الشيخ أحمد بيبني الشنقيطي موريتانيا
مقدمة
يعتبر الحديث والبحث عن إشكاليتي التعليل والتعبد من المسائل المهمة التي لا يخلو كتاب في أصول الفقه والمقاصد الشرعية عن الحديث عنهما إشارة وإلماما، أو تنقيرا وتفصيلا.
ويعكس التعليل والتعبد ما هو واقع من انقسام في القواعد الأصولية إلى ثنائية حادة. حيث تنقسم الأدلة إلى ما هو محكم وإلى ما هو متشابه ويندرج ضمنهما التقسيمات الأخرى حيث قال الشاطبي :« وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم». ويمكن القول بأن هذا التقسيم ينعكس أيضا على ثنائية التعليل والتعبد فإنهما قسيم من الثنائيتين السابقتين، حيث يمثل المجمل والظاهر والعام قبل بيانه جانب التعبد، ويمثل المبين والمخصص جانب التعليل، وما وضح معناه. وكان ينبغي أن يكونا قاعدتين ضمن القواعد الأصولية الأخرى، مثل الأمر والنهي والعام والخاص، إلا أن ظهورهما المتأخر كما سنرى، هو ما منع من تأصيلهما أصوليا، كما أصلت القواعد الأصولية الأخرى.
ولا أعشو عن الصواب إذا قلت بأن هذه الثنائية تمثل ثغرة خطيرة، وعامل عطالة مستمر. لأنها تكرس تعارضا شنيعا وانقساما في جسم الشريعة، الذي يجب أن يكون منسجما ومتناغما لا متناقضا ومختلفا، لقول الله عز وجل: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء 82.
ذلك أن القول بأن جانب العبادات تعبدي، وجانب المعاملات معلل، يجعل البحث في ارتكاس دائم. لأن التعبد يمكن أن يستعمله القائلون به عصا يوجهونها لما لا يتفق مع رغبتهم مما توصل إليه غيرهم من التعليل والاجتهاد. كما أن القول بالتعليل يمكن أن يستعمله البعض في الخروج عن الحدود الشرعية ويجعلون الأحكام مطاطية لا حدود لها. ويتأكد ذلك خصوصا عندما ينظر إلى أن الأحكام التعبدية تتداخل مع الأحكام المعللة، مما يجعل كل الأحكام معرضة للاعتراض من الجهة الأخرى. وقد أشار الجويني إلى وجود ذلك في بعض المعاملات كالمكاتبة مثلا. فمع التعبد ولو قل لا ينفع الحديث عن التعليل ولو كثر، ومع التعليل ولو قل، لا ينفع القول بالتعبد ولو كثر. إن هذا الواقع يؤدي إلى شلل الشريعة والعطالة فيها رغم ان الوقائع تنزل، والأحداث تقع بحسب متوالية هندسية بينما الأحكام لا تتجدد ولو حسب متتالية حسابية.
لذلك يمثل القول بالتعبد أو بالتعليل ثغرة خطيرة لا بد من سدها ليكون طريق البحث على منهاج واحد. وهذا البحث هو رغبة غير مقضية للفكر الذي لا يطيق بسهولة أن لا يستطيع أن لا ينفذ إلى أعماق الشريعة بنظرة توحيدية. وقد توصل البحث إلى نتيجة تقول بأن التعبد لابد منه من أجل التعليل، وأن التعليل هو بوجه ما تعبد. وقد تم التوصل إلى ذلك بعد أن خلصا من معناهما المطلق ليأخذا معانيهما داخل الدائرة البيانية العربية.
وسيسلك هذا البحيث المتواضع جدا، منهجية جديدة واتجاها نقديا يقوم على إعادة النظر في أصول المسائل ومباديها. بحيث سيطرح مفهوم التعليل والمعنى والتعبد والتحكم أمام البحث وسيجردان من بداهتهما وبالتالي مطلقيتيهما، ليعاد صوغ معانيهما صياغة جديدة ونسبية. فالكثير من معوقات البحث الشرعي ناجم عن عدم تحرير موضوع النزاع وتحديد المفاهيم.
تعبد التعليل وتعليل التعبد: من اللا معنى إلى المعنى .. أحمد بيبني الشنقيطي
من طرف
اترك رد