محمد احدوش: باحث في ماستر الدرس اللغوي والخطاب الشرعي – المغرب
لما كان موضوع الفقه الاشتغالُ بالفروع، واستنباطُ الأحكام التفصيلية، كان من الطبيعي أن ينشأ الخلاف بين المجتهدين في قضاياه ومباحثه ومناهجه، قال ابن خلدون “فاعلم أنّ هذا الفقه المستنبط من الأدلّة الشّرعيّة كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بدّ من وقوعه” . ولإثبات كل فقيه لصحة مذهبه لا بد له “من معرفة القواعد التي “يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلّته” ، وكان للقواعد النحوية دور كبير في ذلك الخلاف. فإن كانت معظم أسباب الخلاف بين الفقهاء في الأصول راجعةً إلى قضايا فكرية وعقدية بالدرجة الأولى، فإن جُل أسباب الاختلاف في الفروع الفقهية قائمة على أساس لغوي، مما كان يستدعي الرجوع إلى اللغة والنحو للاستدلال على الآراء والاختيارات الفقهية، فكانت القاعدة النحوية في كثير من الأحيان تؤدي دور الحجة التي يستدل بها الفقيه ويدفع بها في وجه مخالفيه. والحُجة في اللغة “مَا دوفعَ بِهِ الخَصمُ، (…) واحْتَجَّ بالشَّيْء: اتَّخذهُ حُجةً” .
والاحتجاج بالمسائل النحوية على الآراء الفقهية قديم قدم الاختلاف في فروع الفقه. وعلى الرغم من أن قواعد النحو لم تتأسس إلا في بدايات القرن الثاني الهجري، إلا أننا نجد حضورا لبعض تلك المسائل النحوية في احتجاج بعض الصحابة، رضوان الله عليهم، في الاختلافات الفقهية بينهم. ومن أمثلة ذلك اختلاف عبد الله بن عباس مع عثمان رضي الله عنهما في حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين، وكان ذلك معمولا به بين الناس، وكان من رأي ابن عباس أنها لا تُحجَب إلا بثلاثة، و”احتج علَى عثمان رضي الله عنه في حجب الأم بالأخوين وقال: ليس الأخوانِ إخوةً في لسان قومك” ، مستدلا بقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) . لأن أقل الجمع في العربية ثلاثة حسب رأي عبد الله بن عباس، و(إخوة) جمع، أما (الأخوان) فليس جمعا. “فأقره عثمان كرم الله وجهه على ذلك، وإنما اعتذر عنه بالإجماع” الحاصل بين الناس في زمنه، لأنهم كانوا يحجبون الأم بالاثنين فصاعدا. وبقيت مسألةً خلافية بين الفقهاء، فهناك من يعتبر أقل الجمع اثنان، وهناك من يعتبر أقله ثلاثة محتجين بما احتج به ابن عباس رضي الله عنه.
واحتج عبد الله بن عباس مرة أخرى بمسألة لغوية مرتبطة بمعنى الحصر الذي تفيده أدوات مثل (إنما) أو (لا..إلا)، وذلك في اختلافه مع أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في مسألة تتعلق بالصرف ، وهو تبديل النقود بمثلها مع وجود فضل. فكان ابن عباس يقول بجوازه، فسأله أبو سعيد: ” أخبرني عن هذا الذي تقول في الصرف: أشيء سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم شيء وجدته في كتاب الله؟ فقال: ما وجدته في كتاب الله، ولا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أخبرني أسامة بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إنما الربا في النسيئة.” وفي رواية “لا ربا إلا في النسيئة” . فالظاهر أن ابن عباس نفى الربا عن الصرف، بحجة أن (إنما) أو (لا ..إلا) تحصر الربا في النسيئة فقط، كما يدل على ذلك الحديث. ولا تهمنا القضية بقدر ما يهمنا، في هذا الصدد، الحُجة اللسانية التي قدمها ابن عباس، مما يدل على أثر اللغة وحضورها في الاحتجاج للرأي الفقهي منذ البدايات الأولى للاستنباطات الفقهية عند فقهاء الصحابة، قبل أن يتأسس علم النحو وينضج.
اترك رد