أحمد محمد عبدالله ناصر الحسني: باحث يمني في سلك دكتوراه، جامعة محمد بن عبد الله فاس
عندما هبت رياح التغيير لعالمنا العربي في عام 2011م, استبشرت الشعوب العربية خيراً ببشرى التغيير الإيجابي, وذلك لما يعانونه من قهر واستبداد تنوَّعت مظاهره, وكانت حرياتهم مكبَّلة بقيود الأنظمة الاستبدادية المدَّعية في حكمها الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة, ومع مرور الزمن أدركت تلك الشعوب أكذوبة وزيف الديمقراطية التي كانوا حكامهم يتشدقون بها عليهم, ومع هذا لم يكن هذا السبب الوحيد, فلقد تضافرت عوامل عدة حركت تلك الرياح العاتية على الأنظمة المستبدة من أهمها: غياب العدالة الاجتماعية والفقر المدقع, فقد تمَّ تكريس كل الامتيازات والثروات للفئات الحاكمة والمقربين لهم فقط, فبلغ ثرائهم الفاحش إلى مليارات الدولارات، وهذا كله من ثروات الشعوب المقهورة, التي كانت تتطلع وتحلم في الحصول على خيرات بلادها المضمونة لهم دستورياً, لكن طمع حكامهم عمل على إفقارهم حتى وصل بأحدهم الأمر بالإقدام على حرق نفسه أمام المجمع الحكومي في تونس لما بلغ اليأس منتهاه, فكانت شرارة الانطلاقة لتلك الرياح الربيعية التي عصفت بالأنظمة الجائرة وقامت بإسقاطها كردة فعل على جورها وظلمها, ولكن السؤال المهم بعد تلك العواصف هو: ماذا حققت شعوب الربيع العربي بعد إسقاط أنظمتها السياسية؟
مرت أكثر من خمسة أعوام.. والمتأمل جيداً يرى أن تلك الدول كانت في حالة سيئة وانتقلت الى حالة أسوأ منها, وهي حقيقة مؤلمة لا يمكن نكرانها، فنجاح الأمور يُقاس بالنتائج لا بالغايات والأهداف, مع العلم أنه لا يُنتقص من سمو أهداف ثورات الربيع العربي, لكن ما نتج عنها يدعو العقل الرشيد الى عدم الاسترسال في إعطاء مبررات لما حصل من نتائج مروعة, فالسؤال الذي هو محور حديثنا: ماذا خسر عالمنا العربي من بعد ربيعيه الثوري؟
فلنتكلم بلغة الأرقام والإحصائيات فهي أصدق لهجة وتعبيرا عن واقعنا المعاش, تشير تقارير عالمية صادرة عن البنك الدولي، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، والمركز التجاري العالمي التابع لمنظمة التجارة العالمية, أن التكلفة التي تكبدها العالم العربي بفعل الربيع العربي بين العالم 2010م- 2012م وصلت الى نحو 833.7 مليار دولار, بالإضافة الى 1.34 مليون بين قتيل وجريح بسبب الحروب والعمليات الإرهابية, وبلغ حجم الضرر في البنية التحتية ما يعادل 461 مليار دولار، عدا ما لحق من أضرار وتدمير للمواقع الأثرية التي لا تقدر بثمن، وبلغت الخسارة التراكمية الناجمة عن الناتج المحلي الذي كان بالإمكان تحقيقه 289 مليار دولار أميركي عند احتساب تقديرات نمو الناتج الإجمالي المحلي نسبةً إلى سعر صرف العملات المحلية.
كما بلغت خسائر أسواق الأسهم والاستثمارات أكثر من 35 مليار دولار، حيث خسرت الأسواق المالية 18.3 مليار دولار أميركي، وتقلص الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل 16.7 مليار دولار أميركي.
وبعد سرد الخسائر المروعة, ظلت هناك خسائر أخرى أفظع منها وأشنع, وهي تحارب الكيانات المجتمعية التي كانت متعايشة سلمياً داخل إطار الدولة نفسها, فسوريا مثلاً دخلت في دوامة صراع داخلي، فتم تقسيمها الى عدة أطياف ومازال يقتل أبناؤها بعضهم بعضاً حتى يومنا هذا, فلقد تم إثارة النعرات الطائفية بينهم, فقسم المجتمع السوري العظيم الى أطياف وفرق ومسميات كانت تعيش من قبل في حالة سلام دائم.
واليمن كذلك ليست بمنأى عن هذا المشهد, فانطلقت شرارة ثوراتها وهي تحمل أسمى غاياتها محاولة استعادة الكرامة اليمنية ورفع معاناة المواطن من غلاء الأسعار وغيرها, ولكن ما يحدث الآن من دمار وتفكك للدولة, وقتل بأعداد لا يستهان بها من البشر جراء الحرب الطاحنة التي امتدت نيرانها الى الدولة المجاورة, كما أودت هذه الحرب بالجانب الاقتصادي وانهار انهياراً مروعاً، مما زاد من تفاقم الأزمة الاقتصادية بأضعاف مضاعفة قبل ثورات الربيع العربي, ومشهد الحال لا يختلف كثيراً عن لييبا التي دخلت في نفس النفق المظلم.
ويعد الحال أخف ضرراً في مصر وتونس, فهما لم يدخلا في حروب أهلية طاحنة, لكنهم في حقيقة الأمر ماجنوا من ثمار ثوراتهم الربيعية الشبابية ما أملوه, ولم يتلمَّسوا تلك الحرية التي كانوا ينشدونها من ثورتهم، ولم ينهض اقتصادهم حتى تتحسن حياتهم المعيشية؛ بل فاقمه أزمات مالية حادة عجزت حكوماتهم سد العجز المالي.
إن عالمنا العربي أصبح يخسر ولا يربح، يهبط ولا يرتقي, فمن بعد ربعينا العربي خسرت اليمن وسوريا وليبيا جيوشها النظامية الوطنية، وهذه في حد ذاتها تعد خسارة فادحة؛ لأن الجيوش هي صمام أمان ودفاع لدولها، ودرع واقي يحافظ عليها من أخطار وأطماع الدول الطامعة في بسط نفوذها على الدول الضعيفة, وهذا ما حصل فعليًّا في تدخل إيران لفرض نفوذها وأيدولوجياتها العقدية في كلٍّ من سوريا واليمن, مستغلَّةً في ذلك ضعف الدول وتفكك كيانها الموحد, كل هذه العوامل ساعدها على فتح شهيتها لتبعيتهم لها.
كما يعود السبب الحقيقي في تقاتل هذه الجيوش أنها ما تم بناؤها على أسس وطنية تخدم الوطن, فكان الحكام المستبدين يؤسسوا الجيوش لحماية ذواتهم وأنظمتهم السياسية فقط, وجعلوا قادة الجيوش من المقربين لهم, والمشاهِد لما يحدث في سوريا واليمن وليبيا يرى صحة ما أقول, فإعادة بنائها على أسس وطنية يحتاج الى وقت طويل, وهو الذي ينبغي أن تحرص عليه الحكومات القادمة، وهذا طبعاً في حالة توصل الأطراف المتنازعون إلى حل سياسي ونهائي, لكن كيف يمكن حدوث ذلك ومجلس الأمن يقف عاجزاً عن إيقاف نزيف الحرب فيها, والكل يعلم جيداً أن مجلس الأمن ما كان منصفاً أو جاداً منذ إنشاءه تجاه القضايا العربية.
لذا لا حل ولا مخرج من هذا كله إلا بتغليب المصلحة العُليا لأوطاننا, وكل ما يُفعل به حالياً من جميع الأطراف هو تدمير فوق التدمير الكائن, فالسعي الحقيقي للإصلاح لا يأتي بأنهاء ونسف الطرف الأخر.
وأن الجلوس على طاولة الحوار للمصالحة الوطنية وتقديم التنازلات الحقيقة التي تفضي الى تقريب وجهات النظر للوصول الى حل شامل يسعى في تحقيق أهداف ثورات الربيع العربي الشبابي, وأقل تقدير ووفاء لدماء الشهداء والجرحى يحتم على الأطراف والقوى المتصارعة ترك الصراع والأخذ بأيدي بعضهم للبناء لا للهدم.
وفوق الجراح الذي أثخن حلم ربيعنا العربي إلا أنه ما زال له قلباً نابضاً يدق بدقات أمل روح شبابه, فالفرصة ما زالت سانحة إذا تم تحكيم العقل والمنطق السليم, وتم قراءة الأحداث الدولية قراءة واعية نستطيع من خلالها فك شفرة رموز المؤامرة الدولية التي تحاك لوطننا العربي ونخرج من عنق الزجاجة.
اترك رد