الصور الزهدية في شعر ابن الرومي .. محمد قاسم الندوي

محمد قاسم الندوي: باحث، قسم العربية والفارسية وآدابهما جامعة الله آباد
أبو الحسن علي بن العباس المعروف بابن الرومي أحد شعراء القرن الثالث للهجرة، وشاعر كبير من طبقة بشار والمتنبي في العصر العباسي، شهدت حياته الكثير من المآسي والتي تركت آثارها على قصائده، تناثرت أشعاره بين المدح والهجاء والفخر والرثاء، وكانت وله براعة نادرة في وصف الأشياء وتشبيهها.
التشبيه كان هو السمة البارزة في الصور الزهدية لدى ابن الرومي وعنصر قائم على خيال الشاعر، ولب المحاور الفنية في التصوير.1
يرى الأستاذ عباس محمود العقاد أنه بارع ومتفوق في هذا المجال، يمارس تصوير الأشياء والأحداث في جميع المناسبات بكل سهولة ولا يواجه أي عناء أو صعوبة في ذلك، يقول :
لست أعرف فيمن قرأت لهم من مشارقة ومغاربة أو يونان أقدمين وأوروبيين محدثين، شاعرا واحدا له من الملكة المطبوعة في التصوير مثلما كان لابن الرومي في كل شعر قاله مشبها، أو حاكيا على قصد منه أو على غير قصد، لأنه مصور بالفطرة المُهيَّأة لهذه الصناعة، فلا ينظر ولا يلتفت إلا تنبهت فيه الملكة الحاضرة أبدا، وأخذت في العمل موفقةً مجيدةً، سواءً ظهر عليها أو سها عنها، كما قد يسهو المصور وهو عاملٌ في بعض الأحايين.2
يوضح العقاد معنى التصوير ويؤكد أن ابن الرومي يمارس التصوير في جميع المناسبات بدون عناء وصعوبة، حيث يقول:
إنما التصوير لون وشكل ومعنى وحركة، وقد تكون الحركة أصعب ما فيه، لأن تمثيلها يتوقف على ملكة الناظر، ولا يتوقف على ما يراه بعينه ويدركه بظاهر حسه، ولكن تمثيل هذه الحركة المستصعبة كان أسهل شيء على ابن الرومي وأطوعه، وأجراه مع ما يريد من جد أو هزل، وحزن أو سرور.3
ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات أنه ضمّ إلى دقة الرُوم في التصوير، قوة العرب في التصوير.4
ابن الرومي كان فناناً بارعاً بما أوتي من ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعبة بالمعاني والأشكال، وهذا يؤكد أنه ليس من الضروري أن يكون كل هجاء خارجاً على المجتمع مبغضاً لكل مافيه فإن ابن الرومي لم يكن كذلك ولكنه كان ناقداً شديد الحساسية يثور على ما لا يعجبه.5
ويعتمد ابن الرومي أيضاً على صور تخيلية إيحائية كنوع من الكناية والتورية فيعرض شيئاً وهو لا يقصده لذاته بل يريد شيئاً آخر يجانسه بالقرب أو البعد وقد تكون كل لفظة في حد ذاتها موحية بالصورة، كما يكون التركيب موحياً، وقد لاتكون الصورة حصيلة اللفظة الواحدة أو التركيب بل من شيء يموج في ذهن الشاعر لم يصرح به وإنما لــمّــح إليه في أثناء العرض.6
نود من خلال الصفحات التالية تسليط الضوء على أبيات الشاعر التي تتضمن صورا زهدية فقط لأن له أبيات كثيرة في الزهد غيرها وهي كثيرة ومتناثرة في ديوانه لكنها لا تأتي ضمن الموضوع.
يصور ابن الرومي الموت وملاحقته للإنسان وهو يأكل من عمره يوماً فيوماً حتى تعاوده ساعة الفراق ولحظة الوداع، فيقول
والدهر يبلي الفتى من حيث ينشـــــئه حتى تكر عليه ليلـــــــة القــــــرب
يغـــــذوه في كل أني و هــــــــو يأكـلــــــه ويحتسي نغـــباً منـــــــــــــــه على نغـــــــب
يودي بـــــــحال فــــــحال مـــن شبيبتــه تسرب الماء من مستأنــف الكتب
حسب امـرئ من جنى دهر تــــطاولـــــــه وإن أجمّ فلــــم يُنكـــــب ولم يُنــــَـــــب
في هدنة الدهــــــــــر كاف من وقـــــائعــــه والعمر أفــدح مبراة من الـــــــوصــــب7
وهو يعمد إلى التصوير يشخص الدهر ويشبهه بالحيوان المفترس يأتي إلى الإنسان فيأكله في كل حين وآن.
ونلاحظ في الأبيات التالية أنه يصور نزول الموت، فيمثله بالنبل الذي يصيب هدفه، ليقدم من هذا المشهد موعظةً وعبرةً للناس، ويحفّزهم على ترك البطالة والغي، فيقول:
نبل الردى يقصدن قصدك فأحّد قبــــــــــــــل المــــــوت حـــــــدّك
قد عـــــــــــــــــــــدّ قبـــــــــــــــــــلك مـــــن رأيــــــــــ ـــــــــتَ ولست تلبثُ أن يعــدّك
فـــــــــــــــــدع البــــــــــــطالـــــــــــة والغــــــــــــــــــــوا ية جانباً وعلـــــــــــــيك رشــــــــــــدك8
مما يلاحظ أنه يصور تصويراً واقعياً لما يحدث للإنسان بعد مماته، حيث يوضع في اللحد وعقب دفنه ينصرف الناس إلى بيوتهم تاركين إياه وحيداً في قبره يخضع لسؤال الملكين، ولا يجد أحداً يؤانسه في خلوته حيث يتعرض للفناء و أكل جثته من قبل الديدان، وعلى مرور الأيام ينساه أهله رغم أنهم ينعمون بما جمع من مال وغيره، إذ يقول:
فـــــكأنني بك وقـــد نُعــيــــــــت وقد بكى الباكون فقـــــــــدك
وتركــــــــــت منزلك المشـــــــيـــــد معــــــــــطلا، وســكنت لحـــــــدك
وخلــــــوت في بيــت البـــــلى وخــــــلا بك المـــلــــــــــــــكان وحــــــــــــــــدك
وســـــــــــلاك أهــــلك كلــــهم ونســـــــــــــوا عــــــــــــــلى الأيام عـهـــــــــــــــــــدك
يتمتعـــــــــــــــون بما جــمـعـــت ولا يرون عــليــــــــــه حــمــــــــــدك
متمهـــــــــــــــــدّون وأنت تحــــت الرمس يرعى الدود جلـدك
قد سلموك إلى الضّريــــــح و وسَّـــدوا بالــــترب خـــــــــــــــدك
كـــــم قــــــــد دفنــــــــــت أحبـة حلــــــــــوا محــــــــل النـــــــــفس عنـــــدك
انظـــر إلى أهــلــيهـــم فـــذلك البـــاقــــون بعـــــدك9
وقد صور حياة الأولياء والصالحين في الآخرة وما يلاقونه من الجزاء والنعيم فيها ، بناءً على ما ذُكر في القرآن الكريم بهذا الصدد، حيث يقول:
قــــــــــــد تعالـــــوا على أســــــرة دُرّ لابســــــــــين الحــــــــــــــــرير والأرجــــــــــــــوانا
وعـــــــليهم تيجـــــــــــانهم والأكاليـــــ ــــــل تُبــــــــــــاهي بحسـنهــــــــــا التيجـــــــــــانا
يتعاطونها سلافـــــــــــــــا شمــــــــــــولا في جنـــــــــــــان مجـــــــــــــــاورات جنـــــــــــــانا
ثـم آبوا فاستقبلهم حســــــان من بنات النـعيم فقن الحسانا
بـوجــوه مثل المصابيح لا يعـــــ ــــــــرفنّ إلا الظــــــــــــــــــلال والأكنــــــــــــــــانا
فـتلقـــــــــينهم بأهـــــــــــــــــــــلا وســــــــــــــــهلا رافعــــــــــــــــــات إليهــــــــــــــــــــم الــــــــريحــــــــــــــــــــانا10
فالتصوير الزهدي لدى الشاعر تصوير واقعي كتصويره لأحوال الزهد أو التوبة أو لغيب يتحقق وقوعه أوتصويره للدنيا والبشر والقدر على نحو متكرر، أوتصوير الدنيا بمتاع الغرور وأسباب الشقاوة وحال الإنسان بالراكب المسافر والحياة الدنيا بالشيء الزائل، ويصور صحة الإنسان وما يتمتع به من الترف بالسربال والكساء اللذين سيزولان لا محالة، ونلاحظ أنه يبالغ ويهول في تصوير بعض المشاهد كتصويره الدنيا بالجيفة والذين يطلبونها بالكلاب النواهس والبهائم والحيوانات و بهذه الصورة القبيحة يقصد التخويف والتبشيع.
إنـــما هــــذه الـــــــــدنيا غــــرور وشـــــقاء للمـــــعشـــر الأشـقيـــــــــاء
نـــــحن فـــــيها ركــــــب نؤم بــلاداً فــكان قــــد ألنا إلى الانتهــاء
ما عسى نرتجي ونحــن مـــــــــع الأمـــوات يحــدى بنا أحــــث الحــــــداء11
ألا إنــــما الـــدنيا كجيفــــــة ميتة وطـــلابها مثــــــــل الــــكلاب النـــواهس12
هي دنيـــا طفــــوا عليها وإن قا لـــوا : علـــونا بالظـــــــن والحسبـــان
ما علا من طفا كما طفت الجيـــفة في لجـــــــة من الــــــــطـــوفــــــــــــــــــــان13
إذا ما كساك الله سربال صحة ولم تخل مـــــن قــــــوت يجـــــــــــــلّ ويعــــــذب
فلا تغبـــــــطن المترفـــــــين فإنهــــــم على حسب ما يكسوهم الدهر يسلـب14
ومع كل ذلك ما قدمنا من أبياته الزهديه فإن بعض الباحثين يشكك في مدى إخلاصه في الزهد بسبب التدين كأبي العتاهية وبعد التوبة كأبي نواس بل يعتبر زهده فلسفة حياته ونتاج التجارب المريرة في حياته.
***
المراجع:
(1) د. علي أبو زيد. الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي. ط2. ص.252 . مصر: دار المعارف.(1983)م.
(2) العقاد، عباس محمود. ابن الرومي حياته من شعره. ص237. القاهرة : مؤسسة هنداوي.(2012)م.
(3) المصدر نفسه، ص237.
(4) الزيات، أحمد حسن. تاريخ الأدب العربي. ص202. دلهي : المكتبة الرشيدية. (بدون طبعة وتاريخ).
(5) عبد الحميد محمد جيده. الهجاء عند ابن الرومي. ص114. بيروت. منشورلت المكتب العالمي. (1974)م.
(6) علي شلق. ابن الرومي في الصورة والوجود. ط1. ص296. دار النشر للجامعيين. (1960)م.
(7) ديوان ابن الرومي. ش : الأستاذ أحمد حسن بسنج. ط2. ج1. ص118. بيروت. دارالكتب العلمية. (2002)م.
(8) المصدر نفسه، ج3. ص46.
(9) المصدر نفسه، ج3. ص46.
(10) المصدر نفسه، ج3. ص495.
(11) المصدر نفسه، ج1. ص65.
(12) المصدر نفسه، ج3. ص458.
(13) المصدر نفسه، ج2. ص232.
(14) المصدر نفسه، ج1. ص115.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد