه، من خلال كتابه المذكور، في ” تعريف مبادئ (الحجة) الموصلة إلى التصديق، قياسا كانت أو غيره. مع التنبيه على شروط صحتهما، ومثار الغلط فيهما”[iv]

مجال التأويل ومواضعه:

” أن مأخذ الشريعة ينقسم إلى الألفاظ وإلى ما عداها. وغرضنا ذكر الألفاظ وضبطها إذ عليها نتكلم بمسالك التأويل. ثم هي تنقسم إلى ألفاظ القرآن وإلى ألفاظ الرسول. فأما ألفاظ القرآن فتنقسم إلى ما يقطع بفحواه وهو النص وإلى ما يظهر معناه مع احتمال وهو الظاهر وإلى ما يتردد بين جهتين من غير ترجح وهو المجمل. وألفاظ الرسول تنقسم إلى متواتر وهو نازل منزلة القرآن في التمسك به وفي انقسامه فإنه مقطوع به وإلى المنقول آحادا وهو الذي لا يقطع بأصله وهو أيضا ينقسم إلى نص وظاهر ومجمل كآيات القرآن. ولفظ الصحابي إذا رأيناه دليلا فهو كالاخبار”[v]

وقبل أن نسترسل في تبيان رأي الغزالي في هذه المسألة، ينبغي علينا أن نوضح أنه كان لمصطلح (النص) عند العلماء المسلمين القدامى (خاصة الأصوليين) مفهوم آخر، حيث تحدثوا في (النص) بعبارات كثيرة أشهرها ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بأنه “هو المستغني بالتنـزيل عن التأويل” أي هو الكلام الذي لا يحتمل تفسيرا أو تأويلا، لأن ظاهره يغني عن كل ذلك، وهو الذي أبانه الله لخلقه نصا ظاهرا بينا. وعلى خطى الشافعي يسير الغزالي بقوله:” أما النص فقيل في حده أنه اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه…وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه سمى الظاهر نصا ثم قال النص ينقسم إلى ما يقبل التأويل والى مالا يقبله. والمختار عندنا أن يكون النص ما لا يتطرق إليه التأويل”[vi]

ويرى الغزالي أن التأويل لا يرفع النص، ” قال بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل. ومثاله تأويل أبى حنيفة في مسألة الإبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام في أربعين شاة شاة، فقال أبو حنيفة الشاة غير واجبة، وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان. فهذا باطل، لأن اللفظ نص في وجوب الشاة، وهذا رفع وجوب الشاة، فيكون رفعا للنص”[vii]

فالغزالي هنا يحدد الموضع الوحيد الذي لا يجب أن نلجأ فيه للتأويل، وذلك إذا جاء النص ظاهرا بينا واضحا بذاته. ففي هذه الحالة يغني الظاهر عن التأويل. وهذا القول يأتي متسقا مع مفهوم الغزالي للمحكم والمتشابه الذي سبق أن بيناه، حيث لا تأويل مع المحكم المكشوف المعنى، الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال. وبالتالي يكون مجال التأويل هو المتشابه، أي ما تعارض فيه الاحتمال.

وموقف الغزالي هذا يختلف تماما عن ابن رشد الذي يربط التأويل بمخالفة ظاهر الشرع للنظر البرهاني حيث يقول ” إن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون: قد سكت عنه الشرع أو عرَّف به. فإن كان قد سكت عنه، فلا تعارض هنالك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه، أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طُلب هُنالك تأويله”[viii]

نحن هنا نفهم أن التأويل مع ابن رشد يكون لازما فقط في حالة واحدة، وهي إذا اختلف ظاهر الشرع مع النظر العقلي البرهاني. هنا بحسب ابن رشد يجب تأويل الظاهر حتى يتلاءم ويتسق مع حقيقة ومقتضى النظر العقلي البرهاني. نلاحظ من جهة أخرى أن التأويل كان مرتبطا عند ابن رشد بمحاولة التقريب أو إن شئت قلت التوفيق بين النظر العقلي القائم على البرهان، والشرع المخالف في ظاهره له. في حين هو عند الغزالي موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر، فالأول يبدأ من النظر العقلي والثاني يبدأ من النص القرآني والنبوي.

لمن يجوز التأويل: معرفة التأويل ومعناه بين الراسخين في العلم والعوام

يناقش الغزالي بشيء من التفصيل في رسالته ( إلجام العوام عن علم الكلام) موقفه من مسألة خوض العامي لمعترك التأويل، أو إطلاعه عليه من جانب العارفين. ويركز أكثر على النصوص الموهمة للتشبيه وللتجسيم في حق الله تعالى. وفي هذا نراه يقرر مجموعة مبادئ هامة يتعين على العامي الالتزام بها ويجملها بقوله: ” إن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس، ثم التصديق، ثم اعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة”[ix]وهنا بيان مقصودها:

1/ التقديس: يعني به الغزالي تنزيه الذات الإلهية عن الجسمية وتوابعها. وأنه إذا ” سمع اليد والأصبع وقوله (صلى الله عليه وسلم): (إن الله خمر طينة آدم بيده. وإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)، فينبغي أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الأصلي … وقد يٌستعار هذا اللفظ.. لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا… وعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن الرسول (ص) لم يرد بذلك جسما… وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس”[x]

وهو يذهب إلى أن من جاء بباله أن الله جسم ” كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف” ” وهو يذهب إلى أن العامي ليس عليه البحث في مثل هذه الأمور بل أن ” معرفة تأويله ومعناه ليست بواجب عليه بل واجب عليه أن لا يخوض فيه”[xi]

ويضرب لنا مثالا آخر بلفظ (الصورة) كما ” في قوله (صلى الله عليه وسلم): (إن الله خلق آدم على صورته) و( وإني رأيت ربي في أحسن صورة) فينبغي أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئة الحاصلة في أجسام … وقد يٌطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا هيئة في جسم … فليتحقق كل مؤمن أن الصورة في حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذي هو جسم لحمي وعظمي مركب من أنف وفم وخد، فإن جميع ذلك أجسام وهيئات في أجسام، وخالق الأجسام والهيئات كلها منزه عن متشابهتها وصفاتها، وإذا علم هذا يقينا فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى فما الذي أراده فينبغي أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أُمر بأن لا يخوض فيه فأنه ليس على قدر طاقته”[xii]

ويفصل في موضع آخر بقوله ” إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) وهذا مما أورد في الأخبار التي وردت في إثبات الصورة لله تعالى حيث قال: (أن الله خلق آدم على صورته) وليس المراد به صورة الذات إذ الذات لا صورة لها إلا من حيث التجلي بالمثال”[xiii]

ويضرب مثالا آخر بقوله ” إذا قرع سمعه النزول في قوله (صلى الله عليه وسلم): (ينزل الله تعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا). فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يُطلق .. لجسم منتقل… من العالي إلى السافل… وقد يُطلق على معنى آخر ولا يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة في جسم، كما قال الله تعالى: }وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج{الزمر:6. وما رئي البعير والبقر نازلا من السماء بالانتقال بل هي مخلوقة في الأرحام ولإنزالها معنى لا محالة، كما قال الشافعي: دخلتُ مصر فلم يفهموا كلامي، فنزلت ثم نزلت ثم نزلت، فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل، فتحقق المؤمن قطعا أن النزول في حق الله تعالى ليس بالمعنى الأول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل … والرب جل جلاله ليس بجسم، فإن خطر له أنه لم يرد هذا فما الذي أراد، فيُقال له: أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله تعالى أعجز، فليس هذا يخصك واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت، واعلم أنه أُريد به معنى من المعاني التي يجوز أن يراد بالنزول في لغة العرب. ويليق ذلك المعنى بجلال الله تعالى وعظمته وإن كنت لأتعلم حقيقته وكيفيته”[xiv]

ومثال آخر يورده لنا الغزالي ” في قوله تعالى: }وهو القاهر فوق عباده{ الأنعام:18. وفي قوله تعالى: }يخافون ربهم من فوقهم{النحل: 50. فليعلم أن الفوق اسم مشترك يُطلق لمعنيين أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل.. وقد يُطلق لفوقية الرتبة، وبهذا المعنى يُقال: الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير، والأول يستدعي جسما يُنسب إلى جسيم والثاني لا يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعا أن الأول غير مراد”[xv]

2/ التصديق: يعني به الغزالي الإيمان بما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقوله صدق و حق على النحو الذي أراده. ” وهو أنه يعلم قطعا أن هذه الألفاظ أريد بها معنى يليق بجلال الله وعظمته، وأن رسول الله (ص) صادق في وصف الله تعالى به، فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لا ريب فيه وليقل آمنا وصدقنا.”[xvi] فإن قلت التصديق إنما يكون بعد التصور، والإيمان إنما يكون بعد التفهم، فهذه الألفاظ إذا لم يفهم العبد معانيها كيف يعتقد صدق قائلها فيها؟ ” وإن قلت: فأي فائدة في مخاطبة الخلق بما لا يفهمون وجوابك أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله وهم الأولياء والراسخون في العلم وقد فهموا، وليس من شرط من خاطب العقلاء بكلام أن يخاطبهم بما يفهم الصبيان. والعوام بالإضافة إلى العارفين كالصبيان بالإضافة إلى البالغين، ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما يفهمونه وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من شأنكم ولستم من أهله فخوضوا في حديث غيره”[xvii]

وموقف ابن رشد في هذه المسألة يكاد يكون مشابها أن لم يكن متطابقا مع الغزالي، فهو يقرر أن ” طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية”[xviii] ابن رشد هنا يتحدث عن ( مراتب الناس)، بمعنى أن الناس مراتب في الفهم، وبالتالي وجب أن نأخذ كل فردا منهم حسب مرتبته في الفهم. ومعنى ذلك أنه من غير المجدي أن نخاطب من يفهم بواسطة القول الخطابي والوعظي ـ يقصد العامي ـ بواسطة القول البرهاني أو الجدلي. ولذلك رأى أن ” السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه، هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها”[xix]

3/ الاعتراف بالعجز: يقصد به الغزالي أن يعترف الفرد من العوام بعجزه عن الفهم و” يقرّ بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته”[xx] و” يجب على كل من لا يقف على كنه هذه المعاني وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى المراد بها أن يقر بالعجز، فإن التصديق واجب وهو عن دركه عاجز، فإن ادعى المعرفة فقد كذب وهذا معنى قول مالك: الكيفية مجهولة، يعني تفصيل المراد به غير معلوم، بل الراسخون في العلم والعارفون من الأولياء أن جاوزوا في المعرفة حدود العوام وجالوا في ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميالا كثيرة فما بقى لهم مما لم يبلغوه وهو بين أيديهم أكثر بل لا نسبة لما طوي عنهم إلى ما كُشف لهم لكثرة المطوي وقلة المكشوف بالإضافة إليه والإضافة إلى المستور… ولأجل كون العجز والقصور ضروريا في آخر الأمر بالإضافة إلى منتهى الحال قال سيد الصديقين: العجز عن درك الإدراك إدراك، فأوائل حقائق هذه المعاني بالإضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالإضافة إلى خواص الخلق، فكيف لا يجب عليه الاعتراف بالعجز”[xxi]

4/ السكوت: والمراد السكوت عن السؤال، بمعنى أن لا يسأل الفرد من العوام عن معنى مثل هذه الأحاديث، ولا يخوض في هذا المعترك. والسكوت على السؤال عند الغزالي ” واجب على العوام لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلا له، فإن سأل جاهلا زاده جوابه جهلا وربما ورّطه في الكفر من حيث لا يشعر، وإن سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه”[xxii] بل أن الغزالي يذهب أبعد من ذلك بالقول: ” العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة كما كان يفعل عمر رضي الله عنه بكل من سأل عن الآيات المتشابهات، وكما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الإنكار على قوم رآهم خاضوا في مسألة القدر وسألوا عنه فقال (صلى الله عليه وسلم): (فبهذا أُمرتم) وقال: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال). … ولهذا أقول يُحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض في التأويل والتفصيل، بل الواجب عليهم الاقتصار على ما ذكرناه وذكره السلف، وهو المبالغة في التقديس ونفي التشبيه وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوارضها وله المبالغة في هذا بما أراد”[xxiii] ونجد أن موقف ابن رشد من هذه المسألة مطابقا تماما لموقف الغزالي مما يظهر لنا تأثره بالغزالي في هذا الصدد، حيث يرى ابن رشد أنه ” من كان من غير أهل العلم، فالواجب في حقه حملها على ظاهرها، وتأويلها في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر. ولذلك نرى أن من كان من الناس فرضُهُ الإيمان بالظاهر، فالتأويل في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر، فمن أفشاه له من أهل التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر، ولهذا يجب أن لا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين، لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو مِن أهل البرهان”[xxiv]

5/ الإمساك: يقصد به الغزالي أن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ. وواضح أن الغزالي هنا يرى أننا يجب عن لا ندخل أي تعديل بأي وجه من الوجوه السابقة الذكر على النص. وله رأي في مسألة تفسير اللفظ بلغة أخرى غير العربية (مشكلة الترجمة) بل حتى نطق اللفظ بلغة أخرى حيث يذهب إلى أنه ” لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد، لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية (مثلا) تطابقها، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني ( تختلف) عن التي جرت عادة العرب باستعارتها”[xxv]ويضرب الغزالي مثلا لذلك بلفظ (الاستواء) ” فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس من المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب”[xxvi] ولكن الغزالي يستدرك موقفه هذا ويقول في موضع آخر أن الحالة الوحيدة التي يجوز تبديل اللفظ فيها هي إذا وجدنا ” مثله المرادف له الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه”[xxvii] ورغم ذلك فأنه سرعان ما يحسم الأمر ويرى أنه من باب الحيطة والحذر، وحتى لا نقحم عموم الخلق في ورطة الخطر، لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل، بل أنه يذهب إلى حد التحريم بقوله ” تحريم تبديل العربية حكم شرعي ثبت بالاجتهاد”[xxviii] وهو بذلك يكون متسقا مع موقفه السابق.

أما عن موقفه من بيان تأويل مثل هذه الألفاظ بعد إزالة ظاهر معناها، فيقسمه إلى ثلاثة مواضع: فإما أن يقع التأويل ” من العامي نفسه أو من العارف مع العامي أو من العارف مع نفسه”[xxix] وقد حرّم الغزالي الأول، أي تأويل العامي مع نفسه. وأما عن التأويل من العارف أو العالم إلى العامي، هو عند الغزالي أيضا حرام وممنوع، وقد شبهه الغزالي بالغواص الماهر الذي يجر معه للسباحة والغوص في البحر المغرق من كان عاجزا عنها أصلا. وأما بالنسبة لتأويل العارف مع نفسه، فهو عند الغزالي على ثلاثة أوجه: إما أن يكون تأويلا ” مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا، فإن كان قطعيا فليعتقد. وإن كان مشكوكا فليجتنبه ولا يحكمن على مراد الله تعالى ومراد رسوله (صلى الله عليه وسلم) من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح بل الواجب على الشاك التوقف. وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين أحدهما: أن المعنى الذي أنقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى أم هو محال؟ والثاني: أن يعلم قطعا جوازه لكنه تردد في أنه هل هو مراده أم لا؟ مثال الأول: تأويل لفظ الفوق بالعلم المعنوي الذي هو المراد بقولنا السلطان فوق الوزير، فإنا لا نشك في ثبوت معناه لله تعالى لكننا ربما نتردد…هل أريد به العلو المعنوي أم أريد به معنى آخر يليق بجلال الله تعالى… ومثال الثاني تأويل لفظ الاستواء على العرش، بأنه أراد به النسبة الخاصة التي للعرش ونسبته أن الله تعالى يتصرف في جميع العالم ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض بواسطة العرش… فربما نتردد في أن إثبات هذه النسبة للعرش إلى الله هل جائز (..) وإن كان جائزا عقلا فهل واقع وجودا، هذا مما قد يتردد فيه الناظر”[xxx] لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يجوز للعارف أن يتحدث بتأويله مع كافة الخلق؟ ويجيب الغزالي عن هذه المسألة بقوله: أن كان تأويله ” قاطعا فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله في الاستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة (…) وأما العامي فلا ينبغي أن يحدث به”[xxxi]

وماذا عن التأويل غير القاطع ذو الطابع الظني: هل يجوز التحدث أيضا به؟! واضح أنه بالنسبة للعامي لا يجوز. ولكن مقصد السؤال: ماذا عن التحدث مع من هو في مثل درجته في المعرفة أو مع المستعد لها بتأويل ظني ليس بقاطع؟ يجيب الغزالي بقوله: ” فيه نظر فيحتمل أن يُقال هو جائز ولا يزيد على أن يقول أظن كذا وهو صادق ويُحتمل المنع لأنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف بالظن في صفة الله تعالى أو في مراده من كلامه وفيه خطر، وإباحته تُعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ولم يرد شيء من ذلك بل ورد قوله تعالى: }ولا تقف ما ليس لك به علم{ الإسراء: 36″[xxxii]

والآن بعد أن عرفنا التمييز الذي يجريه الغزالي بين نوعي التأويل: القاطع والظني. فإن السؤال الذي يطرح نفسه حسب تسلسل هذا السياق هو: بماذا يحصل القطع بصحة التأويل؟ وإجابة الغزالي تتلخص في أن القطع بصحة التأويل إنما تكون بأحد أمرين ” أحدهما أن يكون المعنى مقطوعا ثبوته لله تعالى كفوقية المرتبة. والثاني أن لا يكون اللفظ محتملا إلا لأمرين وقد بطل أحدهما وتعين الثاني مثاله قوله تعالى:}وهو القاهر فوق عباده{الأنعام:18. فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق لا يحتمل إلا فوقية المكان أو فوقية الرتبة، وقد بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس ولم يبق إلا فوقية الرتبة كما يقال: السيد فوق العبد والسلطان فوق الوزير”[xxxiii]

6/ الكف: أن لا ينشغل باله وقلبه وعقله بالتفكر في مثل هذه الأمور.

7/ التسليم لأهل المعرفة: ” أن لا يعتقد أن ذلك إن خفى عليه لعجزه فقد خفى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء”[xxxiv]

خاتمة:

التأويل عند الإمام الغزالي عبارة عن (احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز) وفي ذلك يجب إتباع ما جرت عليه عادة العرب في استعمالهم لألفاظ اللغة العربية استعمالا حقيقيا أو مجازيا.

نلاحظ تبعية التأويل لحقل الإسلاميات، وبالتالي انحصاره في نطاق النص الديني الإسلامي. حيث تم توظيف التأويل لخدمة الشرع وأُستخدم لتفسير خطابه الخاص، وحُددت وظيفته في تأويل ظاهر النص بغية الوصول إلى حكمة القصد الإلهي، وبالتالي فهو معني بالأساس بتوضيح ما غمض من معاني النص، أما ما كان واضح المعنى والدلالة فهو ليس في حاجة إلى تأويل.

أوضح الإمام الغزالي الموضع الذي يجب أن نلجأ فيه للتأويل، شارطا إياه بضرورة قيام البرهان على استحالة الظاهر في الدلالة والإشارة إلى معنى النص وحقيقته. حيث أن حدود التأويل ومواضعه عند الغزالي تتحدد بالبت والقطع بين الدلالات المختلفة التي يمكن أن يحتملها النص بعد الآتيان بدليل على استحالة التمسك بالمعنى الحرفي المباشر الذي يشير إليه ظاهر النص.

على ذلك، فإن وظيفة التأويل مع الغزالي مرتبطة بالتوصل إلى المعنى الباطني للنص الذي عجز ظاهره عن الإشارة والدلالة عليه، وفي رفع التناقض الظاهر بين الدلالات المتعارضة داخل متن النص.

أخيراً، تبيّن لنا هذه الورقة البحثية قيمة الإسهام المعرفي الكبير للإمام الغزالي في مضمار (فن التأويل)، وتبين تأثيره الكبير على من جاء بعده من أعلام الفكر الإسلامي.


[i] ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل، مصدر سابق الذكر، ص27

[ii] أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ص197

[iii] أبو حامد الغزالي، معيار العلم في المنطق، شرحه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م، ص36

[iv] أبو حامد الغزالي، معيار العلم في المنطق، مصدر سابق الذكر، ص36

[v] أبو حامد الغزالي، المنخول في تعليقات الأصول، مكتبة المصطفى الإلكترونية، ص163

[vi] نفس المصدر السابق، ص164

[vii] نفس المصدر السابق، ص198

[viii] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مصدر سابق الذكر، ص32

[ix] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص320

[x] نفس المصدر السابق، ص321

[xi] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص321

[xii] نفس المصدر السابق، ص321

[xiii] أبو حامد الغزالي، المضنون به على غير أهله، مصدر سابق الذكر، ص359

[xiv] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص321-322

[xv] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص322

[xvi] نفس المصدر السابق، ص322

[xvii] نفس المصدر السابق، ص323

[xviii] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مصدر سابق الذكر، ص31

[xix] نفس المصدر السابق، ص33-34

[xx] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص320

[xxi] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص323-324

[xxii] نفس المصدر السابق، ص324

[xxiii] نفس المصدر السابق، ص324

[xxiv] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مصدر سابق الذكر، ص51-52

[xxv] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص325

[xxvi] نفس المصدر السابق، ص325

[xxvii] نفس المصدر السابق، ص325

[xxviii] نفس المصدر السابق، ص326

[xxix] نفس المصدر السابق، ص326

[xxx] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مصدر سابق الذكر، ص327-328

[xxxi] نفس المصدر السابق، ص328

[xxxii] نفس المصدر السابق، ص329

[xxxiii] نفس المصدر السابق، ص331

[xxxiv] نفس المصدر السابق، ص320


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

3 ردود على “4 – التأويل عند الإمام الغزالي”

  1. الصورة الرمزية لـ نعيمة
    نعيمة

    بارك الله فيكم حقا هذا ما كنت ابحث عنه اريد انجاز مذكرة باذن الله تعالى عن هذا الموضوع

    1. الصورة الرمزية لـ أحمد
      أحمد

      السلام عليكم أختي ..
      أود سؤالك إن كنت قد أنجزت بحثا في هذا الموضوع لأنني أود البحث فيه أيضا وأحتاج لبعض المساعدة جزاك الله خير

  2. الصورة الرمزية لـ محمد عبدالعظيم
    محمد عبدالعظيم

    رائع جدا

اترك رد