نعمان عباسي: قسم علم الاجتماع جامعة سكيكدة- الجزائر
أولا :مقاربة الموضوع
يطرح الاستبعاد الاجتماعي كظاهرة ملازمة للحداثة، فطبيعة المجتمعات المعاصرة لا تكاد تخلو من وجود شكلين للاستبعاد بلغا درجة فائقة من الوضوح والتبلور، الأول هو استبعاد أولئك القابعين في القاع والمعزولين عن التيار الرئيسي للفرص التي يتيحها المجتمع. أما الشكل الثاني – عند القمة – فهو الاستبعاد الإرادي، أو هو ما أسماه غيدنز (ثورة جماعات الصفوة)، حيث تنسحب الجماعات الثرية من النظم العامة، وأحياناً من القسط الأكبر من ممارسات الحياة اليومية، خاصة مع ازدياد تسارع وتيرة العولمة التي تمخضت عنها هوة داخل جسم المجتمع مما ولد مظاهر الاحتجاج والسخط والتذمر الشامل كما تمر به حاليا المجتمعات العربية مما عصف باللحمة الاجتماعية وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا لمصير العالم العربي برمته.
ولقد رصدت المجتمعات الغربية استراتيجيات وآليات لمحاربة الاستبعاد والتقليل من وطأة أعراضه، وتمثل “دولة الرفاه” وبديلها المعاصر “الطريق الثالث” نموذجان في هذا الصدد يجمعان بين آليتين أساسيتين وهما:
تفعيل المجتمع المدني: حيث يشكل المجتمع المدني أحد أهم ميزات النظم الديمقراطية وكونه بعدا بنيويا أو شبه ثقافي وكأنه روح تلك المجتمعات المعاصرة، وهو يشمل كل ما لا يختص بالدولة من المؤسسات والجمعيات.
ترشيد رأس المال الاجتماعي: على اعتبار أن رأس المال الاجتماعي يمثل جوهر المجتمع المتماسك الفعال، وأن غيابه يفسر كثيرا من المشاكل المعاصرة، إذ يعرف بأنه “الشبكة الترابطية بين أفراد المجتمع”.
بيد أنه في المجتمعات العربية لم تنجح محاولات عديدة لاقتفاء أثر هذا النموذج أو غيره من التجارب الكثيرة لمكافحة الاستبعاد الاجتماعي، ويعود ذلك لاختلافات بنيوية أنتجتها سياقات تاريخية وثقافية مفارقة للتجربة الاجتماعية الغربية و”للمجال الحيوي” أي الحضاري الذي صدرت منه المجتمعات العربية والذي يصيغ مستقبلها وبطبيعة الحال راهنها.
ومن جهة أخرى فإن عملية “إحياء شبكة العلاقات الاجتماعية” يعد بديلا واعدا لإرساء دعائم الاندماج الاجتماعي لمختلف شرائح المجتمع، فشبكة العلاقات الاجتماعية التي تعد بمثابة: صيغة جنينية مغروزة في كينونة المجتمع ويتم عكسها عمليا على شكل علاقات ترابط، ولهذا الترابط بعدين عمودي وأفقي.
إن إحياء شبكة العلاقات الاجتماعية يمكن من تلافي الإقصاء الاجتماعي كمعضلة مطروحة على المجتمعات المعاصرة، وللتخفيف من حدة الاحباط من الواقع والتوجس من المستقبل غير الأكيد، لكون شبكة العلاقات الاجتماعية تمتلك خصائص جوهرية باعتبارها عماد المجتمع .
وفي هذه الورقة سأحاول مناقشة هذه المسائل، وأوضح حيوية إحياء شبكة العلاقات الاجتماعية كاستراتيجية لمكافحة الاستبعاد الاجتماعي، استناد إلى الأطروحة التي صاغها المفكر مالك بن نبي حول مشكلة الحضارة من خلال العناصر التالية:
أولا: الاحتواء / الاستبعاد الاجتماعي : قراءة في المفاهيم
ثانيا: إستراتيجية محاربة الاستبعاد الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة
ثالثا : إحياء شبكة العلاقات الاجتماعية كإستراتيجية لمكافحة الاستبعاد الاجتماعي
أولا: الاحتواء / الاستبعاد الاجتماعي : قراءة في المفاهيم
1- لمحة تاريخية حول الاحتواء / الاستبعاد الاجتماعي : (1)
تعد القراءة السوسيولوجية الأمريكية لمفهومي الاحتواء / الاستبعاد التي تمت في خمسينيات القرن الماضي هي الأولى من نوعها ، لكن أصولها النظرية تعود إلى جورج زيمل G. Simul في كتابه الفقراء ( Des Amre) [1908] ، حيث حاول أن يشرح كون الفقر لا يمكنه أن يشكل فئة اجتماعية في ذاتها ، و بالتالي فإن سوسيولوجيا الفقر لا يمكن أن تقوم ، لأن البحث في هذا الموضوع ليس هو الفقر في ذاته ، و إنما تشكله كتمثل اجتماعي وكموضوع للبحث السوسيولوجي .
و كاستمرارية لهذا المنحى ، حاول منتسبو مدرسة شيكاغو في الثلاثينات من القرن الماضي تجديد هذه الأعمال ، غير أنه في فترة الخمسينيات و الستينيات ، و تحت تأثير المنحى النسقي في علم الاجتماع الذي هدف إلى تفكيك المنظور الذي وضعه زيمل ، بعد ترجمة نصه تحت عنوان ” الفقير The Poor ” ، و قد تجسّد ذلك في البنائية الوظيفية التي صاغها تالكوت بارسونز T.Parsons ، و الذي حاول دراسة نجاحات المجتمع كما اخفاقاته ، حيث قدم لهذا الغرض شبكة تحليلية لموضوع الاستبعاد ، بحيث اعتبره ظاهرة استثنائية وعرضية في النسق الاجتماعي ، و اقترح ” حلولا تصحيحية احتوائية “، والتي تقوم بها الأنساق الفرعية ، مع العلم أن الوظيفية تنظر إلى الاحتواء كجوهر للاستبعاد الذي يتضمنه كل نسق اجتماعي ، وهذا ما ذهب إليه أيضا نيكولاس لوهمان N.Luhman في ألمانيا ، أما ألان توران A.Touraine فقد أدمج البعد التاريخي لفهم ديناميات الأنساق الاجتماعية المتضمنة للصراعات التي تخترقها منتجه الاستبعاد أو الاحتواء الاجتماعيين.
أما في بريطانيا فقد أثيرت مسألة الاحتواء / الاستبعاد في نفس الفترة تقريبا ، و لكن غلب عليها الطرح السياسي الإصلاحي ، و كانت المقاربة التي تمّ تبنّيها من قبل مركز الدراسات الثقافية المعاصرة [c.c.c.s] هي المقاربة البنيوية ذات التوجهات اليسارية ، كما تجلى ذلك في عمل نُربت إلياس N.Elias : ” الواقع المفروض و المقصيين Established and Outsiders ” سنة 1965 ، حيث خلصت هذه الدراسة إلى وجود فقر متبقي “Pauvreté Risiduelle ” متجسدة في : التهميش ، عدم المقدرة على على التكيف ، الإقصاء … كمصاحب بنيوية للمجتمعات الحديثة .
و حتى و إن حاولت السياسات إذ ذاك تداركها ، لكن تيار ما بعد الحداثة انتقد الواقع والإجراءات التي حاولت تقديم جرعات تسكينية لمجاراة اللامساواة و اللاشفافية في توزيع الثروة والفرص في المجتمعات الليبرالية ، بل ذهب هذا التيار إلى أبعد من ذلك بنقضه للأسس المعرفية و الإيديولوجية التي تقوم عليها الحضارة الغربية أي : العقلانية و الديمقراطية ، لأنها حسب ديريد أوفوكو و غيرهم تقوم في أساسها على ” إرادة القوة ” كما رسّمها أب تيار ما بعد الحداثة : نيتشه ، فالمستبعدون لا يملكون القوة ، أما الأقوياء فهم من يقوم باحتواء التهميش كإستراتيجية للمحافظة على ” المصالح المتأصلة ” ، فهذا التيار تجاوز الماركسية بأن ذهب إلى أبعد من ” الصراع الطبقي ” ، القائم على الثروة المادية فالمعرفة عندهم هي القوة ، والمستبعدون ( المستضعفون ) لا يملكون منها إلا النزر اليسير الذي يسمح به المتنفذون ( المستكبرون ) .
2- حول مفهومي الاحتواء / الاستبعاد : التعريف و الأبعاد
يعرف جون هيلر الاستبعاد على النحو التالي :
” الاستبعاد هو نقيض الاندماج أو الاستيعاب ، فهو موضوع حيوي كاشف لطبيعة البنية الاجتماعية في أي مجتمع ، فالاستبعاد ليس أمرا شخصيا ، و لا راجعا إلى تدني القدرات الفردية فقط بقدر ما هو حصاد بنية اجتماعية معينة ، و رؤى محددة و مؤشر على أداء هذه البنية لوظائفها ” (2)
وعليه فإن ثنائية الاحتواء / الاستبعاد تتحدد من خلال منطق ضدي ، أي أنه كلما نجح المجتمع في بسط الاحتواء الاجتماعي كلما نقصت دائرة الاستبعاد والعكس صحيح ، و لمحاولة وضع تعريف يتماشى و الإشكالية المطروحة ، سأحاول التركيز فيما يلي على الاستبعاد الاجتماعي تعريفا و خصائص و أبعاد و أنواع :
يعرف أنتوني جيدينز A.Giddens الإقصاء أو الاستبعاد الاجتماعي بأنه المفهوم الذي يدل ” على السبل التي تسد المسالك أمام أعداد كبيرة من الأفراد للانخراط الكامل في الحياة الاجتماعية الواسعة […] و إذا ما أريد للمجتمع أن تتوفر فيه عناصر التكامل و الاندماج ، فإنه من المهم أن يشارك أفراده في الخدمات التي تقدمها مؤسسات عامة عديدة ، مثل المدارس ومرافق الرعاية الصحية و النقل العام ، و من شأن ذلك أن يعزز معنى التضامن الاجتماعي بين الناس ” (3)
ويبدو حسب هذا التعريف أن محصلة الأفراد من الثروة الاجتماعية هو المعيار الأساسي الذي يتمحور الاستبعاد / الاحتواء، حتى و إن لم يهمل المشاركة الواسعة للأفراد في الحياة الاجتماعية ، و يؤيد ذلك الأبعاد التي وضعها مجموعة من الباحثين في مدرسة لندن للاقتصاد كتحليل للاستبعاد الاجتماعي و هي:
– عدم التمكن من استهلاك السلع و الخدمات.
– عدم وجود فرص فعلية للمساهمة في أنشطة ذات قيمة اقتصادية و اجتماعية.
– نقص المشاركة في وضع القرار على المستوى المحلي و الوطني.
– ضعف التفاعل الاجتماعي مع المحيط.
و يتفق ما سبق ذكره مع التوجه العام للبحث الاجتماعي في ظاهرة الاستبعاد ، حيث أن الفقر هو المولد الأساسي للاستبعاد أو لشكله الرئيسي للمجتمع، حيث يذهب جواد بشارة إلى اعتبار المعيار الاقتصادي المحدد للتهميش فيرى : ” ينبغي التوقف عند العامل الاقتصادي حيث يتحدد الهامش في عدم الاندماج في نظام معين ، لذلك تعتبر القوى التي لا تندمج في النظام القائم هامشية بالنسبة له ، و نجد في الاقتصاد مفهوم القطاع غير المنظم [ الموازي] ، فالفئات الفاعلة في هذا القطاع تنشط في حيز غير منظم و غير خاضع للضوابط الاقتصادية السائدة ، وتتميز بأنماط سلوكية و نفسية معروفة ، غالبا ما يظهر القطاع غير المنظم في فترات الحروب و يكون الوجه الآخر لانحسار دور الدولة في تأمين الخدمات و فرص العمل … ” (5)
غير أن الحديث على الاستبعاد الاجتماعي يفترض فضاء مركزيا يستبعد منه الأفراد والجماعات، بمعنى مركزا و هامشا داخل الحياة الاجتماعية ، و هذه الأخيرة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي المادي فقط ، و هذا ما يؤكده رائد فهمي حيث يعتبر النموذج الأقرب إلى المستبعد اجتماعيا هو غير المتمثل للقواعد و المعايير الاجتماعية ، أي أنه هو من لا يقبل بقيم الأنظمة السائدة عن وعي أو عن جهل ، فالآلية المجتمعية ( السياسية و الأخلاقية ) تقصي بعض الناس فتبقيهم خارجها و تعجز عن دمج آخرين فتتركهم على هامشها ، فليست الدولة فقط من يسهم في ذلك ، حتى و إن كانت هي الأكثر تأثيرا ، فهناك ثقافات تنزع إلى إقصاء من يخالفها (6).
صحيح أن البعد الاقتصادي هو العامل الأكثر انتشارا ، و لكنه ليس الأكثر تأثيرا في فرض ظاهرة الاستبعاد ، و الدليل على ذلك أن مكافحة الاستبعاد لا تكون يإغداق المنح والخدمات على المستبعدين ، و إن كان ذلك سيساعدهم بدرجة معينة ، فيبقى البعد الثقافي ذو تأثير حاسم ، ليس في تحديد المستبعد رسميا و قانونيا فقط ، بل و اجتماعيا و ثقافيا لدى المستبعدين أنفسهم و عند عامة الناس.
فكما يرى الحبيب العايب من منظور الجغرافيا الاجتماعية و السياسية : ” المستبعد يجب ان يعرف من منطق الهامش و المركز، أي أن المهمش لا يمكن أن يكون مهمشا في حد ذاته ، بل بالنسبة إلى حالة أو وضع مركزي، يمكن أن نتحدث عن قرية أو منطقة أو بلد مهمش مثلا ، يمكن أن نتحدث عن فئات مهمشة في مكان محدد ، و تهميش المكان قد يرتبط بتهميش فئات اجتماعية ، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأحياء و الشوارع الفقيرة ، أو الشوارع التي نجد فيها أنشطة يرفضها المجتمع ” (7) ، و يحدد تبعا لذلك معايير لتحديد الاستبعاد الاجتماعي ، فبالإضافة إلى المعيار الجغرافي أو المكان هناك : (8)
– المعياري : أو ما يسمى بالوصم الاجتماعي مثل امتهان حرف معينة.
– الأصل الفضائي أو القبلي أو الديني أو الإثني .
– الأساس الاجتماعي / الاقتصادي: الذين لا يصلون إلى الموارد الاقتصادية و الخدمات.
فالأساس الاجتماعي / الاقتصادي هو الطاغي في مجال البحث الاجتماعي لمقاربة ظاهرة الاستبعاد ، و لكنه ليس بالضرورة الطريق الملكي ، لأن الاستبعاد أنواع عديدة حسب التصنيفات ، و منها ما اقترحه جيدنز على النحو التالي : (9)
– الإقصاء الاقتصادي: يفصل الأفراد و الجماعات عن البيئة الاقتصادية العامة للمجتمع من ناحية الإنتاج و الاستهلاك.
– الإقصاء السياسي: حرمان المرء أو إبعاده عن المشاركة في الأنشطة السياسية في المجتمع.
– الإقصاء الاجتماعي: يتضمن استبعاد الأفراد و الجماعات في نطاق الحياة الاجتماعية اليومية، من بعض النشطة الثقافية أو الفنية …
بيد أن هذه الأنواع متفاعلة و تؤثر في بعضها البعض ، فالاستبعاد السياسي يؤدي إلى استحواذ فئات اجتماعية على سلطة القرار ، و بالتالي الاستفراد بالخيرات المادية مما يولّد الاستبعاد الاقتصادي و الاجتماعي ، كما أن الاستبعاد الاقتصادي يؤدي إلى حرمان شرائح من المجتمع من الخدمات الأساسية و على رأسها التعليم ، مما يجعلهم مقصيين من الحياة السياسية أيضا و هكذا ، كما يمكن في سياق التصنيفات طرح نوعين آخرين من الاستبعاد الاجتماعي وهما القسري ( الاجباري ) و الاختياري ( الإرادي ) :
القسري : وهو الذي يتم التركيز عليه كنتيجة لعمل البنية الاجتماعية و على رأسها الاقتصادية، فيدخل ضمنها القابعون في قاع السلم الاجتماعي عموما ، و الخارجون عن نظام التراتب والحراك الاجتماعي .
– الاختياري: و هو الذي يكون بإرادة الأفراد أو الجماعات لأسباب سياسية أو فكرية أو حتى ثقافية ، مثل المثقفين الغير معروفين ، الغرباء ، ذوي الأصول أو الديانات أو حتى المذاهب التي تشكل أقلية في المجتمع.
و عليه فإنه لفهم آليات محاربة الاستبعاد الاجتماعي و إحلال الاحتواء الاجتماعي ، عن طريق استيعاب المجموعات الاجتماعية التي تعيش في الهامش، سأحاول عرض إستراتيجية ” دولة الرفاه ” المستندة إلى تنمية المواطنة ، و هي الإستراتيجية التي تعد الأهم على الصعيد المجتمعي ( الماكروسوسيولوجي ) ، أما على الصعيد الفردي و الميكروسوسيولوجي فإن خيار الطريق الثالث هي الآلية الأبرز كما هو سائد في المجتمعات الغربية ، على ضوء مستجدات العولمة التي عصفت رياحها على التنظيمات الاجتماعية الحديثة التي انتقلت من مجتمعات صناعية إلى مجتمعات ما بعد الصناعة .
ثانيا: إستراتيجية محاربة الاستبعاد الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة
رصد أنتوني جيدنز محطات العلاقة المتحولة بين الاستبعاد و الاحتواء في سياق مناقشته لطبيعة المواطنة في الدولة الغربية على النحو التالي : (10)
– تميز القرن الثامن عشر بظهور ” الحقوق المدنية ” التي تشمل أنواعا مختلفة من الحريات الفردية مثل: حرية التعبير و الرأي و المعتقد، حرية التملك…
– شهد القرن التاسع عشر نشوء ” الحريات السياسية ” مثل : حرية التصويت ، شغل الوظائف والمناصب العامة …
– و لم يبرز مفهوم ” الحقوق الاجتماعية ” إلا في القرن العشرين ، و أصبحت حقوق المواطنين في النشاط الاقتصادي و الضمان الاجتماعي و الرعاية الصحية و الإسكان و التقاعد جزءا لا يتجزأ من منظومة المجتمع المعاصر .
و إن دلّ هذا الاستقراء على شيء فإنما يدل على نسبية المعايير في تحديد من هو مستبعد ممن هو محتوى اجتماعيا ، فإذا كان هذا في مجال الزمان فما بالك بمجال الحضارة التي تشمل إضافة إلى تغاير معطى الزمان و المكان ، تبدل القيم و المعايير الثقافية ، و على كل حال فإن مناقشة إستراتيجيات محاربة الاستبعاد الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة ، سيقتصر في هذا العنصر على الدول الغربية ، و يمكن تمييز إستراتيجيتين أساسيتين هما : “دولة الرفاه ” و ” الطريق الثالث ” كبديل للأولى ، يبقى أنهما يعتمدان بالدرجة الأولى على آليتين أساسيتين هما : المجتمع المدني و رأي المال الاجتماعي ، من أجل تفعيل برامج محاربة التهميش و الهشاشة الاجتماعية ، و التي يمكن رصدها في أربعة محاور أساسية:
– خلق شبكة خدمات و مؤسسات القرب.
– وضع آليات لتمويل البرامج المعدة لمواجهة الهشاشة و دعم الفئات الضعيفة.
– توفير نموذج للحكم الراشد في مجال التنمية و تقنينها.
– خلق تعبئة اجتماعية من أجل مواطنة كاملة و مجتمع عادل.
و على هذا سأحاول عرض الأسس النظرية لهاتين الإستراتيجيتين فيما يلي:
1- دولة الرفاه:
1-1: تعريفها(11)
تعرف أغلب الدول الصناعية المتقدمة بأنها دول ” رفاه ” ، تقوم فيها الحكومة بدور مركزي في تخفيف وجوه اللامساواة في المجتمع عن طريق دعم مجموعة من السلع و الخدمات ، بهدف التعويض عن الآثار السلبية التي يتركها السوق في المجتمع.
والرفاه على هذا الأساس أسلوب معالجة المخاطر التي يواجهها الناس على مدار حياتهم مثل : المرض ، العجز ، الشيخوخة ، فقدان العمل ، و تتباين خدمات الرفاه بين دولة و أخرى ، غير أنها غالبا ما تتركز على تقديم المعونة و الدعم في مجالات : التعليم و الرعاية الصحية و الإسكان و مساندة الدخل و العجز و البطالة والتقاعد .
و يفسر ظهور هذا النمط من إستراتيجيات محاربة الاستبعاد الاجتماعي من المنظور السوسيولوجي على نحو مختلف ، ففيما يرى المنظرون الماركسيون أن تطور أنساق الرفاه إنما كان محاولة لإنقاذ النظام الرأسمالي ، ينظر الوظيفيون لدولة الرفاه كهدف يسهم في التتام و الاندماج الاجتماعيين بصورة ميسرة و منظمة في ظل عمليات التصنيع المتقدمة.
1-2: أنماطها
بمقارنة السياسات الخاصة بالتقاعد و البطالة و الدعم التكميلي للدخل في عدد من بلدان العالم الصناعي ، تتجلى ثلاثة أنماط لدولة الرفاه : (12)
– النمط الاجتماعي الديمقراطي : الذي تتسم فيه خدمات الرفاه بظاهرة اللاتسلع ، إذا تقوم الدولة بدعم خدمات الرفاه ( أي المنافع الشاملة ) لجميع المواطنين ، و يطبق هذا النمط في أغلب الدول الاسكندنافية .
– النمط المحافظ المشترك : كما هي الحال في فرنسا و ألمانيا ، قد تكون خدمات الرفاه غير مرهونة بقيمتها في السوق ، لكنها ليست بالضرورة شاملة لجميع الأفراد .
– النمط الليبرالي : الذي يمثله الولايات المتحدة ، و تتمثل قيمة خدمات الرفاه هنا بأثمانها في السوق ، و تباع لمستخدميها من خلال المؤسسات و الأنشطة التجارية ، أما المعوزون فتقدم لهم المعونات و غالبا ما يلحق بهم ” الوصم ” الاجتماعي .
2- نموذج ” الطريق الثالث”
إن هبوب عاصفة العولمة على المجتمعات الغربية أدى إلى فشل نموذج ” دولة الرفاه ” في أغلب هذه المجتمعات ، مما أدى إلى البحث عن ” طريق ثالث ” في التنمية، قصد التغلب على الصعوبات التي تمخضت عن التغيرات المهولة في البنية المجتمعية ، و خاصة اتساع رقعة الآفات الاجتماعية ( البطالة ، الانحراف ، انهيار نسيج الأسرة … ) و تفاقم الهوة بين الأغنياء و الفقراء مما أدى إلى استبعاد اجتماعي مزدوج لم يمسي قضية محلية أو قطاعية أو تتعلق بجيوب محددة ، و إنما بقطاعات واسعة من المجتمع حتى التي كانت في منأى عن التهميش أي تهشم ” الطبقة المتوسطة” في المجتمع التي أضحت أكثر هشاشة و عرضة للتآكل السريع.
و قد أدى كل ذلك للبحث عن سبل جديدة للتنمية من أجل احتواء الوضع ، و”الطريق الثالث” هو الأهم خاصة مع التحول إلى مجتمعات المعلومات.
2-1: تعريفه (13)
اصطلاح الطريق الثالث استخدم من قبل بمغزى سياسي ، و يعني النظام الذي مزج بين أفضل ملامح الاقتصاديات المخططة و أفضل ملامح اقتصاد السوق ، في ظل الديمقراطية الليبرالية .
حيث يشير الطريق الثالث إلى إرساء قواعد الثقة المتبادلة من أجل استثمار اجتماعي و تعزيز أشكال المواطنة، حيث ينظر إلى المجتمع المتساند كمؤشر أساسي للمشاركة في المعلومات و تطوير القبول الواسع للمسؤولية الجماعية.
إن هذا النهج قام على إحلال الرفاهية ، و لكن لكي تشمل فئات اجتماعية أوسع ، و ذلك بالاهتمام بالمشكلات الاقتصادية و إيجاد حلول لها في المناطق والمجتمعات المحلية المستبعدة مع تأكيد خاص على الشباب ، كما بذل جهود إضافية لمواجهة الاستبعاد الاجتماعي من خلال تنمية سوق العمل و مشاركة القطاع الخاص ومساندة رجال العمال ، أما الدور الأهم للحكومة المركزية ، فيتمثل في تقديم الموارد من أجل خلق ثقافة أفضل للمواطنة ، و عليه فإن مقومات الطريق الثالث هي :
– إعادة تنظيم الخطط السياسية لتتلاءم مع الاحتياجات الجديدة.
– رفض الرأسمالية المتوحشة و الأسلوب الجامد للديمقراطية الاجتماعية.
– تأسيس ” العدالة الاجتماعية ” من الأسفل أي أن الفئات الشعبية عي التي تحدد الأولويات.
2-2: آليات محاربة الاستبعاد الاجتماعي
تتمثل أهم الآليات في تفعيل دور المجتمع المدني و مكوناته ، و كذا تثمين رأس المال الاجتماعي و رسكلة رأي المال البشري المهمش ، بمعنى إعادة تفعيل دور المواطنة ، و ذلك وفق النقاط التالية : (14)
– تدعيم الشفافية في التسيير ، و المسؤولية الجماعية ، و إحياء دور الحكومة المحلية.
– إرساء ” الاقتصاد الاجتماعي ” : أي تثمين دور المجتمع المدني غير الربحي .
– إعداد برامج طويلة الأجل للتدريب و زيادة التأهيل ، حيث أن المستبعدون من المجتمع سوف يشكلون طاقة محركة إلى الأمام إذا ما تمّ إعادة استيعابهم .
– المسؤولية الجماعية لتحقيق تراكم رأس المال البشري و الاجتماعي و إنتاج قوة العمل الماهرة .
و عليه فإن المبادئ التي تحرك الطريق الثالث تدعم و تتجه لاستعادة الثقة العامة في السياسة ، و توفر تسهيلات أكثر لميكانيزمات المساندة في المجتمع ، كما أنها يجب أن تكون أكثر ملائمة لمجتمع المعلومات ما بعد الصناعي .
3 – قراءة نقدية في إستراتيجيتي : ” دول الرفاه ” و ” الطريق الثالث ”
رغم أن الطريق الثالث يبدو كتجديد لإستراتيجية دولة الرفاه إلا أنهما يقومان على تفعيل رأس المال الاجتماعي و المجتمع المدني و هذان الأخيران يشكلان تحيزا مفهوماتيا و يعبران عن أزمة الحداثة و هذا للأسباب التالية : (15)
– تعبر ظاهرة المجتمع المدني عن أزمة التي تواجه الدول الحديثة ، و إلا فكيف نفسر بروز جمعيات لا ربحية تقوم بمهام ، يفترض في الدولة وفق ” العقد الاجتماعي ” أن تقوم بها .
– بعض منظمات المجتمع المدني هي تكتلات فئوية ضيقة ، تسهم في الاستبعاد الاجتماعي
– كما أن رأس المال الجتماعي ارتكس إلى منطق نفعي ، عوض إحلال التوجه التعاضدي العرفي.
و يلخص أنتوني جيدنز مأزق هاتين الإستراتيجيتان في قوله : ” إن الرفاه لا يعني مجرد الازدهار المادي ، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى الطمأنينة الاجتماعية بين الناس ، من هنا تحول السياسات الاجتماعية للإعلاء من شأن التماسك و التضامن الاجتماعي ، و تطوير شبكات علاقات التبادل المشترك بين الناس ، و الارتقاء بقدرة الناس على مساعدة أنفسهم بأنفسهم ، كما أخذت الحقوق و المسؤوليات تكتسب أهمية جديدة لا تقتصر على من يعيشون في قاع المجتمع و يحاولون الخروج من دائرة المعونات الاجتماعية ممن يتعين عليهم ألا يتهربوا من مسؤولياتهم و واجباتهم المدنية والاجتماعية و المالية تجاه المجتمع ” (16)
– فهل توجد بدائل أخرى لمواجهة مخاطر الاستبعاد الاجتماعي ؟
خاصة في إطار فضاء حضاري مغاير بالنسبة للمجتمعات الإسلامية ، ليس فقط ماديا و تكنولوجيا ، و لكن ، و هذا الأخطر: ثقافيا و عقائديا .
ثالثا : إحياء شبكة العلاقات الاجتماعية كإستراتيجية لمكافحة الاستبعاد الاجتماعي
1 – مفهوم شبكة العلاقات الاجتماعية عند مالك بن نبي(17)
1-4: التعريف
لقد كان مالك بن نبي رحمه الله تعالى سباقا في إدراك إشكالية شبكة العلاقات الاجتماعية و دورها في الاستقرار المجتمعي و التماسك الوطني بل و إمكانات النهضة، فقد قدم المفكر طرحا غنيا متعدد الأوجه للمفهوم ، و يتدرج هذا الطرح من العمومية إلى التخصيص ، كما سنعرضه تاليا:
– فمن زاوية أكثر تجريدا يمكن أن نفهم شبكة العلاقات الاجتماعية كصيغة جنينية مغروزة في كينونة المجتمع و يتم عكسه عمليا على شكل علاقات و روابط ، و بعبارة مالك بن نبي هناك ” صفات ذاتية للمجتمع ” تضمن استمراره و تحفظ شخصيته و دوره عبر المجتمع ” ، و يتجسد في نهاية الأمر ” في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم ، و توجه ألوان نشاطهم المختلفة في اتجاه وظيفة عامة، هي رسالة المجتمع الخاصة به ” ، و تكمن محورية شبكة العلاقات الاجتماعية في أنها تشكل القاعدة التي تمكن مصادر الفعل الإنساني الثلاثة(الإنسان والوقت والتراب) من العمل و التأثير في “صناعة التاريخ ” ، و في أنها تتشكل – حسب طرح المفكر – من التأثير في عوالم ثلاث : عالم الأشخاص و عالم الأفكار و عالم الأشياء ، و التي لا تعمل متفرقة بل يفعلها و يسير عملها عالم رابع من شبكة العلاقات الاجتماعية .
– أما على صعيد أكثر تحديدا فإن مالك بن نبي يذهب في مواضع معينة إلى تعيين ملموس لمفهوم شبكة العلاقات ، يتمثل عنده في جميع صور التجمع من مظاهرة أو مدرسة أو مصنع أو نقابة أو سينما ، و يقابل هذا الوصف لتمظهرات شبكة العلاقات تعبير جذري لها يقرّ أنها إنما تكمن في أنها ” النتيجة الأولى الرئيسية لـ ( روح ) المجتمع ” .
1-2: عناصرها
هذه العناصر عند مالك بن نبي هي المؤسسات الطبيعية أو الأقل اصطناعية ألا وهي : مؤسسات الأسرة و الجوار و المسجد .
و يذكرنا المفكر أن المسجد هو ” مطبخ أشخاص ” يرتبطون بالمجتمع و هذا
” الاجتماع يجمل في مضمونه أكبر المعاني التي تذكره بميلاده ، فهو رمزه و تذكاه ” .
و لا يخفى أن هذه المؤسسات تمتاز بأنها مؤسسات عضوية متلاحمة مع الوجود الإنساني و ليست متحيزة خارج النشاط الطبيعي للإنسان ، أي أن وجودها سابق للجهد الواعي للإنسان ، و تمتاز مؤسسات الأسرة و الجوار و المسجد في أنها تشمل في نفس الوقت الفرد و الجماعة .
كما تمتاز هذه المؤسسات بأنها تخاطب كلية الكيان الإنساني ، فهي تخاطب عقله و روحه في آن واحد ، بل إن الضمير و الوعي الإنساني ينبثقان من خلال أكناف هذه المؤسسات ، كما أنها مندمجة و رسائلها متداخلة ، و لكن علينا أن نذكر بالخصوصية الإسلامية ، فالمسجد ليس معبدا منعزلا ، و ليس كنيسة وفق النمط الكاثوليكي القائم على إكليروسية ، كما أنه ليس ضمن النمط البروتستانتي الذي يقترب من صورة المنظمة اللاربحية المرتبطة مع المجتمع ارتباطا تمفصليا و ليست بالضرورة عضوية .
و من المهم أن نفرق بين وجهين لفكرة شبكة العلاقات الاجتماعية ، فمن وجه يمكن فهم الشبكة على أنها روابط مجردة و أن محض هذه الروابط ضروري لقيام أي مجتمع و هو ما تركز عليه الكاتبات الحديثة في علم الاجتماع من خلال : المجتمع المدني و رأس المال الاجتماعي ، أما الوجه الثاني فهو الذي يأخذ بعين الاعتبار إطار هذه الروابط و هويتها و جذرها التاريخي ، و قد عبر مالك بن نبي عن ذلك بما نصه :
” و خلاصة القول إن أصل شبكة العلاقات الاجتماعية – الذي يتيح لمجتمع معين أن يؤدي عمله المشترك في التاريخ – إنما يكمن في تخلق تركيبه العضوي التاريخي ، وعلى هذا فإن تاريخ هذا التركيب هو الذي يفسر أصله” ، كما يحدد في الوقت نفسه طبيعة العلاقات الاجتماعية الثلاث : الأسرة و الجوار و المسجد ، مساحات متداخلة من جهة ، و مساحات متتالية تختص بتركيز متفاوت في معالجة الجزئي و الكلي في حياة البشر من جهة أخرى.
1-3: أبعادها:
تتمثل أبعاد شبكة العلاقات الاجتماعية في خصائص المستويات التحليلية ، و إن صلاحية أية شبكة يتعلق بمدى قوة خيوط الترابط و كثافتها ، و كما يشير مالك بن نبي فإنما يقاس غنى المجتمع بما يملك من أفكار و ليس من أشياء ، و أن فعالية الأفكار متوقفة على شبكة العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع ، و يمكن ملاحظة أن الترابط يحمل بعدين : عمودي و أفقي ، و لكل منهما وجها ثقافيا ( مضمونيا ) و بنيويا
( مؤسسيا ):
أ- الترابط العمودي: و هو ذلك الترابط الذي يشبك شرائح المجتمع التي رفعت فوق بعضها شرائح بحيث يحدث أكبر قدر من التلاحم، و يتمثل الوجه الثقافي لهذا البعد في إرساء معيارية الخيرية في المجتمع، أي أنه حين يفعّل مفهوم الاستقامة فإنه يدفع باتجاه تزكية الفرد لصالح العام و تزكية العام لحفز ما يراه الفرد صالحا في حقه ، ويؤكد مالك بن نبي أن جوهر العلائق الاجتماعية الملموسة إنما هو ” ظل ” العلاقة الروحية بين الله تعالى و الإنسان التي تحققت في مجال زمني معين .
أما الوجه البنيوي للترابط العمودي فإنه يمكن أن ينعكس في العديد من الترتيبات المعاشية التي يصعب حصرها ، و لكن لعل أهمها هو تنظيم الحياة بشكل : أحياء ومدن و قرى …
ب- الترابط الأفقي : و هو ذلك الترابط الذي يشبك المجموعات الثقافية و الإثنية في المجتمع بحيث يدمجها في صيغة تعارف و تكامل يغني الأواصر و يحرسها من التحول إلى تمحورات متنازعة .
و يتمثل الوجه الثقافي لهذا الترابط في الهوية الانتمائية التي يغرسها المجتمع في أذهان أفراده ، فيمكن أن تتوجه الهوية نحو فكرة أرض مقدسة أو أرض لا تغرب عنها الشمس أو فكرة شعب الله المختار أو شعب سامي ، أما الهوية الإسلامية فهي تنزع إلى تجريد الجغرافيا و التاريخ و لكن من غير أن تنفيهما ، أما البعد البنيوي للأواصر الأفقية فإنه يتمثل في التطبيقات التي تمزج بين الجماعات الإثنية داخل الأمة عبر التعارف و التشارك الفعلي ، و ليس الوجداني فقط.
ماذا يفيدنا تفعيل شبكة العلاقات الاجتماعية للقضاء على الآفات الاجتماعية ومنها الاستبعاد الاجتماعي ، لإحلال الاحتواء و التماسك بين الأفراد و الجماعات في المجتمع ؟
للجواب على ذلك من المفيد مقارنة ذلك بإستراتيجية الاحتواء المتبناة في الغرب ، والتي لم تعمل إلا على تسكين آثار الاستبعاد الاجتماعي المتفاقمة ، فشبكة العلاقات الاجتماعية تتميز بخصائص تتفوق على المجتمع المدني و رأس المال الاجتماعي ، اللذان تعول عليهما ” دولة الرفاه ” و ” الطريق الثالث ” في محاربة الاستبعاد الاجتماعي، حيث يرشدنا مفهوم شبكة العلاقات الاجتماعية إلى عدة أمور : (18)
– إن شبكة العلاقات الطبيعية نبع زاخر لحل مشاكل المجتمع اليومية على كثير من المستويات ، و إنه لا يعقل استغناء الترتيبات المجتمعية عنها.
– إن الترتيبات الحديثة التي تنعكس سلبا على هذه العلاقات إنما هي ترتيبات قاصرة النظر نتج عن تبنيها عنت اجتماعي له شواهد كثيرة .
– إنه و بقدر المستطاع يجب أن تمر فعاليات المجتمع الحديث عبر هذه الشبكات، أي أنه يجب استثمار هذه الشبكات لتحقيق المصالح العامة.
– إن التأكيد على حيوية شبكة العلاقات الاجتماعية و على البعد الإيجابي للمديونية المجتمعية بين أفراد المجتمعات الشرقية ( المسلمة و غير المسلمة ) يجب أن لا تنزلق في تبرير العلاقات العصبية…
– إنه لكي تكون مؤسسات المجتمع المدني فعالة حقا، يجب أن تتمركز عند مفاصل شبكة العلاقات الاجتماعية… ، و هذه الصورة ينبغي أن تكون مختلفة تماما عن مؤسسة مجتمع مدني متعالية و مفارقة للمجتمع، تتبنى هدفا غريبا عن البيئة الاجتماعية و حيزها الثقافي.
2- كيفية تفعيل ( إحياء ) شبكة العلاقات الاجتماعية لمكافحة الاستبعاد الاجتماعي:
خلال منتصف التسعينات قام بعض الباحثين الاجتماعيين بإحداث مرصد عالمي للتمثلات الاجتماعية ، تندرج مهامه في رصد و متابعة و نشر الأبحاث الإمبريقية ، المتعلقة خاصة بتحليل أهم الإشكاليات المعاصرة كموضوع الإقصاء والتهميش(19).
بيد أن الاستبعاد كما مر بنا سابقا هو نظام مجتمعي محدد ، لا يمكن تفسيره ببساطة وفق مواصفات المقصيين ، بمعنى أنه ليس شأنا شخصيا و لا أمرا عارضا(20). فكيف السبيل إلى تجاوز ثنائية الفعل ( التمثل الاجتماعي للأفراد ) و البنية (النظام المجتمعي) في تفسير الاستبعاد ، ومن ثمّ في احتواء الفئات المهمشة واسترجاع الشرائح المستبعدة ؟
لعل مدخل تفعيل أو إحياء شبكة العلاقات الاجتماعية ، كما صاغه مالك بن نبي ، يمثل حلا مناسبا و ممكنا ، لأنه يجمع بين الفعل و البنية ، و يزاوج التمثل الفردي والنظام المجتمعي ، فشبكة العلاقات الاجتماعية هي الناظم لعمل عوالم : الأشخاص والأفكار و الأشياء ، فقد أكدت دراسات عديدة على أهمية شبكة العلاقات الاجتماعية Social Network من حيث هي مجموعة من العلاقات الرسمية و غير الرسمية مع الأفراد و المؤسسات التي تعمل على توفير الموارد و المعلومات و المهارات والاتصالات و الخدمات و البرامج المختلفة ، حيث توفر هذه العلاقات للشخص الشعور بالأمان والانتماء ، و الأهمية و القيمة ، كما توفر له المساندة اللازمة وقت الحاجة(21).
و تكمن أهمية آلية عمل شبكة العلاقات الاجتماعية في محاربة الاستبعاد من خلال ما يلي(22):
– تكوين علاقات اجتماعية سوية تعمل على إغناء حاجات الإنسان النفسية والاجتماعية.
– إتاحة الفرص الكافية للإنسان للتعبير عن نفسه.
– توفير الدعم و المساندة النفسية.
– القدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة و تحمل المسؤولية و أداء الواجبات.
– إتاحة الفرص الكافية لممارسة الأعمال و الأنشطة البناءة جماعيا ، و تحقيق الأهداف الشخصية .
– الحصول على المعلومات الضرورية للاندماج في سياق الحياة الاجتماعية.
– المساعدة على المساعدة الاقتصادية وقت الحاجة.
و لما كانت العلاقات الاجتماعية هي ظل العلاقة الروحية بين الله تعالى و الإنسان التي تحققت في مجال زمني معين حسب مالك بن نبي ، فإن الدستور الذي وضعه الله تعالى للبشر لتحقيق السمو و التعالي إلى مرتبة الاستخلاف المنوطة بهم، هو الكفيل بتجاوز الاستبعاد كظاهرة مرضية، فقانون العلاقات الاجتماعية هو ” الإخاء ” ، كما حدده الحديث الشريف : ” السلم أخو المسلم ، لا يظلمه و لا يسلمه ، و من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، و من ستر مسلما ستره الله يوم القيام” [ متفق عليه ] ، بل إن الإسلام ربط الإيمان بشرط أن يجد المسلم في نفسه محبة توازي حبه لنفسه ، كما أقره الحديث الشريف : ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ” [ متفق عليه ] ، و جاء في حديث آخر بما معناه : من لم يهمه أمر المسلمين فليس منهم ، بمعنى أن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة على أسس سليمة ترفض أي نوع من الاستبعاد ، و لا تقرّ إلا باحتواء كامل لكل الشرائح سواء كانت : معوزة ، أو ضعيفة ، أو غير متكيفة أو جامحة …
الخلاصة:
كان نظام الرق منتشرا في كثير من المجتمعات و الثقافات في الماضي ، بل إن الاستعباد كان دعامة لا يستغنى عنها في كثير من الأنظمة الاجتماعية و الاقتصادية، و قد كانت تجارة العبيد قد ازدهرت بشكل ملحوظ مع الكشوفات الجغرافية التي فتحت الطريق لاستعمار ” العالم الجديد ” ، و أعطت بذلك لهذه الظاهرة بعدا ” عولميا ” ، بل إن الحرب الأهلية في الولايات المتحدة كانت شرارتها الأولى بين الشمال و الجنوب هي مسألة تحرير العبيد، بيد أن السواد في أمريكا لم يتمكنوا إلى اليوم من استعادة كرامتهم رغم حصولهم على مواطنة تضمن لهم الحرية دون الكرامة.
و لقد كانت دراسة ظاهرة الاستبعاد ، كما مر بنا في اللمحة التاريخية ، قد بدأ منهجيا في الولايات المتحدة ، و هي النموذج الذي يقتدى به اليوم في سياق موجة العولمة، فالمجتمع الأمريكي و غيره من المجتمعات التي حذت حذوه تعاني من تفاوت رهيب بل و متسارع لمظاهر الاستبعاد ( التهميش ، الإقصاء المنظم ، التمييز العرقي و الديني ، الفقر المدقع …)
فبين استعباد الحقب الخوالي ، يظهر الاستبعاد هو الآلية المجددة لإبقاء التمايز الطبقي بل و الثقافي و الحضاري متأصلا ، ليس في المجتمع الواحد بل بين المجتمعات الإنسانية ، فهل تسعفنا الحداثة بإستراتيجياتها الترقيعية ( دولة الرفاه ، الطريق الثالث ، مناهضة العولمة …) في معالجة الاستبعاد ، الذي هو من إفرازاتها الأصلية لا العارضة ، باسم التطورية الداروينية و مقولات البقاء للأصلح …!
” إن العالم الثالث عموما يمتلك رصيدا هائلا من شبكة علاقات اجتماعية متجذرة في المؤسسات الطبيعية : الأسرة و الحي و أمكنة العبادة ، و أحسب أن بلدان الثقافة المسلمة خصوصا أغنى هذه الشعوب شبكات ( أو على الأقل أقواها كمونا ) لأن مؤسساتها الطبيعية ليست مرتبطة كليا بعادات و تقاليد محلية فحسب ، بل هي مشفوعة بإطار فكري عالمي يحفظ توازنها و يلجم شططها. و إن فرض نماذج تضعف هذه الروابط هو خسارة هائلة تدخل البلاد والعباد في عنت طويل الأمد ” .
المراجع :
(1) Yan Wels : Réflexion sur l’inclusion social , Univ Aix Marseille 3 , 2006 ( www.memoireonline (15/07/2011)
(2) : جون هيلر و آخرون : الاستبعاد الاجتماعي : محاولة للفهم ، ترجمة: محمد الجوهري ، سلسلة عالم المعرفة ( 344 أكتوبر 2007 ) ، ص 35.
(3) : أنتوني جيدنز :” علم الاجتماع” ، ترجمة: فائز الصياغ ظن مؤسسة ترجمان ، عمان ، 2005 ، ص 344 .
(4) www.s-oman.net ( 16/07/2010). 3:13
: (5) www.ahewar.org (11/11/2005)
: (6)Ibid. (7) : الحبيب العايب : حول مفهوم الهامشية و معايير التهميش
www.maktoobblog.com (2010/315)
(8) : المرجع السابق
(9) : أنتوني جيدنز : علم الاجتماع ، مرجع سابق ، ص ص 394- 395
(10) : المرجع السابق ، ص 399 .
(11) : المرجع السابق ، ص 398- 399
(12) : المرجع السابق ، ص 400
(13) www.annabaa.org ( 13/07/2011) (14:00) : (14) Ibid.
(15) : مازن هاشم : شبكة العلاقات الاجتماعية و مفهوم المجتمع المدني ، مجلة رؤى، باريس ( سنة 4 ، عدد 20 ، 2003 ) ، ص 35
(16) : أنتوني جيدنز : ” علم الاجتماع ” ، مرجع سابق ، ص 402
(17) : مازن هاشم ، مرجع سابق ، ص ص 36 – 40
(18) : المرجع السابق ، ص 40
(19) : عبد الحميد كنش : الإقصاء و التهميش في ضوء حجاجية ” التمثلات الاجتماعية ” www.nibras-akbarmontada.com ( 10/05/2008)
(20) المرجع السابق .
: (21) www.4algeria.com (15/07/2011)
(22) Ibid.
(23) : مازن هاشم ، مرجع سابق ، ص 41
اترك رد