د. خالد بوهند: جامعة سيدي بلعباس
مقدمة
منذ إشرافنا على تدريس تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر بقسم العلوم السياسية أولا، ثم بقسم التاريخ، لم نتلقى إيعازا من الجهات الإدارية المعنية بتدريس المادة بعد 1962، كما أن المذكرات والأبحاث الأكاديمية التي اطلعنا عليها أو أشرفنا عليها تغطي فقط الفترة العثمانية وتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية والثورة (1954-1962)، وتكاد تكون الفترة الممتدة بين 1962 وإلى يومنا هذا، مهملة لدى الباحثين الجزائريين في حقل التاريخ، اللهم إذا استثنينا من ذلك التراجم ودراسة الشخصيات المتوفاة بعد سنة 1962.
وقد يعود ذلك إلى عدم إتاحة الفرصة للباحثين في الاطلاع على الأرشيف-المادة الأولية للمؤرخ-نظرا لأن بُناة الدولة الوطنية، والشخصيات التي صنعت تاريخ الجزائر المستقلة، إما ما تزال على قيد الحياة، وإما قد توفيت حديثا، وهو الأمر الذي يصعب على إثره الاطلاع على الأرشيف الخاص بالفترة الزمنية المعنية، لأن القانون لا يسمح بذلك(1) . فمتى نكتب تاريخ الجزائر بعد 1962 ؟ هل نتركه للأجيال القادمة ؟ أم نبادر نحن جيل الحاضر في الكتابة ؟ أي منهجية نوظفها في الكتابة ؟ ما هو البديل عن الأرشيف؟ ثم ما هي النتائج المرجوة ؟
1-دواعي الكتابة في تاريخ الجزائر بعد 1962
هناك اعتبارات تدفعنا إلى الادعاء بأن على الباحثين الجزائريين الاهتمام أكثر من ذي قبل بتاريخ الجزائر بعد 1962، من ذلك مثلا أن المواضيع أو الأحداث التاريخية العسكرية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي سبقت 1962، قد تم تغطيتها، وبالتالي تكاد تكون قد استنفذت، والشواهد على ذلك كثيرة، نذكر على سبيل المثال التراكم التاريخي والمعرفي الهام الذي خلفته الأعمال الجماعية على غرار اكتشاف الجزائر العلمي، والاحتفال المئوي بالاحتلال، وبحوث جامعة الجزائر بمختلف مدارسها وكلياتها ومعاهدها، ولجنة دراسة الأوضاع الإسلامية، ولجنة ترجمة الكتب العربية إلى الفرنسية، ولجان التحقيق في أوضاع الجزائر مثل لجنة 1833 و 1834، ولجنة 1891 و1892، وكذا أعمال الجمعيات التاريخية والعلمية التي أصدرت بدورها مجلات دامت عدة عقود، كالجمعية الأثرية بقسنطينة، والجمعية التاريخية بالجزائر(العاصمة)، والجمعية الجغرافية بوهران(2) .
وبعد الاستقلال، انكب الباحثون الجزائريون من أساتذة أكاديميين(3)، وصحافيين، ومجاهدين، وهواة، على إعادة كتابة تاريخهم الوطني قديما وحديثا، بناء على الوثائق، والأرشيف، والشهادات، وما تزال عملية التدوين التاريخي مستمرة إلى يومنا هذا، لا سيما فيما يتعلق بتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية والثورة، ومع ذلك نلحظ عزوف عن التأريخ لمرحلة ما بعد 1962، اللهم إذا استثنينا من ذلك مذكرات النخبة السياسية وما شابه ذلك(4)، التي تعد في رأينا مهمة ولكنها في نفس الوقت غير كافية، لأنها في الغالب لا تتحلى بالموضوعية والصرامة العلمية المطلوبة .
كما لاحظنا من خلال التجربة والمعاينة، أن الباحثين الجزائريين في مختلف الأطوار التعليمية (ليسانس-ماجستير-ماستر-دكتوراه) يقومون بعملية تكرار أو إن صح التعبير اجترار ما تم كتابته من قبل، وأمام صعوبة إيجاد عناوين لمواضيع تاريخية أصيلة، سواء خلال الحقبة العثمانية(1516-1830)، أو خلال الحقبة الاستعمارية( 1830-1962)، لا بديل عن توجيه الأنظار نحو الفترة الممتدة ما بين 1962 وإلى يومنا هذا، التي تعد-حسب رأينا-ميدانا خصبا للباحثين الشباب، شريطة أن تتوفر لديهم جملة من المؤهلات .
2-شروط الكتابة في تاريخ الجزائر بعد 1962
هناك شروط ومؤهلات وجب أن تتوفر لدى المؤرخ المنشغل بالكتابة في تاريخ الجزائر بعد 1962، من ذلك شخصيته، قيمته الروحية، تكوينه التقني، مهاراته، وثقافته الواسعة. المؤرخ الكبير ليس فقط ذاك الذي يحسن طرح الإشكاليات، وإنما الذي يضيف إلى ذلك مخططا عمليا للبحث يسمح بانتقاء المصادر الأكثر وثوقا وأهمية(5)، وجب على المؤرخ أيضا إلمامه بالعلوم المساعدة كعلم الاقتصاد بما في ذلك علم الاقتصاد السياسي، الذي يتناول الحقائق الاقتصادية من توزيع الثروات ومستوى المعيشة، ونوعية وسائل الإنتاج وأسلوب العمل وكيفية الاستهلاك وغيرها، والعلوم السياسية التي تهتم بمعالجة العوامل المختلفة التي تشكل الظاهرة السياسية، مثل طبيعة الاقتصاد وبنيته، وطبقات وطوائف السكان، والمعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية التي تتحكم في المجتمع، والفلسفة التي تمكن المؤرخ من تفهم سير الأحداث من خلال التصور الفلسفي أو التطور الفكري والحضاري، وعلم النفس الذي يعرفنا على جوانب وقضايا النفس البشرية من خلال العوامل النفسية والدوافع الذاتية التي تتحكم وتوجه سلوك الأفراد والجماعات، وعلم الاجتماع الذي يدرس الإنسان من خلال التعرف على القوانين التي تتناول أفعال الناس وعلاقاتهم ببعضهم، وما يتصل بذلك من مظاهر التغيير الاجتماعي(6) .
3-طرق ووسائل الكتابة في تاريخ الجزائر بعد 1962
وفي غياب الأرشيف، على المؤرخ الجزائري أن يحذو حذو الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة سواء في الجزائر أو خارج الجزائر، هؤلاء الذين يقدمون باستمرار وبشكل منتظم دراسات وأبحاث قيمة ومفيدة عن الطبقات الاجتماعية، والاحتجاجات، والانتخابات، والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والنظام السياسي، والسلطة، والمعارضة…الخ، استنادا إلى ما يخلفه الفاعلون السياسيون من مذكرات أو سير ذاتية، وما تكتبه الصحافة ورقيا، وما تنشره الكترونيا(7)، فضلا عن المعلومات والأرقام والبيانات والإحصائيات التي توفرها المواقع الرسمية(8) وغير الرسمية عبر شبكة الانترنيت.
من جانب آخر، على المؤرخ أيضا أن يستعين ويوظف نتائج الأبحاث الفلسفية والاجتماعية والسياسية عن الجزائر، في إعادة ما أصبح يتداول اليوم “تدوير التاريخ”، ولكن وفق منظوره وتصوره هو. ومثال ذلك ما وجدناه عند بنيامين سطورا في كتابه “تاريخ الجزائر منذ الاستقلال”(9)، إذ تنوعت قائمة الببليوغرافيا ما بين أبحاث ودراسات عن نشأة السينما الجزائرية، وعن الطبقة العاملة، وعن السلطة، وعن الجماعات المحلية، وعن الاشتراكية، وعن التسيير الذاتي، وعن الثقافة، وعن الإسلام والفكر المعاصر بالجزائر، وعن التصنيع، وعن الهجرة الجزائرية، وعن تطور الجامعة الجزائرية وتكوين النخبة، وعن السياسة الخارجية للجزائر، وعن المرأة الجزائرية، وعن المعارضة منذ 1962، وعن النظام السياسي الجزائري، وعن مؤسسات الدولة الجزائرية…الخ .
خاتمة
والنتيجة التي أود الوصول إليها من خلال ما ذكرت، أنه من غير المعقول أن يشتغل الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة بحقل التاريخ، ويوظفون أحداثه ويدمجونها في أبحاثهم ودراساتهم المتعلقة بقضايا الجزائر في الزمن الراهن، وفق ما تقتضيه مناهجهم طبعا، بينما يَعزُف المؤرخ عنها، بحجج واهية، إذ يرى البعض أن دور المؤرخ هو الانتظار والترقب حتى تجتمع كل الشروط في الكتابة، مع العلم أن الحادثة اليومية تصبح من الماضي في اللحظة التي يكتمل فيها المشهد.
وعليه يتعين على المؤرخ السعي في هذا الاتجاه، وإبداء الرأي فيه، لإثبات جدارته، وأحقيته في اقتحام هذا المجال الخصب، الذي لا يمكنه أن ينضب، في سبيل تراكم معرفي سيكون سندا للأجيال القادمة، في انتظار افتتاح الأرشيف مستقبلا.
هوامش
(1)-حسب التشريع الجزائري وفيما يخص الأرشيف العام : فقد حددت آجال بعض أنواع الوثائق التي تمس بالسيادة الوطنية والنظام العام وشرف العائلات . أما الأرشيف الخاص : فلا يسمح بالاطلاع عليه إلا بترخيص من المالك…كما لا يمنع الدولة من التدخل لاسترجاع الأرشيف الخاص من مالكه في حالة نقله أو بيعه إلى الأجانب بدون الموافقة الكتابية من طرف مؤسسة الأرشيف . لمزيد من الاطلاع، راجع : فضيلة تكور، « الأرشيف ومكانته في القانون الجزائري ». حولية المؤرخ، العدد 3-4، 2005، ص.ص.381-382.
(2)-أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي. ج6. دار البصائر للنشر والتوزيع، الجزائر، 2009، ص.79.
(3)-على غرار محفوظ قداش، وأبو القاسم سعد الله، ويحي بوعزيز، ومولاي بلحميسي، وناصر الدين سعيدوني، وعبد الحميد حاجيات، وغيرهم.
(4)-على سبيل المثال لا الحصر: كمال بوشامة، جبهة التحرير الوطني والسلطة، الجزائر بين 1962-1992. (ترجمة : جواد صيداوي وحاتم سلمان). دار الفارابي، بيروت، 2001، 336 صفحة . ومحمد الميلي، مواقف جزائرية. المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،1984، 349 صفحة . وباللغة الفرنسية :
Ahmed Mahsas, L’autogestion en Algérie. Éditions el Maarifa, Alger, sans date, 297 pages. M’hamed Yousfi, Le pouvoir 1962-1978. Éditions Mimouni, Alger, 2012, 255 pages. Ahmed Taleb-Ibrahimi, Mémoires d’un algérien. 3 tomes. Casbah Éditions, Alger, années 2006-2008-2013.
(5)-Henri-Irénée Marrou, De la connaissance historique. Éditions du Seuil, Paris, 1954, p.p.68-69.
(6)-ناصر الدين سعيدوني، أساسيات منهجية التاريخ . دار القصبة للنشر، الجزائر، 2000، ص.20-22.
(7)-أنظر: موقع الصحف الجزائرية : www.algerianpress.com
(8)-أنظر: موقع رئاسة الجمهورية الجزائرية : www.el-mouradia.dz
موقع الوزارة الأولى : www.premier-ministre.gov.dz
موقع وزارة الداخلية والجماعات المحلية : www.interieur.gov.dz
موقع المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي : www.cnes.dz
(9)-Benjamin Stora, Histoire de l’Algérie depuis l’indépendance. Éditions La Découverte, Paris, 1995,125 pages.
اترك رد