حسن محمد أحمد محمد: جامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب – قسم علم النفس
تعيش كثير من الكائنات الحية ـ بمختلف أنواعها ـ في شكل قطعان أو تجمعات تتفاوت في ما بينها من حيث العدد، ومن الملفت في الثديات أنك تجد ـ في الغالب ـ بين كل مجموعة ذكر واحد هو المسيطر على الجميع، ولابد أن يتميز ذلكم الزعيم الأوحد ـ عن ثائر أفراد الجماعة ـ بالقوة التي تعينه على فرض سياسته وإحكام سيطرته، وما إن تضعف قوة ذلك الذكر حتى يظهر منافس آخر قد يستطيع أن يقضي على الذكر السابق ومن ثم يفرض سيطرته هو. وهنا يبرز دور قانون القوة أي قانون الغاب، الذي كثيرًا ما يسود بين العديد من الجماعات البشرية التي تسود فيها ثقافة القطيع، وليس قوة القانون الذي نرى أنه يفرض نفسه بين تلكم المجتمعات الإنسانية التي تتميز ـ عن غيرها ـ بسيادة الفكر والتفكير وتحكيم العقل في إدارة وتصريف شؤون الجماعة.
ولنا أن نتساءل الآن، هل نستطيع القول بأن عصور ثقافة القطيع ـ التي سادت مجتمعاتنا العربية وسيطرت عليها لقرون طوال ـ قد أوشكت وشارفت على نهايتها؟ أو أن نقول بصورة أخرى أنها في مرحلة بداية النهاية على أقل تقدير.
ربما لا يتطرق إلى الأذهان أدنى شك في أن ذلك النمط من طرق التفكير والذي أطلقنا عليه ثقافة القطيع، قد تخلخل بل وأصيب في مقتل من جراء انتشار الكثير من الوعي المعرفي بيننا بعد أن تعددت وتطورت طرق ووسائل الاتصالات التقنية التي لاشك أنها قد أسهمت وستسهم في المستقبل بشكل أكبر مما هي عليه الآن، في تفكيك تلك المسلمات التي عشعشت ثم باضت وأفرخت بين تلافيف العقل البشري (العربي) الكثير من الأفكار المدمرة والهدامة؛ حتى أننا صرنا لا نستطيع الفكاك من آثارها وتأثيراتها على نمط التفكير المتحكم في اتخاذ القرار، وهو نوع أو نمط يستند إلى الاتكالية الفكرية أو التفكيرية، ونعني بها البحث عمن يقوم بدور العقل بالنيابة عن الجماعة، وإن لم يتوفر ذلك العقل المفكر والذي يتحمل أمانة الفكر والاجتهاد ضربت الجماعة خيامها في أودية التيه والضلال، وهي تلك المرحلة التي يتوقف فيها العقل ويتعطل عن التفكير تمامًا متنصلاً من مهمته الأساسية (الاشتغال بالتفكير)؛ وذلك لعدم القدرة على تحمل المسئولية ومن ثم إلقاءها على عاتق الآخرين:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. الأحزاب: ٧٢.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: قال العوفي عن ابن عباس : (يعني بالأمانة الطاعة…) تفسير ابن كثير: ج: 3، ص: 689. ويقول الطبري: (اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال) تفسير الطبري: ج:10، ص:338.
وأيٍ ما كان تفسير المفسرين للفظ الأمانة وما أعطوه له من معنى فهو لا يبتعد كثيرًا عن مسئولية الفرد في إعمال العقل والفكر في فهم وإدراك الغرض والهدف من وجوده على الأرض؛ بحيث يتوجب عليه ألا يعتمد أو يتكل على عقول البعض الآخر دون أن يجهد نفسه بالعمل المضني الذي يستوجبه ويفرضه عليه واقع الحياة؛ وكأنما التفكير فرض كفاية؛ أي أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقون. ويمكن للمتابع ملاحظة تلك الطريقة النمطية في التفكير وبوضوح شديد في ما يصدر من القرارات والتوجيهات التي يصدرها شيخ مجموعة قبلية، أو زعيم طائفة دينية أو سياسية.
وفي ظني اليقيني أننا الآن نقف على أعتاب حافة نهاية عصور ثقافة القطيع التي سادت وسيطرت على المجتمع لوقت ليس بالقصير، وما قرارات الجامعة العربية ومجموعة دول التعاون الإسلامي عنا ببعيدة، حيث نجد أنها لابد أن تصدر جميع قراراتها بالإجماع.
ـ ولكن ما الذي يدعونا في هذا الوقت تحديدًا إلى تبني القول السابق والقائل بـ(نهاية عصور ثقافة القطيع)؟.
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نقف لنتأمل ونستعرض عددًا من النقاط التي ربما شكلت محطات في مسيرة الفكر العربي:
ـ شيخ القبيلة:
نبدأ من سيادة فكرة ثقافة الزعيم الأوحد (شيخ القبيلة) التي جثمت على عقولنا، ولا أقول طوال المئات من السنين وإنما أرجع هذا النمط إلى عهود ضاربة في القدم، وما قول الشاعر العربي المعروف بدريد بن الصمة إلا تعبيرًا صريحًا عن تحكم وسيطرة تلك الثقافة القطعانية (نسبة إلى قطيع):
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى * فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ
فَلَمّا عَسوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى *غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَدي
وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت * غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ
ـ الشاعر الفحل:
من المعروف أن الفحل هو الذكر الذي يقود القطيع، والفَحيلُ هو فَحْلُ الإبلِ، يقال: فَحْلٌ فَحيلٌ أي كريمٌ مُنجِبٌ في ضِرابِه، وأنشد الجَوْهَرِيّ للراعي:
كانتْ نَجائِبُ مُنذِرٍ ومُحَرِّقٍ * أُمَّاتِهِنَّ وَطَرْقُهُنَّ فَحيلا
ولا نريد أن نطيل على القارئ كثيرًا وإنما الهدف المنشود مما سبق هو أن فكرة وثقافة القطيع قد فرضت وجود شاعر واحد يقود الجميع؛ مما فرض على النقاد والكتاب ترديد عبارة (واحد أو إمام عصر وأوانه). وقد سعى هذا النمط الثقافي إلى حجب الكثير من فنون وضروب الشعر ما كان لها أن تحجب لولا تشبث المجتمع ـ في ذلك الأوان ـ بثقافة القطيع، إذ لا يعقل أن يجيد شاعر واحد جميع فنون الشعر، كما لا يوجد ناثر يجيد كل فنون النثر ولا رسام ولا نحات لا ولا…، إلى آخر ما أبدعته قرائح المبدعين من قائمة الفنون والآداب.
ـ مذاهب الفقه:
لا يمكننا أن ننكر ما قام به أئمة الفقه في نشر الوعي المعرفي بين طبقات المجتمع المسلم، ولكن وعلى الرغم من ذلك المجهود الضخم الذي بذله فقهاء المذاهب .. إلا أننا نأخذ على المجتمع ـ لا على الفقهاء ـ تعنته في التشيع والتشبث بفقه فقيه واحد إلى أن يتوفاه الله. ولم تنتهي تلك الثقافة أو تتوقف حتى الآن، ولك أن تشهدها في هذا العصر حيث يعلن كل مجتمع (بلد) أنه متمسك بفقه فلان من الفقهاء.
ولم يتوقف ذلك النمط الثقافي ـ الذي اتسم بجمود تفكير المجتمع ـ عند هذا الحد بل تعداه وتجاوزه إلى مجالات أخر، كالتفسير وعلم اللغة والطب والفلك والجغرافية والرياضيات والهندسة … والقائمة تطول إن ذهبنا في السرد، ولكنها لا تمثل أكثر من نماذج من نمط ثقافي قاس؛ لأنه كان لا يسمح بظهور منافس لإمام العصر إلا بوفاة تلك الشخصية القابضة على زمام الأمر في مجال فكري أو علمي أو أدبي … وغيرها.
لقد أُخذت شتى مجالات المعرفة الإنسانية على وفق الجانب السياسي والذي لابد أن يتسنمه شخص واحد وهو أمير المؤمنين أو الخليفة؛ الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على جميع الأنشطة الثقافية والمعرفية الأخرى.
ـ نهاية نمط ثقافي:
التعويل على (نهاية عصور ثقافة القطيع) هنا ينبني على جملة عناصر ربما تقود في النهاية إلى إحداث تغيير جذري لثقافة ومعرفي ظلت سائدة بين ظهراني مجتمعاتنا لقرون طوال؛ الأمر الذي حرم المجتمع من تعدد وتلاقح الأفكار، وعاصر التغيير هي:
– انتشار وسيادة الوعي الثقافي والمعرفي بين العامة من أفراد المجتمع.
– توفر وسائل وطرق المعرفة وتعدد مصادرها.
– سهولة الحصول على المعرفة من خلال تدفق المعلومات.
– ارتخاء القبضة القوية للحكام نتيجة للحركات الثورية المناهضة لهيمنة ثقافة النمط الفكري الواحد.
– تغير العديد من مفاهيم المجتمع لكثير من المصطلحات التي عششعشت وباضت وأفرخت في الأذهان.
– تعايش العديد من المعتقدات والثقافات والعرقيات .. في المجتمع الواحد.
اترك رد