هل يكون الحكم الديمقراطي فاسداً؟

د. جعفر شيخ إدريس

صلاح المجتمع يعتمد على دعامتين، دعامة داخلية هي الأساس، ودعامة خارجية هي المساعدة. فالمجتمع الصالح هو الذي يتكون من أفراد صالحين كلما كان عددهم أكثر كان مجتمعهم إلى الصلاح أقرب. لكن الصلاح الداخلي يحتاج إلى ترتيبات خارجية تناسبه وتعين على العمل بمقتضاه.

من عيوب الفكر الغربي السائد أنه يفترض أن صلاح المجتمع إنما يكون بصلاح الترتيبات الخارجية اقتصادية كانت أم سياسية أم اجتماعية ورأسمالية كانت أم اشتراكية.

وعليه فإن كثيراً من الناس في زماننا بل وفي بلادنا ممن تأثر بهذا الفكر صاروا يعلقون آمالاً كبيرة على النظام السياسي الديمقراطي ويرجون منه ما لا يمكن أن يحققه به. ذلك أنه لما كثرت معاناة الناس من الفساد المرتبط بالنظم الاستبدادية الدكتاتورية صاروا يعتقدون أن النظام السياسي الديمقراطي الحق هو الإكسير الذي سيداوى هذا الدّاء، ويجعل المواطنين يعيشون في أمن من ذلك الفساد. لكن هذا وهم مرده إلى عدم النظر في النظرية الديمقراطية وتطبيقاتها.

هل يكون النظام ديمقراطياً حقا ويكون مع ذلك فاسداً حقاً؟

نعم. والفساد المتعلق به نوعان، نوع يتعارض مع الديمقراطية، وهذا ليس محل بحثنا لأن الديمقراطية ليست مسئولة عنه مادام يتعارض معها. إنما بحثنا في الفساد الذي لا يتعارض معها، بل الذي ينتج عنها حتى حين تطبق تطبيقاً صحيحاً. إن كون القرار قد يكون ديمقراطياً لا ريب في ديمقراطيته ويكون مع ذلك فاسداً لا ريب في فساده أمر يقر به كبار منظري الديمقراطية من الغربيين.

فهذا فوكوياما يقول:

إن القرارات التي تتخذها ديمقراطيات ليبرالية ذات سيادة والتي تكون صحيحة إجرائياً، لا ضمان أن تكون عادلة أو متناسبة مع هذه المبادئ العليا [ يعني المبادئ الليبرالية العالمية] . إن الأغلبيات الديمقراطية يمكن أن تقرر فعل أشياء فظيعة لأقطار أخرى ويمكن أن تتغول على الحقوق والقيم الإنسانية التي بني عليها نظامها الديمقراطي نفسه(1)

وقال كاتبهم الشهير هنتجتون Huntington يقول:

إن الانتخابات المفتوحة الحرة العادلة هي جوهر الديمقراطية، هي شرطها الضروري الذي لا مفر منه. لكن الحكومات التي تأتي بها الانتخابات قد تكون عاجزة وفاسدة و قصيرة النظر و غير مسئولة، وتغلب عليها مصالح خاصة وتعجز عن اتخاذ سياسات يطلبها الشعب. هذه الخصال تجعل الحكومة غير مرغوب فيها، لكنها لا تجعلها غير ديمقراطية(2).

وهذا صحفي كندي كبير يكتب مقالاً بعنوان مثير هو ” على كندا أن تلغي الديمقراطية” لماذا؟ يدعي الكاتب أن النظام الحالي هو أفسد نظام مر على كندا في تاريخها كله “إن حجم السرقة، والاحتيال والتزوير وغسيل الأموال يتجاوز أن يكون بسبب عدد من السياسيين المنحرفين أو مجموعة صغيرة من المستخدمين المارقين. إن الحزب الليبرالي وبالتالي الحكومة فاسدة. إن الفساد ليس في مجرد عدد من الحوادث المعزولة لكنه في الجهاز نفسه. ” ثم يقول: “إن من الفضائل المفترضة في الديمقراطية أن الناس بإمكانهم أن يغيروا حكومتهم إذا لم يكونوا راضين عنها. ولكن حتى مع علمنا بأن هذه الحكومة فاسدة وملتوية فإن 61% من الكنديين لا يرغبون في إجراء انتخابات(3).

وهذا ليبمان الذي قال عنه مقدمو الكتاب الذي نشروا فيه مجموعة من مقالاته، “إنه ربما كان أعظم مفكر سياسي أمريكي في القرن العشرين”(4) يقول فيما نحن بصدده: ” يجب في رأيي أن نرفض القول بأن مبادئ الحرية والعدالة والحكم الصالح إنما تتمثل في حكم الأغلبية.

هنا يكمن أصل المسألة. لقد كان [الرئيس] واشنطن يعتقد أن الشعب يجب أن يحكم، لكنه لم يكن يعتقد أنه بسبب حكم الشعب تتحقق الحرية ويتحقق العدل والحكم الصالح. كان يعتقد أن الشعب ذا السيادة لا يؤتمن ـ كما لم يؤتمن الملك ذو السيادة الذي كان هو”أيّ الشعب” خلفاً له ـ على السلطة المطلقة.

إنه لم يخدع نفسه … إنه لم يكن يؤمن بما صار الآن الأيدلوجية الديمقراطية السائدة: أن كل ما رأت جماهير الناس أنها تريده فيجب أن يقبل على أنه الحقيقة. لقد كان يعلم أنه لاضمان من أن يتحول حكم الشعب إلى حكم قهري، تعسفي، فاسد، ظالم وغير حكيم. إن الشعب أيضا يجب أن يكبح جماحه. إنه كغيره يجب أن يحاسب. إنهم كغيرهم يجب أن يعلموا. إنهم كغيرهم يجب أن يرفعوا فوق مستوى سلوكهم المعتاد(5).

وإذا كان أولئك قد تكلموا عن الفساد السياسي فإن الكاردينال الأسترالي جورج بل George Pell يتحدث عن فساد يخشى أن يكون استشراؤه في الديمقراطيات الغربية سببا لإقبال الناس على الإسلام الذي يرى أنه من حيث خطره على الحضارة الغربية هو شيوعية القرن الواحد والعشرين. يقول هذا الكاردينال: “إن الديمقراطية الغربية الليبرالية فارغة وأنانية وأن الإسلام بدأ يظهر نظرة عالمية بديلة”، إن الإسلام قد يكون في القرن العشرين” جاذباً للمغتربين alienated والغاضبين من جانب، وأولئك الذين ينشدون النظام والعدل في الجانب الآخر” ثم يتساءل ” هل تحتاج الديمقراطية إلى صناعة فحش ببلايين الدولارات، صناعة نامية بسرعة؟ هل تحتاج إلى معدل إجهاض يصل عشرات الملايين لتتصف بالديمقراطية؟”(6)

في كلام هؤلاء المفكرين الغربيين حقيقة مهمة يغفل عنها كثير من الناس فيخلطون بين كون القرار أو التصرف ديمقراطياً وكونه حسناً قائماً على مكارم الأخلاق، فيشككون في ديمقراطية كل قرار لا يرونه حسناً ويصفونه بأنه لا يتناسب مع الديمقراطية الحقة. والحقيقة أنه لا علاقة بين الأمرين. فالقرار أو التصرف قد يكون خطأ وقد يكون إجراماً وقد يكون ضاراً، ولكنه يكون مع ذلك ديمقراطياً لا قدح في ديمقراطيته. لماذا؟ لأن الديمقراطية إنما هي حكم الشعب، أو هي في الواقع حكم أفراد من الشعب حكمهم الشعب في نفسه، أو حكمتهم فيه قلة منهم، عن طريق الانتخابات. لكن حكم الحاكم إنما هو ثمرة علمه أو جهله، ومعاييره الخلقية حسنة كانت أو سيئة. لماذا ننسى أن قرارات الدول الغربية بغزو شعوب العالم الضعيفة واحتلال أراضيها واستغلال خيراتها كانت كلها قراراً ديمقراطياً؟ وأن خطف أمريكا للأبرياء من الأفارقة واسترقاقهم ومعاملتهم بأسوأ مما تعامل به الحيوانات كان قراراً ديمقراطياً؟ وأن قرار تحريرهم لم يكن قراراً ديمقراطياً، وإنما جاء نتيجة حرب بين من رأوا أنه يتعارض مع المبادئ الإنسانية، وبين الذين كانوا يرون الالتزام برأي الأغلبية مهما كان. كما أن قرار استحلال الزنا بين المتراضين أيا كان جنسهما هو قرار ديمقراطي؟ وأن قرار فرنسا بمنع الحجاب كان قراراً ديمقراطياً؟ وأن غزو أفغانستان ثم العراق كان قراراً ديمقراطياً.

قد يقال: ألا يكون الحكم الإسلامي أيضا فاسد؟

كلا. لا يكون إسلاميا حقا وفاسدا. لماذا؟ لأن صلاحه شرط في إسلاميته} إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. (النساء: 58)

فهو إسلامي بقدر قربه من الصلاح وغير إسلامي بقدر قربه من الفساد. إذن فالفرق بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي أن فساد النظام الديمقراطي راجع كثير منه إلى النظرية الديمقراطية، أما فساد النظام المنتسب إلى الإسلام فلا يرجع إلى الدين الإسلامي وإنما يرجع إلى التطبيق. السبب في هذا هو أنه بينما النظام الإسلامي هو حكم بنصوص أنزلها الله تعالى، أو باجتهادات بشرية مبنية على معايير أنزلها الله تعالى، فإن الديمقراطية هي حكم شعب من الشعوب. ولما كانت الشعوب متعددة ومختلفة، فإن قراراتها الديمقراطية لا بد أن تتعدد وتختلف. بل إن قرارات الشعب الواحد تختلف بحسب ما يحدث فيه من تغيير على مر الأيام.

قد يقال إن المؤمنين بالديمقراطية يستطيعون إصلاح هذا الخلل في نظريتهم فيضيفون إليها مبادئ تشترط في القرار الديمقراطي أن لا يتعارض مع القيم الخلقية المتفق عليها بين الناس كالصدق والأمانة والعدل. لكن مثل هذا التعديل الذي نادى به فعلاً بعض ذوي الرأي منهم يقضى على النظرية نفسها، لأن السؤال سيكون: من الذي يحق له أن يقول للناس إن قراركم ليس ديمقراطياً إذا كان قراراً اتخذوه بأغلبيتهم؟

[1] Fukuyama, State-Building, Cornell University Press, New York, 2004, pp 114-15

[2] Huntington,

[3] by Arthur Weinreb, Associate Editor, Friday, April 29, 2005 From :http://www.canadafreepress.com/2005/weinreb042905.htm

[4] Clinton Rossiter & James Lane, editors, The Essential Lippman: A Political Philosophy for Liberal Democracy, Harvard University Press, 1982, p. xi.

[5] Ibid pp. 4-5

 

[6] http://www.theage.com.au/articles/2004/11/11/1100131136231.html

المصدر


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد