القيم التشكيلية والجمالية من خلال هندسة العمارة الإسلامية عبر دلالاتها اللونية و الرمزية .. ألفة خليفي

ألفة بن الملكي خليفي: أستاذة وباحثة جامعية بالمعهد العالي للفنون والحرف بقفصة – تونس

لا شك أن اللون من أهم الظواهر والعناصر التي تشكل الصورة الفنية لأن له ارتباطاً وثيقاً بجميع مجالات الحياة وظواهر الكون، وله علاقة وطيدة بالعلوم الطبيعية، وعلم النفس، والدين، والثقافة، والأدب، والفن، والأسطورة ، لذلك فإن اختيار الألوان، ورفضها، وقبولها يعود إلي أسباب متنوعة فيزيولوجية، ونفسية، واجتماعية، ودينية، ورمزية، وذوقية.
فالألوان ليست خطوطاً أو مسحات شكلية خالية من دلالات جمالية، وتعبيرية، ورمزية، وفي بعض الأحيان تزئينية؛ بل هي صور تعبر عن موضوعات الحياة، وانفعالات الفنان بها، والتدقيق في الآثار الفنية يرشدنا إلي أن استخدام اللون في هذه الآثار ليس صدفة، وليس لتنميق فحسب بل له ارتباط وثيق بجميع المستويات البنيوية، والتشكيلية للعمل الفني.
حيث أنه لكل لون معني نفسياً يتكون نتيجة لتأثيره الفيزيولوجي على الإنسان إذن تختلف وظائف أي لون بإختلاف الحضارات والمجموعات البشرية. فنري الوظيفة الرمزية للون في الرسم الديني البيزنطي في القرون الوسطي حيث أن الأزرق يمثل اللون الغالب علي رداء العذراء الخارجي ليكون بذلك رمز إلى النقاء، والصفاء، ولون ردائها يدلّ علي دعة اللون، ويلمح الأحمر إلي العاطفة البشرية والانهماك الدنيوي، ويمثل الأخضر حالة الخصب، وحالة الأمومة.
فالألوان بالإضافة إلي كونها مظهراً من مظاهر الواقعية تكون حاملة لإرث ثقافي حيث تتوضح في الألوان جملة من البني الأسطورية الحضارية المؤسسة لثقافات الشعوب فلها دلالات جمالية تساهم في الكشف عن العوامل العرقية والبيئية التي لها أثر على الحياة الإنسانية .
فاللون موضوع معقد، بإعتباره يمثل جزء من خبرات الإنسان الإدراكية والطبيعية للعالم المرئي، واللون لا يؤثر في قدرة الإنسان علي التمييز فقط، بل إنه يغير المزاج والأحاسيس، وإن الألوان من أكثر الأشياء جمالاً وخصوبة في حياة البشر؛ فيها أثريت حياة الإنسان، و أضفي عليها من بديع الجمال وبهائه ما لا يحدّه واصف أو يحيط به خيال حيث تجلت أهمية البحث في اللون بإعتباره يمثل محاولة للتعرف على العلاقات الناتجة من اللون والحركة في الفن ، فهو يفيد المهتمين بنتاجات الفن في مرحلة ما بعد الحداثة من باحثين ومتذوقين ونقاد، كما يملأ المكتبات المتخصصة بالدراسات الفنية والجمالية بجهد علمي وفني .
وبالتالي فإنه يسهم في فتح آفاق لدراسات مستقبلية عن تيارات جديدة في ميدان الفن المعاصر بإعتبار أن الفن متنوع بأجناسه ،التي تتشكل من خلال فعلٌ إبداعي ، ولغة تحمل مفردات عديدة لهواجس الذات الإنسانية ، حيث تتمازج هذه اللغة مع الأفكار والمعتقدات والمعلومات الإنسانية ، التي تشكل بمجملها خبرات متراكمة تساعدنا على الفهم العميق لمفردات العمل الفني وأبعاده ، بكل ما يحمل من أفكار وآراء ومعاني ومفاهيم للتعبير عن مدركات الحياة خاصة منها العمارة الإسلامية .
لذلك تعتبر العمارة فن من الفنون الجميلة دون شك، وهي تتطابق تماما مع “الهندسة المعمارية” أو “الهندسة المدنية” الأكثر تخصصّا لذا فهي تشكِّل بعضا من عدَّة وأدوات المعني بالجَّمال والجماليات ، فالعمارة معنية بالبصري قدر عنايتها بالوظيفي،ّ فالمعماري فنانا مهتما بالمرئي بالمعنى الخلاق للكلمة، أي أنه يمنح لمعايير الجمالي المرهفة الوزن ذاته الذي يقيمه للوظيفي حيث أن عبقرية الفنان المسلم ورغبته في التطور والتطوير معاً دفعه اولاً لان يبحث عن آفاق مميزة تقذف بأهواء نفسه ورغباتها بعيداً وبالتالي كان لذلك الإسهام في تشذيب وتزكية نفسه وصولاً بها إلى نصوصه وأشكاله وألوانه في رحلة الأشكال البصرية والألوان منذ القدم وصولا بالفن الإسلامي، الذي وسمت به السمة الروحية ذلك أنها ذات منشأ روحي واحد هو الجمال المطلق عبر اللون الذي يجعل من الزخرفة الإسلامية حافلة برموز لا يمكن مسكها باستدلال عقلي، اذ يجعلها اللون أكثر شمولية داخل العمارة الإسلامية التي تحتل المكانة الأولى بينها ، حيث أصبح البناء العضوي الأصيل الذي يعكس صفة إسلامية واضحة و مستقلة يمكن من خلالها التعرف على التطورات التي عاشتها العمارة الدينية و الفنون الإسلامية على إختلافها فهي تعتبر صورة تكشف عن العمل الفني ، فهو عبارة عن مركب يحتوي على عناصر أساسية هي اللون ، المضمون ، والخامة، والشكل، والتعبير التي تآلفت بعضها مع بعض لتحقق شكلا محملا بمفاهيم فكرية وطاقات تعبيرية، أخضعت جميعها تحت نظام معين من العلاقات المتبادلة، ليحقق منها كلا، أو جسدا منظما قائما بذاته ، فلم تكن العمارة الإسلامية مجرد شكل لا معنى له، وإنما شكلت نسيجاً متكاملاً بين الشكل والمضمون، فكان، كما قال كانط: أجمل من غادة حسناء، بيد أن هذا التلاعب بالشكل لم يكن بين الشكل والغاية، وهو ما جعل من فن الزخرفة اللفظية يقع أسير اللون و الزخرف البديعي الذي يكشف عن الأبعاد الفكرية العميقة، الأثرِ .
لذا فقد عمدت فنون التشكيل المعمارية إلى طرح نتاجاتها الفنية عبر معالجات جمالية وبنائية ، ترتبط عادة بدراسة وتحليل الظواهر اللونية البصرية من خلال صياغتها بشكل جوهري وحسب مرجعية التيار الفني أو الأسلوب الفردي للفنان المعماري، لذا فقد كانت بنيتا اللون والحركة تشكلان هاجسًا جماليًا في فرض واقتراح معالجات فنية عدة تعمل على إضفاء طابع تصويري يعزز من إنتاج الفكرة الهندسة المعمارية القائمة على أسلوب التشكيل اللوني والخطي والشكلي .
لذلك فنتاجات الفن المعماري تقترح إعادة إنتاج الفن الهندسي وفق بنية جمالية ترتبط بعنصري اللون والحركة اللذين يعملان على فرض ملامح بصرية متنوعة الأشكال . ومن هنا برزت مشكلة البحث الحالي والتي تمثلت بالتساؤلين الآتيين :
– ما الجماليات الناتجة من اللون والحركة في الفن الهندسي المعماري ؟
وكيف يمكن أن تتعزز آليات الارتباط بين اللون والحركة جماليًا وبنائيًا في نتاجات الهندسية المعمارية؟
يمثل الفن المعماري إنفتاحًا فنيًا جديدًا تكشف عن إشكالية العلاقات البنائية التي تتناغم مع واقع البحث الجمالي ، وهذا ما شهدته نتاجات الفن الهندسي المعماري في مرحلة ما بعد الحداثة والتي قدر لها أن تلعب دورًا فاعلا ضمن مساحة الفنون في تلك المرحلة ، نتيجة لما وّلدته تلك النتاجات من إحساسات جديدة تعتمد على إمكانات الفرد البصرية واستثمار نظر العين من خلال بنيتي اللون والحركة و الخط ، اللتين كانتا المحرك الفعلي لآليات التشييد المعماري ، لأن تلك النتاجات قائمة على الحوار الدائم بين الألوان والمزج البصري للعناصر التشكيلية داخل بنية التكوينات الفنية ، ولعل ما يفسر وجود بعض الصدى الاجتماعي لنتاجات هذا الفن من خلال إسهامه في إيجاد علاقة بصرية بين تلك النتاجات التي تعبر عن عين المتلقي من خلال الإعتماد على إمكانات الفرد البصرية وقدرته على دمج الألوان.
فالبنى التكوينية للعمل الفني المعماري من ألوان ، خطوط، وأشكال ، تتجاوز الترابط البنائي و العلائقي فيها ، إلى مستوى أكثر فاعلية في إنتاج صور تؤثر وتتأثر بطبيعة المجتمع حيث كانت تيارات الفن في هذه المرحلة تعمل على ضوء المنجز الجمالي المعماري ، حيث يمثل التوازن اللوني و الشكلي أساسًا تنظيميًا فاعلا للعمل الفني، والتوازن يمثل صفة تبحث عنها جميع الموجودات بما فيها الأعمال الفنية كونها من العوامل الأساسية التي تلعب دورًا هامًا في تقييم العمل الفني والإحساس براحة نفسية عند النظر إليه لذلك فإنه من الأساسيات الواجب توفرها في العمل المعماري الفني من خلال التمتع بصفة التوازن ، كتوازن الخطوط والأشكال والكتل والألوان، التي تساهم في تحقيق التوازن داخل بنية التكوين الفني من خلال مساحة لونية معينة في أحد جوانب العمل الفني فلابد من أن تقابلها في الجانب الآخر مساحة بالوزن نفسه وإلا أثارت إحساسًا لا شعوريًا بأن الصورة غير مستقرة أو غير متوازنة، وهذا ما يوجب تحقيقه في كل العناصر لتحقيق التوازن. والتوازن على أنواع فقد يكون محوريًا أو مركزيًا وفيه يتماثل عنصران أو أكثر حول مركز الصورة الذي يمثل النقطة الفاصلة بينهما ، في بناء العمل الفني وبدونه لا يمكن الحصول على أشكالٍ مستقرة وثابتة.
بالتالي فإن التباين في أي عنصر من عناصر العمل الفني يتحقق عبر تباين اللون من خلال التضادات اللونية بين الألوان الفاتحة والقاتمة ، والتدرج اللوني المتباين ، إضافة إلى تباين الشكل الذي يتجسد من خلال الاختلاف بين هيئة الشكل والأرضية ، وكذلك التباين الحاصل بفعل العناصر البنائية الأخرى كالملمس والاتجاه والقيمة الضوئية و الفضاء من خلال علاقة تربط بين عنصري اللون والحركة ووسائل التنظيم ، فكل عمل فني يتكون من مجموعة من العناصر وكل عنصر يمتلك بعدًا جماليًا ، حيث تتوائم تلك العناصر مع وسائل التنظيم كالسيادة، والتناسب ،والتوازن ، والإيقاع ، والوحدة ، والتباين ، التي تحمل كل وسيلة من هذه الوسائل صفة معينة تضفي عنصر الحيوية والمتعة والاستمرارية مما يجعل الشكل الفني يتخذ طابعه النهائي حاملا قيمًا بنائية وجمالية ووظيفية وتعبيرية.
حيث تعد العمارة صورة تحمل قيمة تعبيريّة وتشكيليّة ذات خصوصيّة جماليّة مُستقلّة بذاتها، فقد تَصَدّرَت المساجد والقصور، وملأَ الجدران جمالا وحيويّة، وزيّن الأسقف والقباب ، فجعل من اللون سمفونيّات خطيّة بإيقاعات تشكيلية إسلاميّة أعطت للعمارة معاني أنطولوجيّة ارتقت به إلى مُستويات فكريّة وجماليّة ورمزيّة جديدة، وتشكيلها على وجه فنّي جذّاب فيزيد ذلك في إقبال ناظريها لتدبّر معانيها – طالما أنّ جمال العمارة الإسلامية وتناسقها تلبس جمال المعاني ثوبا يزيدها جاذبيّة فيتفاعل هذا الجمال مع جمال المعاني ” فهو يساعد على فهم المعنى علاوة على إمتاع النّظر وإراحة النّفس وجذب المشاهد”، فيتحقّق بذلك غرض العمارة ويلتقي المعنى والمبنى ويتعانق الذّوق والحسّ، فيُؤثّر ذلك كلّه في العقول والنّفوس، فيُمتع النّظر ويُطيّب النّفس، ويُنمّي الذّوق.
وبالتالي فقد أكتسبت العمارة بوصفها علامة بصريّة ، جماليّة أصبحت تُضاهي جماليّة العلامة الصوتيّة المسموعة فوجد فيه المُسلمون مُتنفّسا لهم يكتشفون به قُدرتهم على الزّخرف والتزويق”، لتخلق عوالم جديدة تساهم في تأثير كبير في إزدهار فنّ العمارة الإسلاميّة، التي وقع ترجمة نظريّاتها الهندسيّة والرياضيّة إلى علامات بصريّة تجلّت أساسا من خلال الفنّ المعماري الّذي أصبح بدوره شاهدا على تطوّر الهندسة العمليّة في ظلّ الحضارة الإسلاميّة.
نحن الآن إزاء اللون في العمارة الإسلامية، والتي رغم تقادم الزمن بقي اللون حاضرا فيها وهنا يبدو الفنان المسلم مشبع برؤية معمارية تبدو لأول وهلة مجرد ظاهرة جمالية بحتة لكنها في أعماقها تبقى ظاهرة (إنسانية – خلقية – كونية) في آن واحد .
فالهندسة المعمارية تجسد هيئة روحية وجمالية معاً فيها استطاع الفنان ان يتأقلم مع عمله الفني ومتأمليه بشكل ملفت للنظر، بل نستطيع فيها ان نتجاوز الرؤية البصرية والحسية نحو أعماقها أي حتى حدود مستوياتها التخاطرية وان يصبح البناء مجالاً للتجلي السمعي والبصري والحدسي، وما استخدام الألوان فيها إلا لإحالة المتأمل إلى الإحساس بالسرمدية بواسطة الشعور الداخلي أو (التواجد والانجذاب) بواسطة المشاعر المطلقة أو المبهمة على السواء.
فللون علاقة بعناصر العمل الفني ، وأولى تلك العلاقات هي علاقته بالتشكيلات الهندسية المعمارية التي تمارس نفوذًا أكثر على مساحات السطح التصويري ، وله علاقة أيضًا بالخط وتتحدد تلك العلاقة بطريقتين ، الأولى تتمثل بكون الخط يكون حدود خارجية للون والثانية تتمثل بكون اللون يحدد نفسه بخط وهمي مع اللون المجاور له حيث أن لللون علاقة بالشكل إذ لا يمكن إدراك الشكل إدراكًا تامًا بدون اللون، ويرتبط اللون أيضًا بعلاقة مع عنصر الاتجاه وهو ما يتجسد في اتجاه الألوان .
كما أن للون علاقة بعنصر الحجم حيث يسهم اللون مساهمة فاعلة للإحساس بوجود الحجم ، فالشكل يصبح أكثر أهمية من خلال لونه وحجمه ، وللون علاقة بالملمس ، إذ انه يساعد في تكوين الإيحاءات المختلفة للسطوح لتتجلى بذلك علاقة اللون بالقيمة الضوئية و التي من خلالها نطلق على الألوان بلون فاتح ولون قاتم . وفيما يخص علاقة اللون بالفضاء فأنها تبرز من كون الفضاء يمثل الحيز الذي يحوي كل العناصر بما فيها اللون.
المراجع :
عبد الله بن علي الشلال وآخرون، الإملاء للصفّ الأوّل المتوسّط، المملكة العربية السعودية، ط 4، وزارة المعارف، 2002.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد