د. أحمد الفراك: أستاذ الفلسفة والفكر بكلية أصول الدين جامعة عبد المالك السعدي (المغرب)
احتضنت كلية أصول الدين بتطوان يوم الخميس 30 مارس 2017 م، محاضرة علمية متميزة ألقاها الفيلسوف وعالم المنطق الدكتور طه عبد الرحمن، تحت عنوان: “الأوامر الإلهية والفلسفة الأخلاقية”، بحضور السيد رئيس جامعة عبد المالك السعدي والسيد عميد كلية أصول الدين ونائباه ورئيس الجامعة ورئيس جماعة تطوان ورؤساء الشعب والأساتذة والباحثين والطلبة، لتنطلق المحاضرة وسط حضور غير مسبوقٍ بالكلية، حيث غصّت بالحاضرينَ المدرجاتُ وجنباتها والممراتُ والأبواب عن آخرها. أما عن الموضوع فقد كان يتعلق بتحليل فلسفي ونقد منطقي لنظريتين فلسفيتين ومنطقيتين من نظريات الفلسفة الأخلاقية المعاصرة في أمريكا، هما “النظرية الأمرية” لصاحبها روبرت آدمز Robert Merrihew Adams (1937-1997)، و”النظرية القصدية” لصاحبها فيليب كوين Philip L. Quinn (1940- 2004).
فـ”النظرية الأَمْـرية” عند أدامز Adams وهي تسلِّم بتبعية الأخلاق للدين تعتبر أن الأفعال الأخلاقية مطابقة للأوامر الإلهية، أي أن الأخلاق هي عينُ الأوامر الإلهية، واتخذت من المنكر مفهوما أصليا فرعت عنه غيره من مفاهيم التكليف، فيعرف أدامز Adams المنكرَ بقوله: “س” منكر، فـــ”س” مخالف لأوامر ودود، ومراده أن المنكر هو عين مخالفة الإله الودود. و”س” معروف أي موافق لإله ودُود، ومراده أن المعروف هو عين موافقة أوامر الإله الودود، فهو يجعل من تبعية الأخلاق للأوامر الإلهية تبعية تطابقية، مثالها مطابقة صيغة الماء الكيميائية للماء في جميع العوالم الممكنة. ولا يوجد عالم ممكن لا يكون فيه المنكر هو مخالفة الأوامر الإلهية للإله الودود. بناء على أن الإله الودود لا يمكن أن يصدر أن أمرا بفعل المنكر. لكن هذا القول أوقع صاحب هذه النظرية في آفتين:
– الآفةُ الأولى: تشبيه الصّلة بالإلـه بالاجتماع البشري، وهي ترجع إلى التصور المسيحي للألوهية، حيث غالى أدامز في تشبيه الأوامر الإلهية بالأوامر الإنسانية…
– الآفة الثانية، وهي آفة تجزيء الصِّفات الإلهية. وعدم اعتبار الكمالات الإلهية تشكل وحدة مطلقة، فيقدم الوُد والخير والعدل على غيرها من الكمالات الإلهية.
أسهمت الانتقادات العلمية والمنطقية لهذه النظرية إلى انبثاق نظرية أخرى هي “النظرية القصدية” أو نَظرية القُـصُود الإلهية مع فيليب كوينQuinn، الذي يرى أن النزاع في مسألة المعروف والمنكر ينبغي حسبه على باطن الإرادة الإلهية، أي القصد، فهو يُفرق في القصود الإلهية بين القصد بالمعنى العام والقصد بالمعنى الخاص، وعنهما يُفرق بين قصدين فرعيين هما: القَصْد الإلهي السّابِق، والقَصد الإلهي اللّاحِق. وترى هذه النظرية أن المقصود الإلهي هو الذي يخلق صفته الأخلاقية أو حُكمه الأخلاقي، فلا يوجد المنكر إلا بوجود القصد الإلهي بتحريمه، ولا وجود للمعروف حتى يوجد القصد الإلهي بوجوبه، فيكون المنكر هو “الفعل الذي يجعل سابق قصد الإله منكرا”…ومنه من المحال أن يأمر الإله بما لا يقصد، بينما قد يقصد الإله بما لا يأمر به، والمكلف يلتمس الوسائل التي يحقق بها قصد الإله لا أمر الإله. وهنا تختلف النظرية القصدية عن النظرية الأمرية.
والنظرية القصدية تقول بالتعارض بين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية، مُفرقة بين ما هو كمالات في الصفات الإلهية وما هو أخلاق في الصفات الإنسانية، وقد وقعت كسابقتها في آفتين هما:
– الآفة الأولى، وهي آفة تشبيه شؤون الإله الباطنة بالأحوال النفسية الإنسانية. ناسبةً إلى الإله العقل والاعتقاد…مما فتح الطريق إلى نظريات أخرى تقول بالحياة الذهنية للإله…وتسمت كل واحدة منها باسم الحال الباطنة للإله في نظرها، منها النظرية الرَّغبية والتعليلية والوجدانية…الخ
– الآفة الثانية، وهي آفة تجزيء الأفعال الإلهية، فوقعت في تبعيض الإرادة الإلهية إلى إرادة تكليف وإرادة تقييم، والإرادة التكليفية تنقسم باعتبارين اعتبار الظهور (أوامر وقصود) وباعتبار الاختيار، والقصود عامة وخاصة، وقصود سابقة وقصود لاحقة.
ولتجاوز نقائص النظريتين السابقتين يقترح الدكتور طه نظرية جديدة سماها بـ”النظرية الائتمانية” التي تتسع لما تضيق به سابقاتها، وتعالج ما عجزتا عنه وتفتح آفاقا فلسفية لا تتسع لها النظريتان السابقتان. وتقوم هذه النظرية على الجمع بين خاصيتين:
– الخاصية الأولى: الوصل بين روح التّديُّن وروح التفلسف، وروح التدين هي “الإحسان”، بما يوجبه من انتقال من ظاهِر الأعمال إلى باطنها؛ فتتحول إلى آيات التكليف لا مجرد الاتصاف بالأشكال الشرعية. وروح التفلسف في نظر الفيلسوف طه هو “التفكر”، ورتبة التفكر فوق رتبة التفكير، التفكر يوجِبُ انتقال الـعقل من ظواهر الأشياء وأشكالها إلى آياتها التكوينية.
– الخاصية الثانية: استثمار مقتضيات “ميثاق الإشهاد” وميثاق الأمانة” كما سبق بيانهما في كتابه “روح الدين”، فالأول مستمد من قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشْهَدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهِدنا أن تقولوا إنّا كنا عن هذا غافلين}، والثاني مستمد من قوله سبحانه: {إنا عَرضنا الأمانة على السماوات والأرض والـجِبال فأبينَ أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا}.
إذا كانت المسؤولية في النظرية الأمرية تبدأ مع صدور الأمر الإلهي، ومع النظرية القصدية تبدأ مع فهم القصد الإلهي، فإن النظرية الائتمانية ترى أن المسؤولية وقعت على الإنسان قبل تلقّي الأوامر الإلهية، وقبل تبين القصود الإلهية، فالاختيار أساس المسؤولية عند الإنسان، أي سابق مسؤولية الإنسان قبل الأوامر والقصود.
وبالرجوع إلى مفهومي “الـمنكر” و”الــمعروف” تتبين الفُروق بين النظرية الائتمانية والنظريتين السابقتين، فيرى الدكتور طه بأنه يمكننا نضع التعريفين التاليين للمنكر والمعروف:
· المنكر عبارة عن الفعل الذي ائتَمَن الإلهُ الإنسانَ على تركه.
· المعروف عبارة عن الفعل الذي لم يَأتمن الإلهُ الإنسانَ على تركه.
وتلزم من هذين التعريفين النتائج الآتية:
1. أولاها، أن كل فعل إما مؤتمنٌ على تركه أو غير مؤتمن على تركه، كما يلزم أنه لا فعل مؤتمن على تركه وغير مؤتمن عليه معا.
2. والثانية، أن “الحرام” هو المنكر، إذ هو الفعل الذي ائتُمن على تركه، وأن “الواجب” هو الفعل الذي ائتُمن على عدم تركه.
3. والثالثة، أن “الواجب” جزء خاص من المعروف، لأن الفعل الذي لم يُؤتمن على تركه أعم من الفعل الذي ائتُمن على عدم تركه.
4. والرابعة، أن المعروف على نوعين: أحدهما، “المعروف الواجب”؛ إذ ليس فقط أنه لم يُؤتمن على تركه، بل أيضا ائتُمن على عدم تركه (أي ائتُمن على فعله)؛ والثاني، “المعروف غير الواجب”، إذ لم يُؤتمن على تركه، من غير أن يؤتمن على عدم تركه.
5. والخامسة، أن “المباح” يمكن، هو الآخر، وضع تعريف ائتماني له، فيكون عبارة عن الفعل الذي لم يؤتَمن على تركه، ولا على عدم تركه.
إذا كان التعريف الأمري يطابق بين الأمر الإلهي والحكم الأخلاقي للفعل، فيجعل المنكر راجعا إلى عصيان الأمر الإلهي، ويجعل المعروف راجعا إلى امتثال الأمر الإلهي، والأصل في الائتمان أنه يوجب الامتثال إن فعلا أو تركا، فيقع في تطابق الفعل مع نفسه، وكان التعريف القصدي يستحضر العلاقة بين ذاتين أي بين الحكم الأخلاقي والآمرية الإلهية التي تخلق الإيجاب والتحريم، ويجعل المنكر راجعا إلى كون الإله خلق وجوب الترك ووجوب المعروف، ويجعل المعروف الواجب إلى أن الإله خلق وجوب عدم الترك. فإن التعريف الائتماني يستحضر العلاقة بين ذاتين؛ وكل من الذاتين تتجلى بأفعالها، أحدهما هو الإله الـمـؤتَمن الذي تصدر عنه الأوامر الإلهية وهي أفعال الأمر، والعبد الـمـؤْتَمَن، وهو الذي تصدر عنه الأفعال الإنسانية وهي أفعال الطاعة.
ففي النظرية الائتمانية تبرز علاقة تبعية الأخلاق للأوامر الإلهية بشكل لا تصله النظريات السابقة، بحيث تنظر في الآمر قبل النظر في الأمر، وتحتاج الذات الإنسانية إلى معرفة الذات الإلهية قبل معرفة أوامرها وقصودها. إضافة إلى أنه في النَّظريتين السابقتين يقوم التعامل على مبدأ “التّغييب” أي تغييب الذات الإلهية وحضور الفعل الإنساني، وكأنها المحرك الذي لا يتحرك بتعبير أرسطو، أما النظرية الائتمانية فالتعامل فيها يقوم على”التشهيد”، أو قل التعامل الشهودي الذي يفيد حضور الله مع الإنسان وحضور الإنسان مع الله، أو بتعبير طه “حُضور مع الحضور”، فيلزم من التعامل الائتماني ما لا يلزم من التعامل الأمري أو التعامل القصدي (من حيث الأولى مستوعبة لهما ومتجاوزة لهما في نفس الوقت).
النظرية الائتمانية تنزه الإله تنزيها مطلقا لأن التشبيه نقص في العقلانية، والقول بالتشبيه نقص فيها، لأنها تتأسس على ميثاق الإشهاد، وترفض القول بالتشبيه التصويري للإنسان بالإله ذات الأصل المسيحي، وإنما تقول التقرب الموصل إلى اكتساب الفضائل من غير تشبُّه، وترفض حصول التقرب من غير الامتثال للأوامر لأن الأوامر محاب الإله.
القيم الأخلاقية في النظرية الائتمانية مستمدة من الصفات الإلهية التي تحملها أسماء الله الحُسنى… وتحقق الإنسان بالشهود الأول (الإشهاد الآدمي) هو الذي أصل الأخلاق أما القصود فهي الفروع، “ومن طلب القصود من غير أصول فقد أخطأ الأصول”، وبناء على ذلك فعلاقة الأخلاق الإنسانية بالأوامر الإلهية هي “علاقةٌ بين (الواجب) و(الأمر)” وهي إشكالية قديمة تتمحور حول السؤال العقدي التالي: هل الفعل واجب لأن الإله أمر به أم لأن الله أمر به فهو واجب؟
النظريتان الأمرية والقصدية لم تفلحا في الجواب عن السؤال، على خلاف النظرية الائتمانية بأخذها بميثاقي الإشهاد الذي يزودنا بالمنظور الإشهادي، وهو شهود الإنسان للصفات الإلهية الذي يورثه القيم، والإئتمان يزودنا بالمنظور الائتماني الذي هو شهود الإنسان للأوامر الإلهية الموافقة للقيم… كما تحل النظرية الائتمانية الإشكال السابق بجواز توسل المكلف بأحد المنظورين في التعامل مع المنظور الآخر، فتفسر هذه النظرية حالات لا تستطيع تفسيرها النظريات الأخرى…فينظر المكلف إلى العبدية والحرية بوصفهما يؤولان إلى وجه واحد لحقيقة واحدة.
في نفس اليوم الخميس فاتح رجب 1438ه، الموافق لـ 30 مارس 2017 م، الذي ألقى فيه الدكتور طه عبد الرحمن، محاضرته الماتعة في موضوع “الأوامر الإلهية في الفلسفة الأخلاقية” بكلية أصول الدين بتطوان، لم يتردد حفظه الله في الاستجابة لطلب الباحثين بتخصيصهم بجلسة علمية تواصلية يستفيدون فيها من خبرته المنهجية والمعرفية. وكان اللقاء مساء من الخامسة والنصف إلى الثامنة والنصف، فحصل التواصل والتبادل مع المحبة والمودة.
وهكذا نزولا عند رغبة أغلب الباحثين كما قلت كان للأستاذ طه موعد مع قاعة الدرس هذه المرة، والتي لم يعد إليها منذ أمدٍ بعيد، ففي القاعة رقم 21 حمل الأقلام والممسحة، حيث أمضى أغلب الوقت من الحصة (ما يقرب من ثلاث ساعات) واقفا يشرح في السبورة ويجيب عن الأسئلة، يدنو من الطلبة ليسمع منهم وهو يحمل قلما ويخط به تشجيرات منطقية على السبورة ويتفاعل معهم إصغاء وتوجيها وتقويما، مُظهرا حرصه على إفهامهم المنهجية العلمية في البحث العلمي والفلسفي الإبداعي، محذرا من التقليد والتشدد والجمود.
وبحسب تنوع مجالات البحث وإشكالاته تنوعت الأسئلة والإجابات، فمن سائل عن إشكالية العقل والنقل، إلى مستفسر عن المنهج في قراءة التراث، إلى آخر حيره حكم حضور الفلسفة في الدين أو الدين في الفلسفة، إلى رابع طلب التمييز بين العقول المجردة والمسددة والمؤيدة، إلى خامسة تسأل عن ابن رشد وعلاقته بأرسطو من جهة وبالفلسفة والدين من جهة أخرى، ورده على الغزالي، وسادس يستقصي عن منطق الغزالي ومنطق الفارابي ومنطق ابن تيمية، وسابع يريد من الأستاذ طه أن يكتب سيرته العلمية كي تستفيد منها الأجيال في الإبداع، وثامن يتساءل عن ضرورة المنطق في العلوم الإسلامية، وتاسع يتير إشكال الإديولوجيا وتوظيف العلم لأغراض غير علمية، وعاشر يسعى لمعرفة كيفية استثمار المصطلح في إنتاج المعرفة وحفظها، وغيره يشكو من التقليد والاجترار. وهكذا.
إلا أن الأستاذ المحاضر ظل يصغي مليا للطلبة والطالبات واحدا واحدا، ثم يجيب عن تساؤلاتهم والابتسامة لا تفارق محياه واحدا تلو الآخر، بكل تواضع وجدية تُذكرنا بأخلاقِ كبار العلماء في التاريخ، ومن غير مَلل ولا ضجر، وبلا ادعاء ولا تكبر، مما ترك في قلوب الطلبة والأساتذة انطباعا جيدا جدا، وإفادةً منهجية ومعرفية جمة، وذلك بإجماع ارتساماتِ مَن حضَر أو تابع عبر شبكة المعلوميات.
فشكرا جزيلا للدكتور الفيلسوف طه عبد الرحمن، ولكلية أصول الدين في شخص عميدها الدكتور محمد الفقير التمسماني، ولرئيس شعبة الفلسفة والفكر الإسلامي الدكتور أحمد مونة، ولك من أسهم أو ساهم في إعداد هذا النشاط العلمي المتميز.
اترك رد