نورة دعاس: باحثة ماجستير – أدب عربي حديث ومعاصر
لقد كانت صورة المرأة الممتلئة الجسم ، التي تميل إلى البدانة ، من الصور المهمة في نظر الانسان القديم ، لتحقق الشروط المثالية التي تؤهلها لوظيفة الأمومة ، والخصوبة الجنسية ، ولقد ظلت هذه النظرية عالقة بتقييم الرجل للمرأة زمنا طويلا ، وليست القضية في أساسها قضية ذوق جمالي سائد ، في عصر من العصور ، كما يرى الدكتور محمد النويهي “1” وإنما هي قضية مترسبة عن معتقد ديني موغل في بدائيته ، فمن كمال صورة المثال المعبود أن يكون متصفا بالصفات تؤهله لأداء وظيفته التي عبد من أجلها ، وليس الأمر الذي ساد عند العرب وحدهم في هذه المرحلة الحضارية .
ليست الصورة التي لفتت نظر الدكتور النويهي في شعر علقمة بن عبدة ، صورة قد اخترعتها مخيلة علقمة وتابعه عليها الأعشى والحادرة كما يقول ، ولكنها تراث سبقهم جميعا ، فهي صورة دينية ، تسربت إلى الشعر القديم وتحولت إلى قالب فني ، ظل الشعراء يجددون عناصرها ، ويحاولون تطوير حدودها حتى أفسدوها في نهاية الأمر ، إذ لم يقتصر فسادها على الصورة التي يحكم عليها الدكتور النويهي بالركاكة في شعر عمر بن أبي ربيعة في قوله :
أبت الروادف والثدى لقميصها *** مس البطون وأن تمس ظهورا
ولكن وصل بهم التهويل إلى تصوير المرأة أكثر فجاجة وسخفا ..لكن لنضرب صفحا عن هذه عن هذه الصور الساذجة اخذين في طريق تتبع الجانب المشرق من صورة المرأة –الأم ، أو الأم المعبودة ، في النماذج الجيدة من الشعر العربي .
فها هو امرؤ القيس “2” راح يصف معشوقته بقوله :
ويا رب يوم ناعم قد لهوته ** *** بمرتجة الحاذين ، ملتفة الحشا
برهرهة كالشمس في يوم صحوها *** تضيء ظلام البيت في ليلة الدجى
أسيلة مستن الوشاح ، كأنما *** تسكر في أوراكها هابر النقا
مضمخة الأردان ،سهل حديثها **** لطيفة طي الكشح ، وهنانة الخطا
فيقدما لنا تمثالا من “فينوسات لوسيل ” مصورا من كلماتها . يركز على تصوير الأعضاء الأنثوية التي تؤدي وظيفة الخصوبة تاركا الوجه بلا ملامح محددة ، إذ يربطها بالشمس مباشرة ثم ينصرف إلى إكمال الملامح الجسدية .
وهذه الصورة كثيرة الشيوع في الشعر العربي .يكاد لا يخلو منها شعر شاعر في مرحلة ما قبل الإسلام ، وإذا كان علينا أن نذكر نماذج أخرى فيمكننا أن نجتزئ بنموذجين ، أحدهما مختصر مركز للمرقش الاكبر ، وهو من مشاهير العشاق في هذه المرحلة ، والاخر مفصل للأعشى أبي بصير ، وهو من مشاهير المتهكمين فيها .يقول المرقش” 3″ :
وفي الحي ابكار سبين فؤاده *** علالة ما زودن والحب شاعفي
دقاق الخصور ، لم تعفر قرونها *** لشجو ، ولم يحضرن حمى المزالف
نواعم ، أبكار ،سرائر ، بدن *** حسان الوجوه ، لينات السوالف
فهو هنا يرسم صورة موسعة توسيعا عرضيا يضع الصفات بعضها إلى جانب بعض لينمي جوانب الصورة ، على عكس أمرئ القيس الذي يراكم الصور بعضها فوق بعض ، وبعد أن أتى على هذه الصفات راسما صورة جسدية ، نجده يهمل ملامح الوجه هو الاخر إهمالا تاما ، فيكتفي بأنها حسنة الوجه ، لينة جانبية .
وإذا كان المرقش البدوي قد بهره قرط محبوبته ، فإن الأعشى الذي ربي في اليمامة ، وجاب الحواضر حتى وفد على كسرى ، يصور محبوبته الحضرية تصويرا مفصلا في قوله “4” :
يا جارتنا ما كنت جاره *** بانت لتحزننا عفارة
بيضاء صحوتها ،وصف *** راء العشية كالعرارة
وسبتك حين تبسمت **** بين الأريكة والستارة
ولا يروعنا الاعشى الحضري بوصف تحضر صاحبته المبتسمة بين الأريكة والستارة ولا هي ترفل ” في البقيرة “5 فمظاهر التحضر هذه ثانوية في الصورة أما العناصر الأصلية فلا تخرج عن صورة البدوية صاحبة المرقش فهي بدينة تمشي كما يتمايل النشوان .
اختلفت المرأة عن الأم المعبودة لما لها من نظير ورموز متعددة التي رمزوا بها للشمس كالنخلة والغزالة والمهاة ، تخلفت عن ذلك صورة يمكن أن نطلق عليها : المرأة المثال أو الصورة المثالية للمرأة ، وهي بذلك صورة لا تتعلق بامرأة بعينها إلا أن عناصر هذه الصورة تتواتر عند الشعراء وتسير على نسق واحد مما يجعل صورة المرأة في الشعوب أقرب إلى أن تكون نسخة مكررة في أصل واحد .
يقول طرفة “6 ” في معلقته :
وفي الحي أحوى ، ينفض المرد شادن **** مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
خذول ، تراعي ربربا .. بخميلة **** تناول أطراف البربر ، وترتدي
وتبسم عن ألمي …كأن منورا **** تخلل حر الرمل ودعص له ، ندي
سقته اياة الشمس ، إلا لثاته ****** أسف ، ولم تكدم عليه ، بإثمد
وهو بهذا يضعنا أمام صورة تتحقق فيها صورة المثال للمرأة ، بعدة تشبيهات تربطها بالنظائر المقدسة للشمس في الدين القديم : مثل الظبي –أحوى – وهي ظبية أم –خذول – وأخيرا فالشمس قد ألفت رداء الضوء والنضارة على وجهها “7”
لقد كان المخضرمون هم المعبر الذي انتقلت به عناصر الصورة المثالية ، فهذا سويد بن أبي كاهل في قصيدته المشهورة :
بسطت رابعة الحبل لنا **** فوصلنا الحبل منها ما اتسع “8”
يجمع بين عناصر الصورة المثالية أكثرها .فالمرأة لديه حرة ، أسنانها كشعاع الشمس :
حرة ، تجلو شتيتا ، واضحا *** كشعاع الشمس في الغيم سطع .
اختلف تصوير المرأة من شاعر لأخر ” فلا يشهد غيرها في حياته الرتيبة وهي لذلك تكاد تكون محور اهتماماته النفسية ، وثباته العاطفية ، إن الجمال يخفق في إشراق وجهها ، وصور عينيها ، وطول جيدها واعتدال قامتها “9” .
المصادر والمراجع :
1- محمد النويهي : الشعر الجاهلي منهج في دراسته وتقويمه ج1ص 322.
2- أمرئ القيس : ديوان .ص331.
3- المفضليات .ص: 231.
4- الأعشى: الديوان .ص 70.
5- البقيرة ثوب بلا أكمام
6- ابن الأنباري ، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات .ص139-146.
7- الدكتور علي البطل : الصورة في الشعر العربي ص70.
8- المفضليات .ص190.
9- الدكتور شكري الفيصل : تطور الغزل بين الجاهلية والاسلام ، مأخوذ عن كتاب علي البطل : الصورة في الشعر العربي .ص94.
اترك رد