مصلحة الاستبداد… ومفسدة الشورى

مرّ الخطاب السياسي الإسلامي بكثير من المنعرجات في رحلة نزوله من علياء مبادئه ووضوح أصوله إلى حضيض مقولاته وضحالة فكره. خطاب قدم الكثير من التنازلات وفرط في العديد من المكتسبات تحت إكراه الواقع وتسلط السيف.

ولعل من أبرز القضايا التي ناقشها الفكر السياسي الإسلامي ويستحضرها كذلك النقاش السياسي في الآونة الأخيرة، مسألة الشورى والفرقة في مقابل الوحدة والاستبداد.

وهي إشكالية مرتبطة بمبدأ انتقال السلطة كيف يتم؟ وماهو الأسلوب الأمثل لتداولها؟ فإذا كانت القضية محسومة في الأنظمة الغربية الحديثة بتوافقها على مبدإ التداول وفق نظام معين موسوم بالديمقراطي. فإن الأمر في جل الدول الإسلامية والعربية لما يصل بعد إلى هذا المستوى من الفهم والتدبير.

وأخطر ما في هذا الموضوع هو أن سقف النقاش ـ حتى لدى النخب المثقفة ـ لا يكاد يرتفع إلى مستوى الحديث عن هذه القضية وكأني بصحف هذه المسألة قد طويت وأقلامها قد جفت.

أما من يتجرأ ويخوض في المسألة فإنه يقارب هذا الموضوع من زاوية ” المصلحة” فيدعي أن المصلحة تقتضي أن لابأس في الاستبداد والاستفراد بالسلطة فهو يحقق لنا مبدأ الوحدة، أما الشورى وحق الناس في اختيار من يحكمها فسيؤدي إلى مصيبة الفرقة والتشردم والتناحر… إذن الخير كل الخير في بقاء الرئيس والسلطان على كرسيّه أبد الدهر، لأنه الضامن لوحدة البلاد والعباد والحامي للملة والدين. وأن بزواله سينعدم الاستقرار وينفرط عقد وحدتنا الذي هو أعز ما يطلب.

لقد احتج معاوية ـ وهو أول من ابتدع التوريث للأبناء في تاريخ المسلمين ـ بذات العذر حين أراد توريث الحكم واستخلاف ابنه يزيد، فقال: ” إني خفت أن أدع الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع”[1]، وغاب عنه أن أشرف الخلق ومن هو أشفق وأحرص على أمته، ترك الأمر شورى من بعده، ولم يورث أحدا. وقد انبرى لمعاوية عبد الرحمان بن أبي بكر يحذّره من مغبة ما رآه مقدما عليه فقال قولته المشهورة:”…ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر”[2].

لقد كان أول انحراف سياسي عانى منه المسلمون، لمّا أخطأوا طريق الشورى، وضلّوا عن حق الأمة في اختيار من يحكمها. فكان الباب الذي دخلتهم منه ريح الفتن والتقهقر والضعف…وقد تصدى الصحابة رضي الله عنهم لهذا الانحراف وعيا منهم بخطورته الشديدة على مستقبل الأمة، فخرجوا في أكبر حركة احتجاجية عرفها الإسلام للدعوة إلى جعل الأمر شورى وتراض بين المسلمين؛ فخرج الحسين عليه السلام في العراق، وابن الزبير في مكة، وابن الغسيل في المدينة، ونجدة بن عامر الحنفي في أهل اليمامة، خرجوا يدعون إلى المبدآن الرئيسيان اللذان يقوم عليهما النظام السياسي في الإسلام: الشورى وعدم الإكراه. وكان مفهوم الشورى واضحا في أذهان الصحابة رضوان الله عليهم، فالشورى تعني حق الأمة في اختيار من يحكمها ـ فلا خير في الحكم الوراثي مهما بدا عادلا ـ وحق الأمة في مشاركة الحاكم الرأي، فلا شورى مع استبداد أو إكراه سياسي. وليست الشورى سوى الحرية السياسية بمفهومها الشامل.

بعد سلب الأمة حقها في اختيار إمامها، استمر الفقه السياسي الإسلامي تحت وطأة السيف وإكراه الواقع في إنتاج مقولات وتفصيل نظريات على مقاس من يحكم، فعمد هذا الفقه إلى النصوص يؤولها بشكل متعسف في محاولة لإضفاء الشرعية، وهكذا أصبح لنظرية الاستخلاف سندا شرعيا وغدا طريقا مشروعا لتوريث الأبناء، ثم وجدت نظرية الاستيلاء بالقوة والغلبة أيضا طريقها للشرعية فأصبحت طريقا من طرق الوصول إلى السلطة… وهكذا أصبح الفكر السياسي الإسلامي يوظف النصوص لخدمة السبف، ويضفي الشرعية على كل انحراف، حتى طمست معالم الفقه السياسي الراشدي، وغدت الضرورة والمصلحة مسوغات لمثل هذا الانحدار. وقد بلغ انحدار الفكر السياسي الإسلامي مداه بصدور كتاب علي عبد الرزاق ( الإسلام وأصول الحكم ) ليقرر أن الإسلام لم يأت بأصول للحكم ولا لسياسة الأمة.

لقد حال هذا الخطاب السياسي المشوه والممسوخ، بين الأمة ونهضتها، والشعوب وكرامتها، والإنسانية وحريتها، خطاب يضفي الشرعية على استبداد السلطان، وانحرافاته، وفساده، ومصادرته لحرية الشعوب وحقوقهم..

إن الخوف الذي بعشش في أذهان بعض الناس من أن إعطاء الشعوب حقها الطبيعي والشرعي في اختيار من يحكمها سيؤدي لا محالة إلى الفرقة، وبروز العصبيات الإثنية والعرقية، لا يعدو أن يكون وهما ينفخ فيه ويعمل على تضخميه الجالس على الكرسي، والطاعم الكاسي ممن يدور في فلكه.

والقبول بالاستبداد والتسلط على الرقاب ومصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها بدعوى المحافظة على وحدة البلد، وحماية الوطن من التمزق والتفكك ، أو بدعوى أحقية هذا أو ذاك، لنَسَبٍ أو لشرعية تاريخية أو… ماهو إلا قبول بنوع من أنواع العبودية، وترك لشرذمة قليلة تتحكم في مصائر الشعوب وخيراتها. فلقد علّمنا التاريخ أن ما يُخشى من التفرق بالشورى لهو خير من الوحدة بالاستبداد، وأن التسلط والاستيلاء على رقاب الأمة ـ وإن كان يحقق مصلحة مرجوحة ـ فإنه يفضي إلى ضعف الأمة وتدمير قوتها ومقدراتها.

وقبل الختم نقول: إن الشعوب تريد أن تختار من يسوسها،

ولا يقطع أمرا دونها،

ولا يتصرف في مالها إلا بإذنها.

1- ابن كثير :8/38.

2- الذهبي: تاريخ الإسلام، ص:148.

المصدر


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ عبدالحميد عامر
    عبدالحميد عامر

    عار الاستبداد:
    طال الزمن بالعرب المسلمين مع الاستبداد فأمسى جزء رئيس فى مكونات تراثهم و ثقافتهم .. بعدما شرعنوه و تعايشوا معه و عملت ماكينات الدعاية المتوارثة على تكريسة لدرجة استحالت معها التخلص من أوزاره ، و بتنا عبئا على الحضارة الانسانية .. ربما تصبح الثورات العربية فى ربيعها الديمقراطى الراهن ” بارقة أمل لاستنقاذنا من ميراث الاستبداد العربى التليد ، و نساهم مجددا فى الانجاز الحضارى الانسانى

اترك رد