البيعة الشرعية:
إن عقد البيعة في الإسلام هو التزام متبادل بين “الأمير” و”المؤمنين”، على قاعدة ضمان حقوق الحاكم والمحكومين، وهو أحد طرق تنصيب الرئيس أو الخليفة أو الإمام الأعظم في الدولة الإسلامية، وتكون عن رضا وتشاور بين ممثلي الأمة الحقيقيين، وهذه تسمى “بيعة الانعقاد”، وهي “البيعة السياسية”، وبموجبها يصبح الشخص رئيسا للدولة، تعقبها “بيعة الطاعة” أو “البيعة العامة”، وهي بيعة جمهور المسلمين لمن تمت له بيعة الانعقاد، وهذا هو الذي حدث مع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. حيث”الحاكم المسلم مقيد بالشورى، مقيد بالشريعة، مقيد بمسؤوليته الجنائية أمام القضاء، فهو أمامه كآحاد الناس. وينبغي أن يكون إلى جانب هذه القيود كابح دستوري قانوني يضع مسطرةً لمحاكمة ولي الأمر وعزله إن أخل ببَند من بنود البيعة التي تُشكل معقِد القوة في نظام الحكم الإسلامي” [1]إن البيعة الشرعية تعاقد تلتزم فيه الأمة بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ما استطاعت، ما لم تُؤْمَر بـمعصية، ويلتزم الأمير فيه بإقامة الدين وحراسته والقيام بأمر المسلمين، وإشاعة العدل والمساواة بين الناس، فإن لم يلتزم بذاك نُبِّه من قبل علماء الأمة وممثيلها، فإن انصاع إلى الحق ورجع بعد النصيحة فذاك، وإلا خُلع من منصبه واختير غيره. قال أبو بكر رضي الله عنه حين بايعه الصحابة الكرام بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ:”أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ : قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي. الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرْجِعَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ” [2]، فهي بيعة مقيدة مشروطة، لا مطلقة مرسلة. والحاكم إن أساء يُقَوَّم.
سنة هرقل وقيصر:
إن الـمُلك في الدولة المغربية ينتقل بالوراثة كما ينص على ذلك الفصل 20 من دستور 1996، ويتم عبر مرحلتين اثنتين : تعيين ولي للعهد في حياة الملك، ثم بعد وفاته يتم عقد البيعة لولي عهده، ومستندُ ولاية العهد عَهْدُ أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، وعهد عمر لستة من بعده. وقد استند معاوية رضي الله عنه حينما عهد بالملك لابنه يزيد إلى عهد أبي بكر وعمر، وقام مروان خطيبا في الناس وقال :”سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : سنة هرقل وقيصر” [3]. وعارض هذه التوليةَ عدد من كبار الصحابة : عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ولما تولى يزيد الحكم قاومه الحسين وابن الزبير، فانتقلت المعارضة من الرفض في عهد أبيه إلى المقاومة في عهده.
إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حينما استَخلَفا، إنما كان ذلك منهما ترشيحا، ولم يُعَدَّ عقدا ملزما إلا ببيعة الناس بعد ذلك، ولذا أجاز العلماء الاستخلاف بشرط الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام. ثم إن هذا الاستخلاف لم يتخذ شكل وراثة، ليبقى الأمر شورى بين الأمة، ولذا منع علماء التوارثَ في الإمامة[4].وهكذا انقلبت ولاية العهد الخلافية الشورية مع أبي بكر وعمر إلى ولاية العهد الوراثية القهرية التسلطية. فكانت ولاية العهد أكبر بدعة سياسية.
الهوية الوطنية:
ومما يُستنَد إليه لتقوية البيعة بصيغتها المغربية المتداولة اليوم، السياقُ التاريخي لـ “الهوية الوطنية المغربية”، وآية ذلك ما جاء في “دليل الإمام والخطيب والواعظ” :”تُشكل البيعة بدلالتها الشرعية في سياقها التاريخي المغربي، خاصية من أهم الخصائص المكونة للهوية الوطنية المغربية، ومن ثم فإنه لا نجاح لأي خطاب ديني إلا بالدخول تحت ظلالها. فإمارة المؤمنين بدلالتها الدينية – كما تحققت تاريخيا بالمغرب – قامت على بيعة أدمجت حق الله وحق الرحِم! تماما كما في قوله تعالى: (واتقوا الله الذين تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)، فمنذ تزوج المولى إدريس الأكبر كنزة الأمازيغية، في سياق بناء المجتمع المغربي، تحت بيعته الدينية بما هي حق الله؛ كان حق الرحِم قد اندمج في هذا المعنى؛ مما شكل مفهوم “الأسرة الوطنية!”” [5]إن البيعة التي عُقدت للمولى إدريس كانت بيعة اختيارية، إذ لم يسع إليها بل عُرضت عليه، وأُعطِيَها لاستجماعه شروط الإمامة المرعية : الفضل والشرف والدين والعلم وخصال الخير. قال الناصري:”لما استقر إدريس بن عبد الله بمدينة وليلي عند كبيرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي أقام ستة أشهر، فلما دخل شهر رمضان من السنة جمع ابن عبد الحميد عشيرته من أوربة، وعرفهم بنسب إدريس وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرر لهم فضله ودينه وعلمه واجتماع خصال الخير فيه، فقالوا : الحمد لله الذي أكرمنا به وشرفنا بجواره، وهو سيدنا ونحن العبيد، فما تريد منا، قال : تبايعونه، قالوا : ما منا من يتوقف عن بيعته، فبايعوه” [6]إن تدقيق النظر في “بيان البيعة” الذي تحدث به المولى إدريس كفيل بإماطة اللثام عن مجموعة من الحقائق، حيث يقول فيه : “”بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين الذي جعل النصر لمن أطاعه، وعاقبة السوء لمن عانده، ولا إله إلا الله المتفرد بالوحدانية. وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه وآله الطيبين، أما بعد : فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، وإلى العدل في الرعية والقسم بالسوية، ورفع المظالم، والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة وإماتة البدع، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد.. اعلموا يا معاشر البربر أني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور الذي كثر واطره، وقل ناصره، وقتل إخوته وأبوه وجده وأهلوه، فأجيبوا داعي الله عز وجل إذ يقول : ” ﴿ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ . “أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا إلى سبيل الرشاد، وأنا إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عمّ رسول الله، صلى الله عليه وآله، هذه دعوتي العادلة غير الجائرة، فمن أجابني فله مالي وعليه ما عليَّ، ومن أبى فحظه أخطأ، وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة، إني لم أسفك دماً، ولا استحللت محرماً ولا مالاً، وأستشهدك يا أكبر الشاهدين وأستشهد جبريل وميكائيل إني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك مزجي الجبال سرابا بعد أن كانت صماً صلاباً، وأسألك النصر لولد نبيك إنك على كل شيء قادر، وصلى الله على محمد وآله وسلم” .
واضح من هذا البيان أنه :
– لا يربط البيعة بأي نص أو وصية.
– بنى الدولة على أساس دعوة تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانتصار للمظلوم.
– جعل المرجعية العليا للكتاب والسنة.
– لم يجرم الرافضين للبيعة أو يكفرهم أو يعدَّهم من المنشقين والمهددين للسكينة العامة، واكتفى عوضا عن ذلك باعتبارهم مخطئين في نظره.
هذه هي البيعة التي تأسست عليها الدولة “الهوية الوطنية المغربية”، وهذه شروطها، لم تكن بيعة قهرية ولا بيعة إكراه.
على هذا الأساس، فهم علماء المغرب الراسخون عقد البيعة، وجعلوا الطاعة للحاكم مبنية على البيعة الـمشروطة، فهذا أبو زكريا الحاحي مِن رجال العلم والسلوك في عهد الدولة السعدية يعارض السلطان زيدان، ويقول بالبيعة المشروطة، وهذا عبد الواحد بن عاشر يقيد لزوم الطاعة للإمام وعدم القيام عليه بشروط، حيث علق على حديث :”تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ” [7]قائلا :”وهذا ظاهر إن كان السلطان يؤمِّن المسلمين في طرقهم وغيرها، ويكف الأيدي العادية، وأما إن كان يؤمن لهم طريقا ولا يكف عنهم يدا عادية ويتركهم فوضى، ويسلط خدمَتَه على أمتعة المسلمين وعلى دخول دورهم يفعلون ما يشاءون دون نزاع… فلا ينبغي اندراجه في هذا الحديث وأمثاله” [8].
نصيحة العلماء شرط في بيعة الأمراء:
النصيحة إرادة الخير للمنصوح له، وهي مؤدية لا ريب إلى الصلاح والتئام الأمة مع حاكمها. فعن جرير قال :”بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام، واشترط عليّ النصح لكل مسلم، وإني لناصح لكم أجمعين” [9]، وعند البخاري في صحيحه : “(فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)” [10]. وهذه الكلية يندرج فيها الحاكم والمحكوم والشريف والوضيع…بدليل حديث تَمِيمٍ الدَّارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ” قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: “لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ” [11]. والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتُهم على الحق، وطاعتُهم فيه، وإرشادهم إليه، وأمرُهم به، وإعلامُهم بما غفلوا عنه من حقوق المسلمين.
ولقد كان علماء المغرب يعدون النصيحة شرطا في البيعة، قياما بواجبهم فهم﴿ الذين يُبَلّغون رسالات الله ويَخشونه ولا يَخشون أحدًا إلا الله﴾ ، و يشهد لذلك تاريخ المغرب الحافل بزمرة من العلماء الذين وجهوا النصح والنقد للحكام ومؤسسات الدولة في قضايا الشأن العام وغيرها، وعدوا ذلك من صميم اختصاصهم، انطلاقا من مبدإ أخذ الميثاق عليهم بالتبيين وعدم كتمان الحق:﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ ، وليس الميثاق مقصورا على “التفقيه في الدين”، بعض الدين، و”تأهيل أئمة الـمساجد” ليصيروا مستقيلين من أمر الأمة، ثم السكوت على منكرات الدولة وشططها في تدبير أمور الناس، بدعوى الخوف من بطش السلطان، ففي سنن ابن ماجة : “عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “لا يحقرْ أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله كيف يحقرُ أحدُنا نفسَه ؟ قال: يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقولُ فيه. فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيةَ الناس، فيقول فإياي كنتَ أحقُّ أن تخشى” . فهذا الفقيه العربي بردلة ينصح السلطان المولى إسماعيل بعدم دمج من سموا بـ”الحراطين” في جيش الدولة، وأكد حريتهم، وبيّن أن استعبادهم ليس له موجب شرعي[12]. وهذا الفقيه الحسن اليوسي يرسل برسائل إلى السلطان المولى إسماعيل، ينتقد فيها الأوضاع الاجتماعية والسياسية والمالية بذكاء وفطنة، وكان السلطان يقول:”العلماء أربعة : صنف يخاف الله ولا يخافنا ومنهم الفقيه اليوسي…” وهذا الفقيه المتصوف أحمد الورزيزي[13]كان جريئا على قول الحق والصدع به، فقد قدِم من مدينة تطوان على السلطان محمد بن عبد الله سنة 1117هـ، وأنكر عليه إسكان النصارى بين المسلمين، وإعطاءه من بيت المال من لا يستحق.
الهوامش:
[1] العدل، الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، دار الآفق، ط 3، 1422هـ 2001م، ص616
[2] الروض الأنف للإمام السهيلي 4/450
[3] ينظر السنن الكبرى للنسائي 6/459
[4] قال ابن حزم : “فلا يجوز التوارث في الإمامة؛ لأنه لم يوجب ذلك أيضا نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا دليل، بل قال تعالى : (كونوا قوامين بالقسط)”الفصل في الـملل والأهواء والنحل 3/97. وقال الجويني : “ولم أر التمسك بما جرى من العهود من الخلفاء إلى بنيهم ” غياث الأمم ص: 78.
[5] ص 37.
[6] الاستقصا للناصري 1 / 125
[7] صحيح مسلم: كتاب الإمارة،باب وجوب ملازمة جَمَاعَةِ المسلمين عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ، وفي كل حال، وَتَحْرِيم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، رقم 1847.
[8] النوازل الكبرى أو المعيار الجديد للمهدي الوزاني 3/27
[9] المعجم الكبير للطبراني 2/349 رقم 2462.
[10] كتاب الشروط باب ما يجوز من الشروط في الإسلام رقم 2714.
[11] مسلم كتاب الإيمان باب بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ رقم 95.
[12] والرسالة عنوانها: “الأحاديث النبوية والأقوال المرضية في إبطال النحلة العليلشية التي أنشأها في الأقطار المغربية” وهي مخطوطة بالخزانة الحسنية تحت رقم 9817.
[13] ينظر تاريخ الدولة العلوية السعيدة للضعيف 1/315.
* عضو رابطة الكتاب والأدباء العرب
اترك رد