منهج الاستدلال العقدي عند أشاعرة المغرب … محمد احميمد

محمد احميمد: ماجستير “الفكر الإسلامي والحضارة” – جامعة القرويين كلية أصول الدين بتطوان المغرب

في المقالين السابقين المخصصين للفكر الأشعري المغربي بين “كتاب الإبانة” و”كتاب اللمع”، ذكرت أن منهج الاستدلال العقدي عند أشاعرة المغرب على التحقيق هو منهج الجويني في “كتاب الإرشاد”، وأنه منهج تأويلي بخلاف منهج “كتاب الإبانة” ذي التوجه الحنبلي الذي يثبت الصفات الإلهية على ظاهرها مما يفيد التشبيه والتجسيم، ويكفر أهل القبلة من المسلمين، ويدعو إلى سفك دمائهم، وذكرت مدى خطورة تبني هذا المنهج في المراكز والمؤسسات العلمية المغربية، وخطورة فكر هذا الكتاب بالأخص على عقيدة المغاربة ومستقبلهم الحضاري؛ أعني “كتاب الإبانة” المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري، وسأبرِزُ في مقالي هذا نماذج من كتابات العلماء الأشاعرة المغاربة ومنهجهم الاستدلالي العقدي، وكيف تأثروا بمنهج “كتاب الإرشاد” للجويني، ومدى تأثيرهم أيضا في الفكر الأشعري المغربي من خلال مؤلفاتهم التي تركوها والتي وصلت إلينا، وقد اخترت أهم هؤلاء العلماء الأشاعرة الذين أثروا في الفكر الأشعري المغربي لأتحدث عن منهجهم الاستدلالي العقدي الأشعري، ومن هؤلاء الرموز أذكر:
– أبو بكر المرادي الحضرمي
هو أبو بكر المرادي الحضرمي (ت 489ه/1094م)، ولد بالقيروان وارتحل إلى الأندلس ثم انتقل بعد ذلك إلى أغمات حيث أُلحِقَ بحاشية أمير المرابطين أبي بكر بن عمر اللمتوني التي كانت تضم فقهاء وعلماء، “وكان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى”[1] وله مؤلف مطبوع، يعتبر أول مؤلف كامل عن العقيدة الأشعرية ألف في عهد الأمير المرابطي أبي بكر بن عمر اللمتوني (ت580ه/1184م)”،[2] ومن خلاله نستطيع أن نتعرف على المنهج الأشعري الذي دخل المغرب الأقصى في هذه الفترة، يقول جمال البختي: “إن نص “عقيدة المرادي” سيفتح أمام المختصين بابا واسعا لمراجعة الكثير من الأحكام والمواقف في خصوص تاريخ دخول المذهب الأشعري إلى المغرب، وتتبع مسار تطوره، فالمعطيات والمضامين –فضلا عن المنهج المعتمد- في هذه الوثيقة تدفع دفعا نحو تأكيد حقيقة جديدة مفادها أن الاطلاع التام على المذهب، والتأليف فيه (على طريقة البغدادي والجويني ومن جاء بعدهما) لم يكن متأخرا –كما كان يُعتقد- بل كان في فترات متقدمة ومتزامنة مع التطور الذي شهده البحث العقدي في المشرق”.[3] و”بالنظر إلى التطور الذي عرفه المذهب الأشعري مضمونا ومنهجا يتبدى أن “عقيدة المرادي” توافق كثيرا المعطيات المتوفرة عن طبيعة القضايا وطريقة الاستدلال ومنهج البحث في الفكر الأشعري خلال النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الأول من الخامس في الغرب الإسلامي وفي افريقية والأندلس”،[4] وهذه هي الفترة التي ساد فيها منهج الجويني في المشرق والمغرب.
– المنهج التأويلي عند المرادي
1) نفي التشبيه: نجد المرادي في الكتاب يؤول الصفات الإلهية التي يوحي ظاهرها بالتشبيه، ويروم إلى عقيدة التنزيه، يقول المرادي: “وهو –سبحانه- لا يشبه خلقه؛ لأن المثلين ما ساد أحدهما مسدَّ صاحبه، وناب مَنابَهُ. فلو أشبهه لقامت صفات الحوادث به، ودلت على حدوثه. وقد قام الدليل على قدمه، قال تعالى: ((ليس كمثله شئ وهو السميع البصير))”.[5]
2) تنزيهه تعالى عن الجسمية: يقول المرادي: “بعض الأئمة أثبت لله سبحانه صفات خمسا يقتضيها عندهم السمع، وهي: 1- الوجه
2-3- واليدان
4-5- والعينان
وقد نطق بأسمائها القرآن: فقال تعالى: ((تجري بأعيننا))، وقال: ((ولتصنع على عيني))، ونحن نقول: المراد بذلك البصر الذي أثبت الله تعالى بقوله: ((وأن الله سميع بصير)) وكذلك إفراده في آية وجمعه في آية أخرى تعظيما له.
وأما قوله لإبليس: ((ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)) فاليدان قد تكون صلة، فيرجع المعنى إلى النفس كما قال تعال: ((ذلك بما قدمت يداك)) معناه بما قدمتم، والعرب تضيف الأفعال إلى اليدين لما كانت تقع بها بينهم غالبا، ويجوز أن تكون بمعنى القدرة، وتُثنى وتُجمع تعظيما لها كما قال تعال: ((خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما))، فسمى القدرة يدا وجمعها تعظيما…
فأما الوجه فإنه يكون أيضا بمعنى النفس كما قال تعالى: ((إنما نطعمكم لوجه الله)). وقد أُجمع على أن الله سبحانه لا تثبت له صفة بألفاظ يسوغ منها الاجتهاد، فكان بذلك الذي قلنا أظهر”.[6] وهذا خلاف ما في “كتاب الإبانة” من إثبات للصفات على ظاهرها دون تأويلها، حيث يثبت صاحب الإبانة لله العينين واليدين والوجه.
تأويله الاستواء على العرش، يقول المرادي: “اعلم أنه لا يُسأل عن الله سبحانه بكيف، ولا بما، ولا بمتى، ولا بأين.
ومعنى استوائه على عرشه أنه أرفع قدرا من مخلوقاته، والمخلوقات كلها من دونه. والاستواء بمعنى العلو معروف في اللغة، ولا يجوز أن يكون العرش مكانا له؛ لأن المتمكن إنما يكون بقدر مكانه، والخالق سبحانه لا يُقاس بشئ من خلقه، لأنه ليس بجسم من الأجسام ولا جرم من الأجرام، فلا يوصف بالقصر والطول، ولا بالتمكن والحلول، ولا تكنُفه الجهات، ولا تحيط به المخلوقات؛ لأنه تعالى قد كان ولا مكان، ولم يتغير الآن عما كان”.[7]
3) إثبات الكلام النفسي: يقول المرادي: “كلام الله سبحانه قديم قائم بذاته، وهو كلام واحد غير متعدد في نفسه، وهو أمر ونهي، وخبر عن مخبَراته، ولا مِثْل له من كلام خلقه…وهو خارج عن جميع اللغات ومتقدس عن الحروف والأصوات…والموصوف بالقدم هو الكلام القائم بذاته”.[8] هو بمعنى الكلام النفسي الذي يقول به الأشاعرة، وهذا خلاف كتاب الإبانة الذي يقول بقدم القرآن لفظا ومعنى.
الأصل عند المرادي هو تأويل المتشابهات حتى لا تؤثر في عقيدة الناس، إذ يقول: “واعلم أن الآي المتشابهة والأحاديث المشكلة يجب إخراجها عن ظواهرها وحملها على غير ذلك من محتملاتها، ويرجع ذلك إلى المقصود من معانيها…وتأويلها أولى؛ لئلا تُسرع إلى ظواهرها من التجسيم قلوبُ الجهال وألسنة أهل الضلال”.[9] هذا هو اعتقاد أبي بكر المرادي في الله تعالى وهو على منهج “كتاب اللمع” في الاستدلال.
– أبو الحجاج يوسف الضرير
هو أبو الحجاج يوسف بن موسى الملقب بالضرير (ت520هـ)،[10] “كان من المشتغلين بعلم الكلام على مذهب الأشعرية ونظَّارِ أهل السنة”[11] تتلمذ على أبي بكر المرادي الحضرمي، “وكان مختصا به”[12] يقول عنه القاضي عياض تلميذه: “قرأت عليه أرجوزته الصغرى التي ألف في الاعتقادات، وحدثني بالكبرى، وبكتاب التجريد لأبي بكر المرادي، وأجازني في أرجوزته الكبرى، وجميع تواليفه، ورواياته، منها تآليف الفقيه أبي بكر المرادي، شيخه، وعنه كان أكثر أخذه”[13] وقد خلَف الضريرُ أبا بكر المرادي في علوم الاعتقادات بعد وفاته[14] وله منظومة بعنوان “التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد” “وهذه مختصرة من كتاب الإرشاد لأبي المعالي (الجويني)”،[15] وهو دليل قاطع على أن منهج الضرير هو منهج “كتاب الإرشاد” للجويني.
– المنهج العقلي التأويلي عند الضرير
أبين هذا من خلال منظومته “التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد”:
1) قوله بالاستدلال العقلي:
فَخَيْرُ ما يُطْلَبُ بالدَّلِيلِ *** مَعْرٍفَـــــةُ الإلَـــــهِ والرَّسُـــــــــولِ
لِأَنَهَـــــا تَشْرُفُ بِــــــــالمعْلُومِ *** وَالحَظِّ عِنْدَ الملِكِ القَيُّومِ
وَأَمَرَ اللهُ بِـــــــــالاِعْتِبَـــــــــــــــــــارِ *** وَبِـــالتَّفَكُّرِ وَالِاسْتِبْصَــــارِ
والمَيْزِ لِلْحَقِّ مِنَ الْأَدْيَــانِ *** وَإِنَّمَــــــا يَمْتَازُ بِالْبُرْهَــــــــــــــــــانِ[16]
2) قوله بوجوب النظر:
والنَّظَرُ اسْمٌ لِمَعَانٍ أَرْبَعَهْ *** تَضَمَّنَ الكِتَابُ ذَاكَ أَجْمَعَهْ
يَكُونُ لِلرُّؤْيَـــةِ بِالْأَبْصَـــــــــارِ *** وَلِلتّـــَرَقُّـــبِ وَالِانْتِظَـــــــــــــــــــــــــــــــارِ
وَلِلْجَنَــــــــــــــــانِ وَلِلِاسْتِدْلَالِ *** وَهُوَ مَــــــا يُقْصَدُ بِالْمَقَــــــــــالِ[17]
3) طرق الاستدلال عنده تكون بالكتاب والسنة والإجماع والعقل:
وَيُسْتَدَلُّ بِالكِتَــــابِ وَالسُّنَنْ *** وَحُجَّةُ الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ الْحَسَنْ
عَلَى الْقَضَايَا كُلِّهَا السَّمْعِيَّهْ *** وَبَعْضِ مَـــــــــــا هُوَ مِــنَ الْعَقْلِيَّــــهْ[18]
4) يقرر المبحث الطبيعي في مسألة حدوث العالم:
إِنَّ الدَّلِيلَ فِي حُدُوثِ العَــالَمِ *** لِكُلِّ ذِي فَهْمٍ صَحِيحٍ سَالِمِ
حَرَكَـــــــــــــةٌ يَعْقُبُهَــــــــــــــــا سُكُــــــونُ *** يُـــــــــــــعْدَمُ هَذَا حِينَ ذَا يَكُــونُ
……………………. ……………………
وَلَهُمَـــــــــــــــــــــــا بِـــــــالْجَوْهَرِ احْتِلَالُ *** وَكَوْنُهُ دُونَهُمَــــــــــــــا مُحَـــــــــــــــــــــالُ
فَلَمْ يَـــــــــكُنْ وُجُودُهُ قَبْلَهُمَـــــــــــا *** فَكَانَ حَادِثاً إِذاً مِثْلَهُمَـــــــــــا
وَسَــــــــــــــائِرُ الْأَعْرَاضِ كَــــالْأَلْوَانِ *** فِيمَـــــــا فَرَضْنَــاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ[19]
5) عقيدة التنزيه:
وَيَــسْتَحِيـــــــــــــــــلُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُـــــــــــــــــهْ *** كَذَاتِ مَخْلُوقٍ كَــــــــذَا صِفَــــــــــــــــــاتُــــــــــــــــــهْ
وَيَـــسْتَحِيـــــــلُ الْكَوْنُ فِي مَكَـــــــــــــــــانِ *** عَــــــــــلَـــــــــــــــيْــــــــــهِ إِذْ لَيْسَ بِذِي أَكْـــــــــــوَانِ
وَلَا لَـــــــــــــــــــــــهُ حَدٌّ وَلَا مِثَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالُ *** وَلَا تَـــــغَـــــــــــــــــيُّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ وَلَا زَوَالُ
فَكُلُّ ذَاكَ مِنْ خَوَاصِ الْمُحْدَثَاتْ *** وَهْوَ تَعَالَى جَلَّ عَنْ هَذِي الصِّفَاتْ
وَوَصْفُــــــــــــــــــــــــــــــهُ فِي الْوَحْيِ بِــــــالْيَدَيْنِ *** وَالْوَجْــــــــــــــــــــــهِ وَالنُّــــــــــــزُولِ وَالْــــــعَيْنَيْـــــــــــــنِ
وَالِاسْتـــــــــــــِوَاءِ وَالْمَجِـــــــئِ لِـــــلْأُمَـــــــــــــــمْ *** وَأَنَّـــــــــــــــــــــــــهُ يَضَعُ فِي النَّــــــــــــــــــــــــارِ الْقَدَمْ
لِلْكُلِّ تَــــــــــــــأْوِيلٌ صَحِيحٌ فِي اللُّغَـــــــــهْ *** وَالْعَقْلِ فَـــــــــــــــــــــاعْتَقِدْهُ حَتَّى تَبْلُغَـــــــــــــــهْ[20]
ثم يسترسل في ذكر الصفات وما ورد في الأخبار من المتشابهات فيؤولها إلى معانيها الحقيقية تأويلا لغويا وعقليا[21] بخلاف منهج “كتاب الإبانة” في إثبات الصفات على ظاهرها، ولولا خشية الإطالة لأتيت بنماذج كثيرة من هذا النوع الذي يوضح منهجية الضرير وتأثره بكتاب الإرشاد للجويني، ويكفي ذكر هذا فقط؛ لأن غايتي هو الاستشهاد فقط وليس دراسة كل فكر الضرير فليراجع في “كتاب التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد” فهو مطبوع.
– محمد بن تومرت
هو محمد بن عبد الله بن تومرت (ت 524ه/1129م) مؤسس الدولة الموحدية، وهو الذي قام بترسيم المذهب الأشعري بالمغرب، وكان قبل ذلك قد “ارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة”،[22] و”لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفية والذب عنها بالحجج العقلية…وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث”،[23] وبعد رجوعه إلى المغرب أخذ في نشر العقيدة الأشعرية على طريقة أهل التأويل، حيث حمل المغاربة “على القول بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد”[24] “فأهل المغرب لم يكونوا قبل رجوع المهدي من المشرق يعتنقون مذهب الأشعري في العقيدة، وإن يكن بعض علمائهم حصل لهم علم بهذا المذهب”،[25] حيث أن السلطة الحاكمة في ذلك العهد كانت ترفض الخوض في علم الكلام، وكانوا يبالغون في إمرار النصوص على ظاهرها مما أوقع الناس في التجسيم، وكانوا رافضين لكل تأويل أو استدلال عقلي على حقائق العقيدة”[26] مما جعل ابن تومرت يفكر في تغيير تصور المغاربة في العقيدة لكي “تتحول من تصورات يشوبها التجسيم إلى تصورات تقوم على التوحيد المطلق الموجب لتنزيه الخالق عن كل شبه بالمخلوقات”[27] فقد “كان شغله الشاغل أن يقرب العقيدة القائمة على أساس من التنزيه والتأويل إلى أفهام العامة وأن يجعلها قوام تصورهم العقدي، وهو ما كان ينفق فيه شطرا كبيرا من جهده التربوي، وألف فيه عدة رسائل أهمها المرشدة، ليقيم التوحيد في الأذهان مقام التشبيه والتجسيم”،[28] وكان قد”بنى رابطة للعبادة اجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري”،[29] و”المرشدة هي رسالة صغيرة الحجم لا تتجاوز الصفحتين، فيها عرض موجز لمسائل العقيدة خال من البراهين، ولعلها أكثر مؤلفات المهدي انتشارا في المغرب والمشرق لأنها تعتبر خلاصة لفكره العقدي”،[30] و”قد شاع ذكرها بين الناس عامتهم وعلمائهم، وجرت بها الألسنة حفظا وشرحا، وصارت على مر الأيام الخلاصة للتصور العقدي الذي تجري به الأذهان ويلقن للناس”،[31] وقد سار ابن تومرت على نهج “كتاب الإرشاد” في الاستدلال على العقائد، وهذا بَيِّن من خلال كتبه ككتاب “المرشدة” وكتاب “أعز ما يطلب”.
– المنهج العقلي والتأويل عند ابن تومرت:
1) وجوب النظر: يرى ابن تومرت أن الله يُعرف بضرورة العقل وذلك أن العقلاء “استقر في نفوسهم أن الفعل لابد له من فاعل، وأن الفاعل ليس في وجوده شك، ولذلك نبه الله تبارك وتعالى في كتابه فقال: ((أفي الله شك فاطر السموات والأرض)) أخبر تعالى أن فاطر السموات والأرض ليس في وجوده شك، وما انتفى عنه الشك، وجب كونه معلوما، فثبت بهذا أن الباري سبحانه يُعلم بضرورة العقل”،[32] ومعنى الضرورة عنده، يقول: “والضرورة ما لا يتطرق إليه الشك، ولا يمكن العاقل دفعه. وهذه الضرورة على ثلاثة أقسام: واجب، وجائز، ومستحيل، فالواجب ما لابد من كونه، كافتقار الفعل إلى الفاعل، والجائز ما يمكن أن يكون، ويمكن أن لا يكون، كنزول المطر، والمستحيل ما لا يمكن كونه، كالجمع بين الضدين، وهذه الضرورة مستقلة في نفوس العقلاء بأجمعهم”.[33]
2) المبحث الطبيعي في الاستدلال العقدي: وذلك بذكر الأفلاك والأجسام والجواهر والأعراض والحركة والسكون والطبع والعادة والتغير والزيادة والنقصان والحيوانات والجمادات والآثار الطبيعية والألوان المختلفة،[34] وهذا النوع من الاستدلال ينتمي إلى منهج “كتاب الإرشاد” في الاستدلال على العقائد، وهو منهج “كتاب اللمع” أيضا بعد التطوير.
واستدل بنظرية الجوهر الفرد على الحدوث كقوله: “وجميع المحدثات وإن كثرت أعدادها، واختلفت أجناسها على ضربين: تغير، ومتغير، فالتغيرات هي الأعراض، والمتغيرات هي الأجرام.
والأجرام على ضربين: منفرد ومتألف، فالمنفرد هو الجزء الفرد الذي لا يجوز عليه التجزي والانقسام، المتغير بالأعراض المتعاقبة، والأحوال المتلازمة”،[35] وهذه هي نظرية الجوهر الفرد عند الأشاعرة، وهذا المبحث الطبيعي قد تناوله أبو الحسن الأشعري، حيث قال: “اعلموا أرشدكم الله أن مما أجمعوا -رحمة الله عليهم- على اعتقاده مما دعاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) إليه، ونبههم بما ذكرناه على صحته أن العالم بما فيه من أجسامه وأعراضه محدث لم يكن ثم كان، وأن لجميعه محدِثا واحدا، اخترع أجناسه، وأحدث جواهره وأعراضه، وخالف بين أجناسه”.[36]
3) عقيدة التنزيه:لم يكن ابن تومرت في استدلاله العقدي على منهج “كتاب الإبانة” بل كان على منهج التأويل لــ”كتاب اللمع” الذي استفاده من الجويني والغزالي، ومن أمثلة على منهج التأويل، يقول في تنزيهه لله تعالى: “والخالق سبحانه هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شئ عليم، الأول من غير بداية، والآخر من غير نهاية، والظاهر من غير تحديد، والباطن من غير تخصيص، موجود على الإطلاق من غير تشبيه ولا تكييف…ليس له مثل يقاس عليه، هو كما قال تعالى: ((ليس كمثله شئ وهو السميع البصير)) لا يلحقه الوهم، ولا يكيِّفه العقل”،[37] “عرفه العارفون بأفعاله، ونفوا التكييف عن جلاله لما يؤدي إليه من التجسيم والتعطيل”.[38]
ويقول: “لا إله إلا الذي دلت عليه الموجودات، وشهدت عليه المخلوقات، بأنه جل وعلا وجب له الوجود على الإطلاق، عن غير تقييد، ولا تخصيص بزمان، ولا مكان، ولا جهة، ولا حد، ولا جنس ولا صورة ولا شكل ولا مقدار، ولا هيئة، ولا حال. أول لا يتقيد بالقبلة، آخر لا يتقيد بالبعدية، أحد لا يتقيد بالأينية، صمد لا يتقيد بالكيفية، عزيز لا يتقيد بالمثلية، لا تحده الأذهان، ولا تصوره الأوهام، ولا تلحقه الأفكار، ولا تكيفه العقول، لا يتصف بالتحيز والانتقال، ولا يتصف بالتغير والزال، ولا يتصف بالجهل والاضطرار، ولا يتصف بالعجز والافتقار، له العظمة والجلال، وله العزة والكمال، وله العلم والاختيار، وله الملك والاقتدار، وله الحياة والبقاء، وله الأسماء الحسنى”.[39]
هذا بعض ما جاء من كلام ابن تومرت ونموذج من استدلالاته العقدية، ولست أريد التطويل حتى لا أخل بهذا البحث وأكتفي بما أريد بيانه من منهج ابن تومرت في إستدلاله على العقيدة؛ ما دام أن غرضي هو معرفة منهج الاستدلال العقدي عند أشاعرة المغرب.
– عثمان السلالجي
هو أبو عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي (ت564ه)[40] يقول عنه التادلي عند ترجمته في كتاب التشوف: “إمام أهل المغرب في علم الاعتقاد…لقي أبا الحسن علي بن أحمد اللخمي المعروف بابن الاشبيلي وكان له بصر وخبرة بكتاب الإرشاد، فلازمه مدة يسيرة حصل له فيها فهم الإرشاد وفتح عليه كل ما انغلق عليه من معانيه، فعاد إلى فاس فزهد في الدنيا وأهلها وانتصب لتعليم العلم محتسبا إلى أن لحق بالله تعالى”،[41] ويحكي التادلي عن السلالجي قوله في كيفية اطلاعه على كتاب الإرشاد، يقول السلالجي: “لقيت فتى من أصحابي، فبت عنده وكان الفتى بطالا [وأبوه] من طلبة العلم، فجعلت أنظر في كتبه، فوقع بيدي من علوم الاعتقاد التقريب والإرشاد فأعجبني وقال لي صاحبهما: هذا الإرشاد هو المدخل إلى هذا العلم، ثم حملته إلى ابن حرزهم وابن الرمالة واستشرتهما في قراءته فاستحسناه وأشارا علي بالنظر فيه، فقلت لابن حرزهم: أتأذن لي في قراءته عليك؟ فقال لي: لا أجيده، فإن قنعت مني بتعليم ما أعلمه فانظره. فأخذته عليه”،[42] وهذه الرواية نفهم منها اقبال صوفية المغرب الأشاعرة على منهج الجويني في الاستدلال على العقائد الإيمانية، فهذا ابن حرزهم من شيوخ الصوفية الكبار بالمغرب ومن المرجعيات الكبرى في تصوف المغاربة كان أشعريا على طريقة الجويني، وعلى منهج كتاب “اللمع”.
كان السلالجي في مرحلة طلب العلم مفتتنا بكتاب الإرشاد، حتى أن “العلم الذي كان يطلبه وملأ الاهتمامُ به شِغافَ قلبه هو علم الاعتقاد في كتاب “الإرشاد”…فهو بعد رجوعه إلى فاس من بجاية سالما بجلده، فارغَ اليد مما رحل إليه؛ طلبه بعضُ الرؤساء لتعليم أولاده وحمَلَه معه إلى مراكش حيث لقي الشيخ أبا الحسن اللخمي المعروف بابن الإشبيلي وكان ذا بصيرة في كتاب “الإرشاد” فلازمَه مدة حصلَ له فيها فهم ذلك الكتاب وفُتح عليه كل ما أُغلق من معانيه”.[43] يقول يوسف احنانة عن أبي عمرو السلالجي: “المفكر الأشعري المغربي الذي رفع بعض المؤرخين درجته في علم الكلام بالغرب الإسلامي إلى درجة أبي المعالي الجويني في المشرق، وذلك لاطلاعه الواسع بأمور علم الكلام الأشعري من جهة، ولدوره الكبير في بث ونشر المذهب الأشعري بالمغرب، حتى قيل عنه إنه هو الذي أنقذ أهل فاس من التجسيم”.[44]
توجد للسلالجي رسالة تسمى بــــ”العقيدة البرهانية” المشهورة بالسلالقية (وهي) على صغر حجمها مختصر “الإرشاد”[45] “فقد كان لحجمها الصغير ودقة عباراتها، دور فعال في إقبال المغاربة عليها بكل أصنافهم وفئاتهم وأعمارهم وتخصصاتهم، فالتفوا حولها وقاموا بحفظها وتعلمها وشرحها كل حسب طاقته وإمكانياته”،[46] فقد “لقيت قبولا تلقائيا من طرف المغاربة، لكونها-على وجازتها واختزالها- تعطي تصورا عاما ودقيقا عن أصول وأركان العقيدة، بحيث يخرج قارئها بنظرة وافية عما يجب أن يعتقده في حق الله [تعالى] وصفاته ورسله والأخبار الغيبية المرتبطة بالرسالة”.[47]
سار السلالجي في هذه الرسالة التي كتبها على منهج التأويل، يقول عبد الله كنون: “إن ما حصل به الشيخ على الشهرة الواسعة وأبقى له الذكر الحسن في الناس، هو هذه المقدمة العقدية التي شهرت “بالبرهانية” واقترنت بذكر جهاده في بث عقيدة أهل التأويل”،[48] على طريقة الجويني في “كتاب الإرشاد” وهو نفسه منهج “كتاب اللمع” كما ذكرت سابقا، و”إن منهجه فيها، وتقسيمه لموضوعاتها ينبئ عن اطلاع واسع وخبرة كبيرة بمباحث العقيدة وبمسائل علم الكلام، لهذا اندفع الشراح إلى العناية بها وأسهب المتكلمون المغاربة في توضيح فصولها وبسط قضاياها”،[49] وشروح البرهانية جلها مفقود.[50]
– منهج التأويل عند السلالجي
يقول السلالجي منزها الله تعالى عن مشابهته الحوادث: “والدليل على أنه تعالى مخالف للحوادث: هو أن المثلين: كل موجودين متساويين في جميع صفات النفس، والرب تعالى مقدس عن جميع سمات الجواهر والأعراض، فوجب أن يكون مخالفا لها؛ وذلك أن الجوهر حقيقته: المتحيِّز، والمتحيِّز يجوز عليه الاختصاص ببعض الجهات والمحاذيات، وذلك يدل على حدوثه، والموصوف بالقدم لا يتصف بما يدل على حدوثه”،[51] فهذه المنهجية العقلية في الاستدلال لا تتفق مع منهج “كتاب الإبانة” مما يفيد في أن السلالجي كان يسير على منهج الجويني في الإرشاد لهذا وللأدلة التي ذكرتها من قبل.
– ابن خمير السبتي
هو أبو الحسن علي بن أحمد السبتي المعروف بابن خمير الأموي السبتي (ت614هـ/1217م)، له كتاب “مقدمات المراشد” محقق مطبوع، وقد كان أيضا على منهج “كتاب الإرشاد” وعلى طريقة “كتاب اللمع” في الاستدلال العقدي كحال جميع المغاربة، ومما يؤكد أن المنهج الأشعري المغربي هو منهج “كتاب اللمع” قول ابن خمير السبتي في مقدمة كتابه “مقدمات المراشد” يرد فيه على من يُفتَرَض أنه سيُسأل عن سبب إقدامه على تأليف هذا الكتاب وقد سبقه من هو أعلم منه، يقول ابن خمير: “فإن قيل: وكيف تستتب لك هذه الدعوى وقد تقدمك إليها فحول العلماء ورؤساء الطريقة كالشيخ أبي الحسن في “لمعه”…”،[52] فلو كان “كتاب الإبانة” هو المنهج الحقيقي لأبي الحسن الأشعري لذكره ابن خمير ولما ذكر “اللمع”، فهذا نص واضح يزكي طرحي في هذا الموضوع الذي خصصته للفكر الأشعري المغربي بين “كتاب الإبانة” و”كتاب اللمع”؛ حيث يؤكد هذا النص أن المنهج الاستدلالي العقدي عند أشاعرة المغرب هو منهج “اللمع”، وأنه المنهج الحقيقي الذي مات عليه أبو الحسن الأشعري، وقد سار ابن خمير السبتي في كتابه “مقدمات المراشد” على هذا المنهج كما سأبين.
– المنهج العقلي التأويلي عند ابن خمير السبتي
1) وجوب النظر: يرى ابن خمير وجوب النظر والاستدلال على العقائد ويذم التقليد مطلقا، يقول: “العلم بالله تعالى واجب بالإجماع، والتقليد ترك العلم، وترك الواجب حرام، فالتقليد حرام، والحرام مذموم بالشرع، فالتقليد مذموم”[53] و”أجمعت الأمة على أن العلم بالله تعالى واجب، وهو لا يحصل إلا بالنظر والاستدلال، وما لا يصح الواجب إلا به فهو واجب”.[54]
ويستدل على حدوث العالم إنطلاقا من الحكم العقلي باعتبار العلم بالجواز، وهو قطب العقل،[55] كما ذكر، ثم يسترسل في وصف ظواهر الطبيعة، وهذا المنهج يتقاطع بالمرة مع منهج “كتاب الإبانة”.
2) عقيدة التنزيه: في كتابه “مقدمات المراشد” يعمل بمنهج التأويل لتنزيه الله تعالى عن الحوادث ونفي التشبيه عنه تعالى، يقول: “فهذه جملة العالم بأسره من العرش إلى الفرش يشهد بنفي التشبيه بينه وبين خالقه”،[56] ورد على المشبهة في آيات وأحاديث ركنوا إلى ظاهرها كآية الاستواء، وآية المجئ، وآية الساق، واليد، والعين، والأعين، والجنب، وكذلك حديث النزول، وحديث القدم، والرجل، والضحك، والفرح…إلى غير ذلك، بالمنهج العقلي التأويلي،[57] ويؤول اليد واليدين والأيدي بالقدرة البالغة، والأعين بالحفظ، والوجه بالطاعة والانقياد، وغير ذلك من الصفات،[58] ويقول: “وجملة الأمر أن كل صفة لا يثبت للباري تعالى بإثباتها كمال، ولا ينتفي عنه بنفيها نقص، ولا تفتقر إليها الأفعال، ولا يقوم على إثباتها دليل من العقل، ولا نص قاطع من النقل، فقد انسد الطريق إلى إثباتها”.[59]
3) إثبات الكلام النفسي: ويثبت أيضا الكلام النفسي لله ويرد على المجسمة الذين يرون كلام الله عبارة عن حروف وأصوات،[60] ويقول: “فصح أن الكلام الحقيقي لنا هو كلام النفس بشهادة العقل والنقل، وما سواه من الأصوات والرموز والإشارة والكتابة…وغير ذلك من الأمارات إنما هو عبارة عن الكلام لا نفس الكلام”.[61]
4) إثبات الكسب: أثبت ابن خمير الكسب، وهو النظرية التي جاء بها الأشعري في “كتاب اللمع”، وأطال الأشعري النفس فيها وبسطها تبسيطا، وهذه النظرية لا نجدها في “كتاب الإبانة”، وابن خمير أيضا أطال فيها الكلام ورد على من يخالف الأشاعرة في هذه المسـألة.[62]
– المكلاتي
هو أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي (ت626هـ/1237م) أشعري على التحقيق بخلاف من يرى أنه كان ينتمي إلى طائفة الفلاسفة، فهذا بعيد جدا، فنصوصه التي أوردها في كتابه “لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول” تبين ذلك، فهو يسير فيه على منهج الأشاعرة المتأخرين، ويستدل بآرائهم، ومما يدل على أشعريته ترضيه عن أبي الحسن الأشعري، وموافقته الأشاعرة في كل آرائهم، كما نجد في كلامه هنا، حيث يقول: “وقد تردد جواب أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه في ذلك…”،[63] ويقول: “وإلى هذا ذهب أبو حامد وجماعة من الأشعرية، وهذا المختار عندنا”،[64] وكذلك في إثباته لله الكلام النفسي إذ يقول: “وأنه تكلم بكلام قديم أزلي، لا مفتتح لوجوده…هو القول القائم بالنفس…فخرج لك من ذلك ثبوت كلام قائم بالنفس”،[65] والأشاعرة هم من يقولون بالكلام النفسي.
– ملاحظات في كتاب “لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول”
كان المكلاتي متأثرا بمنهج “كتاب الإرشاد” للجويني كغيره من أشاعرة المغرب، فهو يرد على الفلاسفة في كتابه “لباب العقول” إنطلاقا من “كتاب الإرشاد” للجويني، وأحيانا ينقل بعض العبارات كما هي في “كتاب الإرشاد”، دون أن يتصرف فيها، كقوله: “وذهب الجبائي وابنه إلى أن المعنى بكونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به”،[66] والكلام نفسه في “كتاب الإرشاد”، يقول الجويني: “وذهب الجبائي وابنه إلى أن المعنى بكونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به”،[67] ويقول المكلاتي: ” وأطبق المنتمون إلى الإسلام على إثبات الكلام، ولم يصر صائر إلى نفيه، ولم ينتحل أحد في كونه متكلما نحلة نفاة الصفات في كونه عالما قادرا حيا”[68] وفي “كتاب الإرشاد”: “وأطبق المنتمون إلى الإسلام على إثبات الكلام، ولم يصر صائر إلى نفيه، ولم ينتحل أحد في كونه متكلما نحلة نفاة الصفات في كونه عالما قادرا حيا”[69] ويقول المكلاتي في كتابه “لباب العقول” في نص كامل مجتزأ كما هو من “كتاب الإرشاد”: “ثم ذهب المعتزلة، والخوارج، والزيدية، والإمامية، ومن عداهم من أهل الأهواء إلى أن كلام الله تعالى عن قول الزائغين حادث مفتتح وجوده. وصار صائرون من هؤلاء إلى الامتناع عن تسميته مخلوقا، لما في لفظ المخلوق من إيهام الخلق، إذ الكلام المختلق، هو الذي ينوبه المتكلم تخرصا من غير أصل. وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الباري تعالى، وذهبت الكرامية إلى أن الكلام قديم، والقول حادث والقرآن قول الله تعالى، وليس بكلام الله تعالى. وكلام الله تعالى عندهم القدرة على التكلم. وقوله حادث قائم بذاته تعالى الله عن قول المبطلين وهو غير قائل بالقول القائم به، وإنما هو قائل بالقائلية”[70] وفي “كتاب الإرشاد” يقول الجويني: “ثم ذهب المعتزلة، والخوارج، والزيدية، والإمامية، ومن عداهم من أهل الأهواء إلى أن كلام الباري تعالى عن قول الزائغين حادث مفتتح الوجود. وصار صائرون من هؤلاء إلى الامتناع من تسميته مخلوقا، مع القطع بحدثه لما في لفظ المخلوق من إيهام الخلق، إذ الكلام المخلوق، هو الذي يبديه المتكلم تخرصا من غير أصل. وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الله تعالى، وذهبت الكرامية إلى أن كلام الله قديم، والقول حادث غير محدث والقرآن قول الله، وليس بكلام الله. وكلام الله عندهم القدرة على الكلام. وقوله حادث قائم بذاته تعالى عن قول المبطلين؛ وهو غير قائل بالقول القائم به، بل قائل بالقائلية”،[71] فهذه فقط بعض المختارات من الكتابين أبين من خلالها استفادة المكلاتي من “كتاب الإرشاد”، مما يزيدنا تأكيدا أن أشاعرة المغرب تأثروا بكتاب “الإرشاد” للجويني وساروا على نهجه وهو نفس اتجاه “كتاب اللمع” لأبي الحسن الأشعري كما قررته سابقا.
– منهج التأويل عند المكلاتي
عقيدة التنزيه: ينفي المكلاتي عن الله الجهة والزمان، واستحالة ذلك على الله، يقول: “مذهب أهل الحق، أن الباري تعالى وتقدس يستحيل عليه التخصص بالجهات، كما يستحيل عليه التغير بالزمان”.[72]
تأويله آية ((الرحمن على العرش استوى)) وأن الاستواء تارة يعني القهر والغلبة وتارة يكون بمعنى الاستيلاء، يقول: “فالعرش في كلام العرب لفظ مشترك، تارة يطلق ويراد به السرير وتارة يطلق ويراد به الملك.
فإن قلناه على السرير؛ قلنا فيه تأويلان:
أحدهما: حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة…والتأويل الثاني: حمل الاستواء على قصد الإله الرائد في العرش…
وإن حملنا العرش على الملك، فيكون الاستواء بمعنى الاستيلاء وذلك أمر مشهور في كلام العرب”.[73]
هذه بعض ما اخترته من النصوص أبين من خلالها منهج المكلاتي في العقائد الإيمانية، وما يهمني هو الوقوف على حقيقة منهجه وليس عرض نصوصه وهي كثيرة.
– عبد الواحد بن عاشر
هو “أبو مالك عبد الواحد بن أحمد بن عاشر الأنصاري الأندلسي الأصل الفاسي المولد والقرار الفقيه الأصولي المتكلم…له تآليف منها المنظومة المسماة بالمرشد المعين رزق فيها القبول…توفي في ذي الحجة سنة 1040″[74]
ومنظومته المشهوة يحفظها طلبة العلم الشرعي في الكتاتيب القرآنية ويدرسونها في المدارس العتيقة، هذه المنظومة التي استفاد منها المسؤولون في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمشرفون على اصلاح الحقل الديني قاعدة ما يعرف عندهم بالثوابت الدينية عند المغاربة، وهي العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني، أخذوها من قوله:
في عَقْدِ الأشْعَرِي وفِقْهِ مالِكِ *** وفي طَريَقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِكِ[75]
وقد رأيت أن أتحدث عن منهجه في المنظومة لعلاقتها بالفكر الأشعري المغربي قديما وحديثا، وأعرض منها بعض الأبيات مع شرحها من خلال كتـاب “الـدر الثمـين والمـورد المعـين” لمحمـد بـن أحمـد بـن محمـد الفاسـي الشـهير بــــ”ميـارة” وهو شرح علـى منظومـة ابـن عاشـر، لأبين أنه سواء الناظم أو الشراح كلهم ساروا على منهج “كتاب الإرشاد” للجويني وعلى طريقة “كتاب اللمع” للأشعري.
1) الحكم العقلي: يبتدئ ابن عاشر مقدمته لكتاب الاعتقاد في منظومته بذكر الحكم العقلي مما يفيد أن منهجه في الاستدلال على العقائد منهج عقلي بخلاف “كتاب الإبانة”، يقول ابن عاشر:
وَحُكمُنــــــا العَقليُّ قَضِيَّةٌ بِلَا *** وَقْفٍ على عــــادةٍ أو وَضْعٍ جَلَا
أَقسامُ مُقتَضاهُ بالحَصْرِ تُمازْ *** وهي الوُجوُبُ الاستِحالَةُ الجَوازْ
الشرح: “ودليل الحصر في الثلاثة…هو أن كل ما يحكم به العقـل، إمـا أن يقبـل الثبوت والانتفاء معا أو يقبل الثبوت فقط أو الانتفاء فقط؛ فالأول هو الجائز ويسمى الممكن أيضا. والثاني الواجب. والثالث المستحيل”.[76]
2) وجوب النظر: يوجب ابن عاشر استعمال النظر في الاستدلال العقدي بخلاف “منهج كتاب الإبانة”، يقول ابن عاشر:
أوَّلُ واجِبٍ على مَن كُلِّفَا *** مُمَكَّناً مِن نَظَرٍ أن يَعرِفَا
الشرح: “والمعرفـة الواجبـة فـي الجـزم المطـابق عـن دليـل فخـرج بـالجزم مـن كـان إيمانــه عــن ظــن أو شــك أو وهــم فإيمانــه باطــل بإجمــاع. وخــرج بوصــفه بالمطــابق الجــزم غيــر المطـابق ويسـمى الاعتقـاد الفاسـد والجهـل المركـب كاعتقـاد الكـافرين التجسـيم أو التثليـث أو نحو ذلك”.[77]
3) عقيدة التنزيه: يقول ابن عاشر:
وَخُلْفُهُ لِخَلْقِهِ بِلَا مِثالْ *** وَوَحْدَةُ الذّاتِ وَوَصْفٍ والفِعالْ
الشرح: “(مخالفتـه تعـالى للحـوادث) لا يماثلـه تعـالى شـيء مـن الحـوادث لا فـي ذاتـه تعـالى ولا فـي صفاته ولا في أفعاله. قال تعالى: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير()”.[78]
فهذا هو فكر ابن عاشر ومنهجه العقدي، وهو الذي حفظه طلبة العلم المغاربة منذ زمن وبنىوا عليه ثوابتهم الدينية؛ لا “كتاب الإبانة” الحنبلي الذي تراجع عنه الأشعري واستبدله بمنهج “كتاب اللمع”؛ هذا إن ثبت أن “كتاب الإبانة” هو حقا لأبي الحسن الأشعري.
هذا جملة القول في المنهج الاستدلالي العقدي عند أشاعرة المغرب.
———————-
الهوامش:
[1] التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أحمد التوفيق، ط:2، س:1997، ص:106.
[2] أحمد عبادي في تقديمه لكتاب عقيدة المرادي الحضرمي للبختي، دار الأمان للنشر والتوزيع، س ط:1433هـ/2012م ص:6.
[3] جمال علال البختي، في تصديره للكتاب نفسه، ص:11.
[4] المصدر نفسه، ص:139.
[5] المصدر نفسه، ص:197.
[6] المصدر نفسه، ص:234.
[7] المصدر نفسه، ص:245.
[8] المصدر نفسه، ص:227.
[9] المصدر نفسه، ص:261.
[10] كتاب الصلة لابن بشكوال، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري-القاهرة، دار الكتاب اللبناني-بيروت، ط:1، س ط:1410هـ/1989م، ج:3، ص:978.
[11] الغنية للقاضي عياض، تحقيق: ماهر زهير جرار، دار الغرب الإسلامي، بيروت-لبنان، ط:1، س ط:1402هـ/1982م، ص:226.
[12] كتاب الصلة لابن بشكوال، ج:3، ص:978.
[13] الغنية للقاضي عياض، ص:226.
[14] التشوف إلى رجال التصوف، ص:106.
[15] السكوني شارح منظومة التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد، اللوحة الأولى من الشرح المخطوط، نقلا عن مقدمة محقق التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد لأبي الحجاج يوسف الضرير، تحقيق: سمير قوبيع-محمد العمراني-نور الدينشعيبي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-المملكة المغربية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط:1، 1435هـ/2014م، ص:28.
[16] أبو الحجاج يوسف الضرير، التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد، ص:48.
[17] المصدر نفسه، ص:72-73.
[18] المصدر نفسه، ص:78.
[19] المصدر نفسه، ص:92.
[20] المصدر نفسه، ص: 109-110.
[21] المصدر نفسه، ص:111 وما بعدها.
[22] تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، مراجعة: سهيل زكار، دار الفكر، 1421هـ/2000م، ج:6، ص:301-302.
[23] المصدر نفسه، ج:6، ص:302.
[24] المصدر نفسه، ج:6، ص:302.
[25] المهدي بن تومرت، عبد المجيد النجار، ط:1، س ط:1403هـ/1983م، ص:430.
[26] عبد المجيد النجار، تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت، المعهد العالمي للفكر الإسلامي-فيرجينيا، ط:2، س ط:1415هـ/1995، ص:52.
[27] المهدي بن تومرت، عبد المجيد النجار، ص:351.
[28] المصدر نفسه، ص:359.
[29] تاريخ ابن خلدون، ج:6، ص:303. روض القرطاس لابن أبي زرع، دار المنصور للطباعة والوراقة-الرباط، 1972، ص:177.
[30] المهدي بن تومرت، عبد المجيد النجار، ص:150.
[31] المصدر نفسه، ص:447.
[32] أعز ما يطلب، محمد بن تومرت، تحقيق: عمار طالبي، وزارة الثقافة الجزائرية-الجزائر عاصمة الثقافة العربية، 2007، ص: 214.
[33] المصدر نفسه، ص: 214.
[34] المصدر نفسه، ص: 195 وما بعدها.
[35] المصدر نفسه، ص: 195-196.
[36] رسالة إلى أهل الثغر، أبو الحسن الأشعري، تحقيق: عبد الله شاكر الجنيدي، ط: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1988، ص: 209.
[37] المصدر نفسه، ص: 217.
[38] المصدر نفسه، ص: 217.
[39] المصدر نفسه، ص: 225.
[40] التشوف إلى رجال التصوف، ص:198.
[41] المصدر نفسه، ص:198-200.
[42] المصدر نفسه، ص:198-199.
[43] ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، عبد الله كنون، مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم، بيروت-لبنان، ط:1، س ط: 2010، ج:1، ص:254-255.
[44] تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، يوسف احنانا، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2003، ص:112.
[45] ذكريات مشاهير المغرب، ج:1، ص: 263.
[46] جمال البختي، عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، جمال علال البختي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط:1، س ط: 2005، ص:184.
[47] المصدر نفسه، ص:197.
[48] ذكريات مشاهير المغرب، ج:1، ص: 263.
[49] عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، ص:201.
[50] المصدر نفسه، ص:181.
[51] العقيدة البرهانية والفصول الإيمانية للسلاجي، شرح العقباني، تحقيق: نزار حمادي، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، ط:1، س ط:1429هـ/2008م، ص:25-26.
[52] ابن خمير السبتي، مقدمات المراشد، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح-توفيق علي وهبة، مكتبة الثقافة الدينية، ط:1، س ط:1429هـ/2008م، ص:21.
[53] المصدر نفسه، ص: 43.
[54] المصدر نفسه، ص: 63.
[55] المصدر نفسه، ص: 66 وما بعدها.
[56] المصدر نفسه، ص: 102.
[57] المصدر نفسه، ص: 103 وما بعدها.
[58] المصدر نفسه، ص: 141-143.
[59] المصدر نفسه، ص:143.
[60] المصدر نفسه، ص:151 وما بعدها.
[61] المصدر نفسه، ص:155.
[62] المصدر نفسه، ص:178.
[63] لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، أبو الحجاج يوسف المكلاتي، تحقيق: فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، ط:1، س ط:1977، ص: 213.
[64] المصدر نفسه، ص: 213-214.
[65] المصدر نفسه، ص: 255-260.
[66] المصدر نفسه، ص: 213.
[67] كتاب الإرشاد، الجويني، مطبعة السعادة، مصر، س ط:1369ه/1950م، ص: 72.
[68] المصدر نفسه، ص: 255.
[69] المصدر نفسه، ص: 99.
[70] لباب العقول، المكلاتي، ص: 255-256.
[71] كتاب الإرشاد، الجويني، ص: 100-101.
[72] لباب العقول، المكلاتي، ص: 173.
[73] المصدر نفسه، ص:176-177.
[74] شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن محمد مخلوف، المطبعة السلفية-القاهرة، 1349، ص:299-300.
[75] الدر الثمين، محمد بن أحمد بن محمد الفاسي الشهير بميارة، دار الفكر، ط:1، 1429هـ/2008م، ص:13.
[76] المصدر نفسه، ص:16.
[77] المصدر نفسه، ص:18.
[78] المصدر نفسه، ص:24-25.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد