في تاريخ أعلام الهند … كتاب “أبجد العلوم” لنواب صديق حسن خان القنوجي

أ.كاشف جمال: باحث هندي في مركز الدراسات العربية والإفريقية في جامعة جواهرلال نهرو- نيودلهي – الهند

یعترف التاریخ عبر مرویاته المدونة، واٴوراقه الموثقة،وحکایاته الشفاهية بالمثل باٴن الإنجازات الهامة والمساهمات الفخمة یقف وراءها أعلام عظام،حملوا علی عاتقهم مهة دفع عجلته للأمام، حاملة عربته لمصیرالبلدان،وطموحات الأمم،وأحلام الشعب حتی یمکنهم ان یفتحوا صفحة جدیدة ویغیروا مجری الزمان. فالتاريخ وكتابته ليس أمر سهل لأي أديب أو عالم مع أن العديد من الشخصيات في الهند وخارجها قام بإسهامات جليلة في هذا المجال. ومن بينها شخصیة العلامة النواب صدیق حسن خان القنوجی، اذ هو من الرجال العظام الذین أدوا أدوارا رائعة فی النهضة الاسلامیة وترکوا آثارا خالدة فی مجال التصنیف والتالیف وبرزوا علی ساحة العلم کشمس مشرقة ونیرة۔ کان العلامة نواب صدیق حسن خان شخصیة نادرة قل ان یجود الزمان بمثلها، جمع بین الإمامة فی الدین والعلم، وبین الزعامة فی الأدب والانشاء، وبین الریادة فی الحدیث والفقه، وکان له دور قیادی وفعال فی ایقاظ المسلمین من سباتهم، وفی اثراء المجالات العلمیة والأدبیة والاسلامیة والثقافیة۔
وکانت شخصيته شخصیة فذة عصامیة ،مترامیة الأطراف ، متعددةالجوانب ،متسعة المدارک، مختلفة الجهات، نال علما وافرا وثقافة واسعة بذکائه الوقاد والنادر وعبقریته العجیبة فذاع صیته فی العالم۔ کان ادیبا بارعا، وشاعراقدیرا، ومؤرخا مرموقا، وخطیبا مصقعا ومحققا کبیرا ومحدثا جلیلا واشتهر لعلوکعبه وطول باعه فی مختلف المیادین العلمیة والادبیة وخلف وراءه ارثا أدبیا متنوعا مابین الشعر والمقالة والفقه والحدیث والمباحث التاریخیة وماالی ذلک ۔ انه قام مجاهدا بقلمه ولسانه وأنجز لوحده مالم تنجزه الأکادیمیات و فی الحقیقة أنه کان قافلة فی رجل وترک وراءه غباره من النجوم و یصدق علی شخصیة العلامة المتنوعة الجامعة الشعرالتالی:
ولیس علی الله بمستنکر ان یجمع العالم فی واحد
ومن يتتبع تاريخ الهند الإسلامي بدقة يجد أنه حافل بألوان من المنجزات العلمية والثقافية والحضارية، وزاخر بأنواع من العلوم والفنون ذات الأهمية البالغة، فبعد ما إنتشر الإسلام في أكثر أقاليم الهند وأنشئت مدارس دينية ومراكز علمية ومناهل أدبية عظيمة خرجت علماء فطاحل وأدباء أفاضل وشعراء أفذاذ في كل علم وفن، ومعرفة في اللغة العربية وآدابها، فأنجبت شبه القارة الهندية شخصيات إسلامية ممتازة لها دور حيوي في تمديد رقع الحضارات الإسلامية حيث نبغ فيها مؤلفون ومؤرخون بعدد كبير، وبذلوا جهودا جبارة في كتابة البحوث والرسائل والمؤلفات التي تحظى بأهمية بالغة في البلدان العربية وغير العربية.
وفي هذا السياق كان من المفروض أن يقوم العلماء والمؤرخون الهنود بكتابة موسوعة شاملة تتناول أحوال ومآثر العلماء الأفاضل والأدباء الأجلة الذين تركوا بصمات عريقة في مختلف مجالات العلم والأدب، كما نشيرالى تاريخ تطور الدراسات العربية والإسلامية في الهند منذ توافد المسلمين إليها في صورة التجار العرب والغزاة الفرس والأعاجم الفاتحين لكي يتعرف الباحثون والناقدون من خلالها بالدور البارز الذي لعبته ثلة من العلماء والأدباء في الهند في المجالات العلمية والأدبية المختلفة.
ولا مراء فيه أن بعض الكتب تم تاليفها في هذاالموضوع إما باللغة العربية أو الأردية ولكنها لم تكن حسب المستوى المطلوب، وذلك لأن أسلوب الحريري كان يتغلب عليها في معظم الأحوال ، وفوق هذا كانت تتسم بقلة التنقيح والتحقيق في المعلومات التاريخية، ولأجل هذا كان المتلقي عند قراءتها يستشعر بأنه يمشي في نفق مظلم لا غاية له ولا سبيل للخروج منه. وجانب آخر لم يبد علماءنا فضولهم في كتابة التراجم والسير إلا قليلا في ذلك الوقت . ولقد أشار العلامة النواب صديق حسن خان إلى قلة الدراسات عن تراجم علماء الهند حيث يقول: ” ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد وطلعت شموسه البازغة على الأغوار والأنجاد، وعلت الكلمة الطيبة في هذه الغبراء، واجتمعت بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ظهربها جمع من العلماء والأدباء الإسلاميين الناثرين على بسط الأزمنة لآلئ من السحب الأفلامية، لم يكن يعمد أحد منهم إلى ضبط تراجمهم ولم يجتن جان زهرا من جواجهم إلا نزرا يسيرا” .
وهذا ما يؤكد أهمية الدراسة من أجل الإستفادة من علم من أعلام المدرسة الهندية والإسهام بها في التعرف على المصادر التاريخية.
العلامة نواب صديق حسن خان وموضوع التاريخ : ومن المعروف ان العلامة القنوجی منذ نعومة اظفارہ کان منهوما بطلب العلم ، وبذل جهودا جبارة فی هذا السبیل حتی تبحر واشتهر بین الانام لعلوکعبه فی الآداب العربیة ورسوخ قدمه فی اللغات الثلاث : العربیة والفارسیة والاردیة وآدابها وطول باعه فی علوم الحدیث والثقافة الاسلامیة واطلاعه المباشر علی جل مصادرالاسلام ۔ تدل موٴلفاته علی جهوده ومساعیه الطیبة وسبر غور الموضوع والبحث فیه والتحقیق ودقة النظر ونفاذ البصیرة من ناحیة ویتجلی من ناحیة اخری علوالفکر وجمال الاسلوب وقوة الملاحظة ونضارة معانیه وصفاء ادائه ونقاء ذهنه وتبلور افکاره ۔ نالت جمیع موٴلفاته شعبیة واسعة وحسن القبول فی الاوساط العلمیة والادبیة والفنیة والدینیة۔ ومما لاشک فیه أن العلامة کان قد عمر مکتبة الهند الاسلامیة وملأها بذخائر من الفکرالاسلامی خلال موٴلفاته ما تربو عن مائتین وخمسین کتابا، فیها ستة وخمسون کتابا فی اللغة العربیة عن مواضیع : التفسیر والحدیث والفقه واللغة والادب، واخری فی الفارسیة والاردیة ولکن معظمها بالعربیة ۔ فاذا ضمت الی الکتب التی ألفها العلامة القنوجی الرسائل الصغیرة فعدد موٴلفاته یبلغ الی ثلاثمائة ۔ وموٴلفاته تتراوح ما بین مختلف العلوم والفنون من التفسیر والحدیث والفقه والسنة والعقائد والتصوف والتاریخ والمنطق والشعر والطبقات ومقارنة الادیان والسیرة النبویة، واسماء الرجال واللغة والادب وما الی ذلک ۔ ولذا نراه ما ان ذکر موضاعا من المواضیع حتی تفتقت قریحته، وتفجرت ینابیع علمه،اذ انه کان شخصا ماهرا متبحرا متضلعا ، یتکلم بطلاقة وبلاغة ، ومجبولا علی العلم والفکر،ومطبوعا بالبحث والدراسة فاتی باشیاء نادرة تحیرت العقول۔
كان العلامة موضع احترام وتقدير العلماء والأدباء والأمراء الذين عاصرهم،ولم يكن هؤلاء ينظرون إليه على أنه أحد المثقفين البارزين ، وانما حظي بإعجابهم لثقافته وأخلاقه. فقد كان يحدثهم في الأدب وأحاديث العرب وأيامهم واعراء والمحدثين.
وبما أن الموضوع يتعلق بالجوانب التاريخية لكتابه فسنستعرض ما كتبه من موضوعات تاريخية. ولا مراء فيه بأن العلامة عبقريته تتجلی فی غیر مجال واحد، بحیث انه کان شاعرا موهوبا ، أثری الأدب العربی خلال شعره فی مختلف الأغراض، وأدبیا أریبا کتب ماکتب فی اسلوب سلس وفی اطار ألفاظ عذبة قویة،وخطیبا مصقاعا أسر القلوب بسحر کلامه، وصحافیا بارعا أشعل نار الثورة بقوة قلمه وتاٴثیر بیانه، ومفکرا عظیما عرف اسرار زمانه، ومجاهدا کبیرا جاهد بقلمه ولسانه ضد الخرافات والعادات السیئة التی نالت رواجا فی المجتمع الاسلامی ۔ومحدثا جلیلا برزعلی ساحة أفق الحدیث کشمس نیرة، ولكنه من جانب آخر، كان هو مؤرخا مرموقا كتب عن الهند وتاريخ الهند وعلمائها وفضلائها وأدبائها بأسلوب تاريخي بعيدا عن التكلف والتزخرف. في مجال التاريخ والسير والتراجم، كتب النواب صديق حسن خان كتابا جامعا وسماه ب ” أبجد العلوم”.
أبجد العلوم : هذاالکتاب یعد من أشهر وأهم الكتب للسيد صديق حسن خان فی هذا الموضوع ويحتوي على معلومات نافعة جدا عن شتى العلوم والفنون. وهو فی ثلاثة أجزاء یشتمل علی 973 صفحة، جمع الموٴلف أشتاتا من العلوم والمعلومات القیمة، والزخائر الفکریة الممتازة، وأقوالا من العلماء والفضلاء القدامی والمحدثین، المفیدة الممتعة المتنوعة، وانه اختار طریقة العلماء القدامی، وحذا حذوهم فی الکتاب . وفی الحقیقة هذاالکتاب یدل علی وسعة علمه واحاطته بشتی العلوم، ویعتبر من أهم مصادره فی تعریفات العلوم والفنون ويتضمن تاريخ الثقافة الإسلامية في الهند وموسوعاته العلمية الضخمة التي تشمل تراجم أعيان الهند وأحوال علمائها وأدبائها وفضلائها. قد تحدث المؤلف في هذا الكتاب عن تراجم أشهرالعلماء والشعراء والأدباء والصوفيا والمؤلفين وغيرهم الذين اشتهروا في مختلف أصقاع الهند العالم العربي الإسلامي بخدماتهم الجليلة في المجالات الأدبية والعلمية والفنية، وذلك كله بأسلوب بليغ مرسل قلما يوجد فيه النثر المسجوع المقفى.
يقول النواب صديق حسن خان في مقدمة كتابه: ” حررته إحرازا لما تشتت من أحوال العلوم وتراجم أسمائها وسماتها، وجمعته إفرازا للفنون مع بيان مباديها وأغراضها وغاياتها، مستمدا في ذلك من كتب الأئمة السادة، وصحف الكبراء القادة ، بعد أن عرفت مجاريها، وتعلمت الرمي من القوس وقد كنت باريها”.
هناك أكثر من كتاب واحد حول موضوع تراجم العلماء والسير مثلا ” سبحة المرجان في آثار هندوستان” لغلام علي آزاد البلغرامي و “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظرللسيدعبد الحئ الحسنى الندوي و “تذكرة علماء هند” للشيخ رحمن علي و”رجال السند والهند” لقاضي أطهر المباركفوري و “معجم البلدان” لياقوت الحموي وغيرهم ولكن هذا الكتاب يمتاز من نواحي عديدة أشار إليها المؤلف نفسه حثا على أهميته فهو يقول عن كتابه ضمن ذكر ترجمة نفسه :
” فمن لم يطلع على كتابه هذا ” أبجدالعلوم” فقد حرم كثيرا من المنطوق والمفهوم، ولم يدر المجهول من المعلوم ولم يمييز بين المنثور والمنظوم. ثم اتبع ذلك بتراجم الأكابر من أهل العلم والفضل، واحياهم برشحات أقلامه وقطرات مداده جدا ولا هزل، وأتى بنثره المستعذب، ونظمه المنتخب المنتجب، بماهو واف للمطلوب، شاف للقلوب كاف لدفع العيوب، لم تسمح بمثله الأذهان، ولم ينسج على منواله أحد من أكابر الأعيان، رتبه أحسن الترتيب، وبوبه أبدع التبويب، فجاء بحمدالله تعالى كما يروق البصائروالنواظر ويفيد الناظر والمناظر، ينقطع دونه الظلام، ويرتفع به قتام الأوهام، كتاب كريم حافلا لأبواب علم المحاضرة، ينقطع به كل بادية وحاضرة، فمن كان لديه هذا الديوان الرفيع الشأن المنيع المكان فهو نابغة الزمان، ونادرة الألوان وروح الأكوان وعين الأعيان”.
قد قسم المؤلف هذا الكتاب الى ثلاثة أجزاء ، وسمى الجزء الأول ب ” الوشي المرقوم” . هذا الجزء يشتمل على سادسة أبواب حيث يحتوى الباب الأول على تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه والباب الثاني على منشأ العلوم والكتب والباب الثالث على المؤلفين والمؤلفات والتحصيل والباب الخامس على لواحق الفوائد وذكر فيه مطالب وأما الباب السادس الأخير فهو يتضمن انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر وذكر في مطالب أيضا.
وقد سمى القسم الثاني من الكتاب ب ” السحاب المركوم بأنواع الفنون وأقسام العلوم” . وهذا القسم من الكتاب يبحث مختلف العلوم والفنون على ترتيب هجائي مثلا ذكر ” علم الأبعاد والأجرام” و ” علم الآثار” و “علم الأدوار والأكوار” و “علم الآلات الحربية” و “علم الآلات الرصدية” وغيرهم من العلوم.
وأما القسم الثالث من الكتاب المسمى ب “الرحيق المختوم ومن تراجم أئمة العلوم” فهو موضوع دراستي وأنا أفصل القول فيه. فقد ذكر المؤلف في هذا الجزء تراجم أبرز علماء مختلف العلوم مثلا علماء اللغة وعلماء التصريف وعلماء النحو وعلماء المعاني والبيان وعلماء العروض والقوافي وعلماء الإنشاء والأدب وعلماء المحاضرة وعلماء الشعر وعلماء التاريخ وعلماء الحكمة وعلماء المنطق وعلماء الجول وعلماء الخلاف وعلماء المقالات وعلماء الطب وعلماء أصول الفقه وعلماء الفقه وعلماء الفرائض وعلماء النجوم وعلماء الحرمين الشريفين وعلماء اليمن وعلماء الهند وعلماء قنوج وعلماء بوفال الملحمية.
خلال ذكر تراجم العلماء والأدباء، فاستعان العلامة بمختلف أهم المراجع والمصادر لكي يحيط جميع جوانب الموضوع كما ركز على نقاط رئيسية في سطورمحددة ولم يأت بعبارات جمة وتعبيرات شاذة. وهو يحمل الفكرة مفادها بأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم من العجم وقليل منهم من العرب. فهو يظهر رأيه هذا قائلا : ” إن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم من العجم وقليل منهم من العرب، فالأعاجم هم سباق حلبة العلوم، وفرسان معركة المنطوق والمفهوم، تعاطوا من دنان الحكم اصفى الحيا وتناولوا من غوامض العلوم ما كان بالثريا”.
ومن الملاحظ بأن المراجع والمصادر لتدوين تاريخ الهند كثيرة ومتنوعة ، ومن بين هذه المصادر الكتب العربية المؤلفة من قبل الهنود، تعتبر أهم المراجع لا غنى عنها بحيث يعتبرها المؤرخون الهنود في بعض الأحيان مرجعا أساسيا. هذا الكتاب يعد أيضا من أهم المراجع لتدوين تاريخ الهند إذ يحتوى على معلومات قيمة ومعارف مهمة عن تاريخ الهند وحضارتها وعلمائها وأدبائها ومجئ المسلمين الى الهند وغيرها. يكتب النواب صديق حسن خان بهذا الصدد:
” أما الهند فقد فتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد بن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية، وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج سنة خمس وتسعين، وبعد ما عاد ولاة الهند الى أمكنتهم، وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند، وقصد السلطان المحمود الغزنوي أواخر المائة الرابعة غزو الهند واتى مرارا وغلب وأخذ الغنائم، وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من قبل القادر بالله بن المقتدر العباسي، لكن السلطان محمود لم يقم بالهند، وكان أولاده متصرفين من غزنين الى لاهور حتى استولى السلطان معزالدين سام الغوري على غزنين وأتى لاهور وقبض على خسرو ملك خاتم الملوك الغزنوية، وضبط الهند وجعل دهلي دارالملك سنة تسع وثمانين وخمسمائة ه، ومن هذا التاريخ إلى آخرالمائة الثانية عشر كانت ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية”.
فكل من يطالع هذاالكتاب للنواب صديق حسن خان يصل الى النتيجة أن شبه القارة قد أنجبت شخصيات علمية وأدبية عديدة لها دور بارز في توسيع نطاق الحضارة الإسلامية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن في الهند نبغ مؤلفون ومؤرخون كثيرون قبل النواب صديق حسن خان وترك هؤلاء التراث الأدبي والعلمي الزاخر بالمعلومات، وهذه المعلومات إما تدور حول جغرافية البلاد وشخصيات الملوك، أو تشمل على أحوال الزوايا ومن كان فيها من الشيوخ الكبار، وذلك لأن أكبرهم هؤلاء المؤرخين كان تدوين أخبار الفتوح ووقائع الشجاعة والكرم وتسجيل الخوارق والكرامات والمجاهدات، والقليل منهم كان يعتني بذكر العلماء والأدباء ويسجل أخبارهم وإنجازاتهم العلمية والأدبية والثقافية.
ومن هنا فإن مؤلفات مؤرخي الهند المسلمين – وجلها بالفارسية – لم تستطع أن تقدم صورة مشرقة للعهد الإسلامي في الهند، فكل من يقرأ هذه المؤلفات لا يقدر على التعرف بالصورة الحقيقية لأحوال ذلك العصر الأدبية والثقافية، وثمة استثناءات من هذا الحكم المطلق ومنها اللمعات أو الأضواء التي نراها في تاريخ “فيروزشاهي” لسراج عفيف و “تاريخ كلزار ابراهيمي” المعروف ب “تاريخ فرشه” لمحمد قاسم البيجابوري.
كان العلامة نواب صديق يمتلك موهبة فطرية وإستعدادا طبيعيا في تقييد الحوادث وتراجم الرجال، والذي عرى عنه كثير من تواريخ علماء العجم، فقد رزقه الله دقة الملاحظة وعمق النظر ومتانة الفكر وسلاسته، فكان يضع الرجل في طبقته ويصفه بصناعته، فعلى سبيل المثال إنه يعرف شخصية ابوالفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني البلجرامي كما يلي:
” أبوالفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني صاحب تاج العروس شرح القاموس السيد الواسطي البلجرامي نزيل مصر شريف النجار، عظيم المقدار، كريم الشمائل، غزيرالفواصل والفضائل، أخذ العلوم النقلية والعقلية في مدينة زريد على جماعة أعلام منهم السيد العلامة أحمد بن محمد مقبول الاهول ومن في طبقته كالشيخ عبد الخالق أبي بكر المزجاجي الخ”.
وكتب عن غلام علي آزاد البلغرامي: ” السيد غلام علي آزاد بن السيد نوح الحسيني نسبا الواسطي حسبا البلكرامي مولدا ومنشأ، والحنفي مذهبا، الجشتي طريقة، الملقب بحسان الهند، ذكر لنفسه الشريفة ترجمة حافلة بالعربية والفارسية في غالب كتبه”.
كتابة التاريخ والسير وتراجم الرجال تحتاج إلى تحقيق وتدبر وإمعان لكي تتبين المحاسن والمعايب وتظهر الصورة الصادقة الحقيقية مع الإحتراز عن تعقيد العبارة وخاصة من الصنعة والسجع البارد في الكتابة. فلم يلتفت المؤرخون والمصنفون الآخرون لتراجم الرجال وأحوالهم – إلا قليلا- إلى تحقيق الحوادث ونقدها والتدبر فيها حتى بدت كتاباتهم كأنها محشوة بالخوارق ومكشوفات الصوفية والسير التي لا يظهر منها شئ حقيقي من الحياة. فكان هذا النقص عاما في أكثر تراجم علماء الهند، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على الإبهام والغموض والضعف في الفن، إلا أن العلامة نواب صديق حسن خان قد صرف سليقته الإنتقادية في تحقيق الوقائع وإستخراج الحقائق عن شخصيات التراجم، وكان ذا مواهب طبيعية في التراجم والتاريخ، رزقه الله صفاء الحس ودقة الإنتخاب والملاحظة، فكان ماهرا في تقييد الحوادث وتراجم الرجال، وكان من محاسن كلامه أنه احترز في كتاباته عن الصنعة والسجع البارد فمثلا يصف الشيخ محمد اسمعيل الشهيد الدهلوي قائلا:
” منهم ابن أخيه اسمعيل بن عبد الغني كان من أذكى الناس بأيامه، وكان أشدهم في دين الله واحفظهم للسنة، يغضب لها ويندب اليها، ويشنع على البدع وأهلها ومن مصنفاته “كتاب الصراط المستقيم” في التصوف، والايضاح في بيان حقيقة السنة والبدعة، ومختصر في اصول الفقه وتنويرالعيني”.
نستشف من هذه الكلمات أن العلامة قد اختار أسلوبا لكتابة التاريخ والتراجم تتجلى فيه شخصية المترجم له كأنها موجودة أمام المتلقى بقسماتها ووصماتها ومحاسنها وعلا تها. ولم يقتصر العلامة نواب صديق حسن خان على مجرد الترجم وأخبار المترجم له، بل اختار اسلوبا موضوعيا يجب على كل مؤرخ وباحث أن يتصف به. فقام العلامة بتحليلها تحليلا دقيقا ينم عن براعته في علم التاريخ، ولا مرية في أن العلامة كان يؤمن بأن التاريخ يجب أن يكون بريئا من الترهات والأباطيل.
بالرغم من أن العلامة يحتل مكانة بارزة بين الكتاب النابغين في الهند الذين تحاشوا من استخدام الزخارف اللفظية، إلا أنه مع كل هذا لم يتجنب السجع والقافية في بعض المواضع، فمثلا يكتب:
“قد خرج من أرض الهند جماعة كبيرة من العلماء الفضلاء، وطلع من بلادها طائفة من النبلاء الأدباء قديما وحديثا، وان لم يسر بذكرهم الركبان سيرا حثيثا، وقد كنت يخطر ببالي ان اجمع لتراجمهم كتابا مستقلا لا يغادر صغير ولا كبيرا، وارتب لذكرهم سفرا مفردا يثبت لهم ذكر جميلا وفضلا كثيرا”.
ولا شك في أن هذا الكتاب محاولة قيمة للمؤلف، إذ أثبت فيه مساهمات الباحثين المسلمين الهنود في اللغة العربية من جانب، وأوحى بمعلومات عن مظاهرالأدب التولد من جانب آخر، وهو بهذا يعتبر كتاب قيم عن هذه الموضوعات بالتفصيل في تاريخ الأدب العربي الهندي.
لم يكن النواب صديق حسن خان القنوجي مؤرخا مرموقا تطور أسلوبا ذاتيا خاصا في مجال كتابة التاريخ والتراجم والسير ولكن ما أظهر رايه في هذا المجال في إطار ذوقه فهو يدعوننا الى التأمل والتفكير و يشير الى شعوره التاريخي.
نهاية المطاف :هذہ هی نظرة اجمالیة عامة علی الخدمات العلمیة التاريخية والخطوات التقدمیة التی قام بها العلامة نواب صدیق حسن خان القنوجی بتمام الحکمة والحنکة والاخلاص بكتابة كتابه الشهير “أبجد العلوم” ، وبذلك یتضح أن العلامة القنوجی کان عبقریا من عباقرة العلماء ونادرة من نوادر الزمان ونابغة من نوابغ العصروفذة من أفذاذ الرجال الذین قلما یجود بهم الدهر،وخدماته العلمیة والأدبیة لاتکاد تنسی مادامت الارض والسماء علی کر الدهور وممرالعصور.وأما الذی استطعت أن أقدم فی هذہ الآونة فهو غیض من فیض، اذ اننی قد حاولت ان القی ضوءا ضئیلا علی كتابه التاريخية “أبجد العلوم” باختصار. هناك حاجة ماسة إلى دراسة هذا الكتاب بنظرة موضوعية كونه كتاب مهم موسوعي في تاريخ العلماء والأدباء الهنود حيث لامفر منه أي باحث أم عربي أو عجمي. وفی الأخیر فی حین أختم هذه المقالة یحلو لی القول بأن العلامة کان رجلا موسوعیا و مثالا متفردا حیا للاخلاص والتواضع والکرم والتوکل علی الله عزوجل ومصداقا لماقاله الشاعرالعربی :
هیهات لن یأتی الزمان بمثله ان الزمان بمثله لبخیل
قائمة المصادر والمراجع
١۔ زبید احمد الدکتور : مساهمة الهند وباکستان فی الادب العربی (بالانجلیزیة) ، لاهور، عام ١۹٦۸م
۲۔ عبدالحئی الحسنی : الاعلام بمن فی تاریخ الهند من الاعلام، المطبعة الندویة (موٴسسة الصحافة والنشر)، ندوة العلماء، لکناوٴ، ١۹۹۲م
۳۔ محمد اجتباء الندوی الحسینی الدکتور: الامیر سید صدیق حسن خان : حیاته وآثارہ، دار ابن کثیر، دمشق ۔ بیروت عام ١۹۹۹م
۴۔ رضیة حامد الدکتورة : نواب صدیق حسن خان ، باب العلم ، دلهی
۵۔ الأمیر صدیق حسن خان : ابجد العلوم، المطبعة الصدیقیة، بهوبال، ١۲۹۵ه
٦۔ الأمیر صدیق حسن خان : ابقاء المنن بالقاء المحن، المطبع الشاہ جهانی،بهوبال، ١۳۰۵ه
۷۔ الأمیر صدیق حسن خان : الروض الخضیب، مفید عام آکرہ ١۲۹۸ه
۸۔ الأمیر صدیق حسن خان : رحلة الصدیق الی البیت العتیق،المطبع العلوی، لکناوٴ١۲۸۹ه
۹۔ الأمیر علی حسن خان : مآثر صدیقی،طبعة نول کشورلکناوٴ،۴۲۔١۹۴١م
١۰۔ الأستاذ سلیم فارس : قرة الاعیان ومسرة الاذهان،مطبعة الجوانب،قسطنطنیة ١۲۹۸ه
١١۔ اشفاق احمد الدکتور: نفحة الهند، مطبعة اےاے صدیقی،بهار، الطبعة الاولی،۲۰۰٦


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد