قصة ابن يقظان، عند السهروردي وابن سينا … حسن محمد أحمد محمد

د. حسن محمد أحمد محمد: جامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب – قسم علم النفس

تعد قصة ابن طفيل (حي بن يقظان) واحدة من القصص الرمزية التي حاول أصحابها أن يوصلوا شيئاً من أفكارهم الفلسفية إلى الآخرين، متحذين من الجانب الرمزي سبيلاً وقالباً يمكنهم من تجسيد فلسفتهم. وهذا النهج يعد قديماً عرفته الأساطير اليونانية القديمة، كما عرفه الفلاسفة المسلمون: الفارابي وابن سينا وإخوان الصفاء. ففي الأساطير اليونانية القديمة تجد قصة (أسطورة) شور، وكذلك قصة الطفل الذي تركته أمه خوفاً من والده، وهي تشكل بعض الأفكار والمعارف الإنسانية.
ومن الفلاسفة المسلمين هناك ابن سينا الذي صنف وكتب قصة بنفس عنوان قصة ابن طفيل، وهناك أيضاً السهروردي المقتول الذي سرد قصة، تحت ذات الاسم، وهي، قصة رمزية حملها عدداً من الأسئلة والاستفسارات الفكرية.
ـ أولاً : قصة ابن سينا:
عرض ابن سينا جانباً من آرائه وأفكاره في قالب قصصي رمزي هدف، من خلاله، إلى عرض آرائه الفلسفية والعقلانية، فكتب قصته (حي بن يقظان)، يرمز بها إلى العقل الفعال والنفس الإنسانية، كما تناول من خلالها الحديث عن الغرائز والشهوات، وسائر ملكات الإنسان، واستعرض النزاع بين الشهوات الغريزية والضمير الإنساني اليقظ، وملخص القصة هو:
أن ابن سينا قد التقى، في سفرة من أسفاره، بشيخ بهي الطلعة قد أوغل في السن ولم يهن منه عظم ولا تضعضع له ركن، فمال إليه، رغبة في محادثته، فاستأنس الشيخ به وتجاذبا أطراف الحديث ثم تشعب بهم إلى أمور متفرقة؛ حيث تعرف على الشيخ الذي هو حي ابن يقظان وقد قدم من بلدة بيت المقدس، وكانت حرفته السياحة في الأرض حتى أحاط بخبرها وأن أباه قد منحه مفاتح العلوم كلها فاهتدى إلى الطريق السالك, وتشعب بهما الحديث حتى أفضى بهم إلى علم الفراسة الموصل إلى كشف الأمور الخفية عن طريف مقدمات عرفانية بديهية، فيحدثه الشيخ عن الرفقة التي تصحب الإنسان (شهواته) فيصفها بأنها رفقة سوء وأنها ملتصقة بالنفس التصاقاً، وعلى الإنسان، إن أراد الفكاك منها، أن يغترب إلى أرض لم يطأها من قبل مثله، وهذا أمر في غاية الاستحالة؛ إذن فعليه أن يتمسك بالفوائد العقلية المحضة فهي التي ستبلغه أعلى درجة من درجات سلم السعادة. بعد ذلك اتجه بهم الحديث إلى سؤال الشيخ عن أقاليم الأرض وحدودها، فقال: إن حدود الأرض ثلاثة، حد يحده الخافقان, وحدان هما: حد المشرق وحد المغرب لكل واحد منهما صقع قد ضرب بينهما وبين عالم البشر بسور لا يتعداه إلا الخواص بخروجهم من عين الحيوات الراكدة واغتسالهم في العين الخرارة فيتطهرون، ثم يحدثهم عقب ذلك عن ملك تلك الحدود الثلاثة الذي يقوم بوصفه بأكمل وأتم صفات الجلال والكمال، والبهاء والجمال.
ـ ثانيا : قصة السهروردي:
وخلاصة موضوعها هو: أن السهروردي قد خرج في رحلة مع أخ له من ديار ما وراء النهر إلى القيروان، وهناك تم القبض عليهما وحبسا في جب عليه قصر مشيد، وكان يسمح لهما إذا جن الليل أن يخرجا إلى السطح، على أن يعودا عند الفجر، وبينا هما على تلك الحال إذ جاءهما الهدهد فقال: إني قد أحطت بوجه خلاصكما، وجئتكما من سبإ بنبإ يقين، وألقى إليهما الهدهد رسالة جاء فيها: أنه من أبيكما الهادي، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، كم شوقناكم فلم تشتاقوا، ودعوناكم فلم ترحلوا …، فإن أردتما الخلاص من ما أنتما فيه فلا تنوا في العزم، واعتصموا بحبلنا… فسافرا واركبا السفينة التي بسم الله مجراها ومرساها، فتقدم الهدهد وركبا السفينة، طلباً للوصول إلى طور سيناء حيث صومعة أبيهما، وهناك وجدا أباهما (ورأيت أبانا شيخاً كبيراً تكاد السماوات والأرض تنشق من تجلي نوره، وشكوت له من حبس القيروان، فقال: إنك لابد راجع إلى القيروان). وعندئذ تضرعا إلى الله طالبين الخلاص؛ فبشرهما بأنهما يمكن أن يرجعا إليه متى أراد، وإن كانا في الحبس، كذلك بشرهما بالخلاص. وفي آخر القصة يقول السهروردي : ( وبقى معي من اللذة ما لا أطيق أن أشرحه…).
إن القارئ المتأمل والمتمعن لهاتين القصتين يرى أنهما قد رمزتا إلى العلاقة بين الله الخالق والإنسان المخلوق، التي متى صفت كانت النفس أكثر صفاءً إلا أنه على الإنسان أن يكابد عناء الوصول إلى حالة الصفاء، وهي درجة روحية لا يبلغها إلا القليل، وهم أولئك الذين تمكنوا من هزيمة جيوش الشهوات، وهي من أعتى الجيوش وأقواها، وكان قائدهم وحاديهم في هذه المعارك التي خاضوا رحاها هو العقل الذي رمز له ابن سينا بالشيخ (حي)، في حين يرمز له السهروردي بتلك الرسالة، وهذا العقل هو الذي يخرج الإنسان وينقذه من ظلمات الجهل، وينقله إلى نور العلم والمعرفة (الحق) الذي هو عند ابن سينا عالم ما وراء الحدود الثلاثة، وعند السهروردي فهو القصر المشيد فوق الجب. أما الجهل وظلماته فيرمز له ابن سينا بالغرائز الإنسانية التي تثيرها وتهيجها رفقة السوء، بينما يرمز له السهروردي بالجب.
من الواضح أن القصتين الرمزيتين قد هدفتا إلى إظهار قوة العقل والتي تجعل منه قوة متفردة ومتحكمة في الغرائز التي دائماً ما تورد الإنسان موارد الهلاك. والرمزية هنا تعني الإشارة إلى الطريق يسلكها الفرد بهدف الوصول إلى حالة الصفاء الروحي والسكينة والسلام النفسي، والراحة البدنية، وهي طريق شائكة يصعب ويشق السير فيها على كل مريد للوصول لتلك الحالة، يقول الرسول، الكريم عليه أفضل صلاة وأتم تسليم،: (عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) . صحيح مسلم ج4/ص2174، كما يقول، أيضاً،: (خير الأعمال ما أكرهتم عليها). إذن فالطريق إلى الله صعب ووعر ولا سبيل إليه إلا بهاد يهدي إلى سواء السبيل، وهو العقل الذي هو حادي الإنسان إلى الحق (الله) الذي لا إله سواه ولا مناص منه إلا إليه.
ـ ثالثًا: قصة حي بن يقظان، عند ابن طفيل:
من المؤكد أن ابن طفيل قد اطلع على قصتي ابن سينا والسهروردي، وتأثر بهما حينما أخذ يكتب قصته (حي بن يقظان)، حيث يقول: … فأنا واصف لك قصة (حي بن يقظان وأسال وسلامان) … ففي قصصهم عبرة لأولي الألباب وذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد .
وعلى الرغم من أن ابن طفيل قد قرأ القصتين؛ إلا أنه قد تفرد في قصته عندما قدم بطل قصته بشكل مختلف كل الاختلاف عن بطل قصة ابن سينا فالأخير نشأ نشأة طبيعية، بينما أضاف الأول إلى بطله صورة غير عادية تنبئ عن نشأته، فهو ربما يكون قد خرج إلى هذه الحياة عن طريق تولده من طينة في جزيرة من جزائر الهند، تحت خط الاستواء تتميز بأنها من أعدل بقاع الأرض هواءً وأتمها لشروق النور الأعلى عليها.
وبالرغم من غرابة هذه الفكرة إلا أنها غير مستبعدة على قارئ القرآن العظيم، فإن إرادة الله، جلت قدرته، قد اقتضت من قبل خلق آدم (عليه السلام ) من طين، والذي يقرأ القرآن العظيم يجد ذلك في غير ما آية من آي الكتاب الكريم: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ12) . وقوله، تعالى، (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) . وقوله، تعالى، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ) . وقوله، تعالى، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ) . وقوله، تعالى، (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ 11) . ومهما يكن من أمر فإن بطل ابن طفيل قد جاء إلى هذه الدنيا وعاش فيها على الصورة والشكل الذي رسمه له المؤلف.
مضمون القصة:
ولد (حي) بطل القصة من زيجة تمت بين يقظان، قريب الملك، وأخت ذلك الملك اللذان تزوجا سرًا، وبعد أن وُلد (حي) من تلك الزيجة قذفت به أمه في اليم بعد أن أرضعته ووضعته في تابوت ( صندوق صغير) فجرى به الموج إلى ساحل إحدى الجزر، واستقر به المقام في أجمة ملتفة الشجر وبقي محجوزاً في تلك الأجمة. فلما أحس الطفل بالجوع علا صوته بالبكاء، فانتبهت إحدى الغزلان التي كانت قد فقدت طلاها (صغيرها)، فأخذت في إرضاعه ورعايته إلى أن بلغ العام الثاني من عمره، ثم راح ينمو مع مرور الوقت مع سرب من الغزلان، ولكنه كان كثيراً ما يتأمل في حياة الكائنات في الغابة ويقارن بينها وبين نفسه فهو عار من الريش والشعر كما أنه ضعيفا القوى أمام المخاطر، فاتخذ لجسمه غطاءً من ورق الشجر من أمام ومن الخلف وهو يبدله بين فترة وأخرى كلما زوي وجف، فلما أعياه التغيير والتبديل جعل غطاء جسمه من ريش أحد الصقور الميتة، كما صنع من فروع الشجر عصىً يدفع بها الأخطار عن نفسه، وظل على تلك الحال إلى أن كبرت أمه (الظبية) ثم نفقت بعد ذلك، وعند ذلك راح يتساءل لماذا هي لا تتحرك؟؟ وظل جالساً بقربها يتفحص أعضاءها الخارجية عله يدرك سر تعطل أحدها، ولما لم يصل إلى شئ قرر تقطيع أوصال الظبية فربما يدرك مبتغاه , وبعد تفحصه للأجزاء توصل إلى القلب الذي رأى أنه هو الذي يحمل سر الحياة, وسارت في دخيلة نفسه العديد من الأسئلة والاستفسارات ، وبعدها أخذته الحيرة ، ما الذي سيفعله بهذا الجسد المقطع الأوصال؟؟ وفجأة اقتتل أمامه غرابان فقتل أحدهما الآخر وقام بحفر الأرض لدفنه، فما كان منه إلا أن عمل على تقليده فوارى، أمه (الظبية ) التي ربته ورعته، الثرى.
وفجأة يكتشف (حي) النار التي انقدحت من احتكاك بعض الأغصان الجافة، فأفاد منها فائدة عظمى حيث أخذ منها الضوء والدفء وإنضاج الطعام، كما استفاد منها في الدفاع عن نفسه ضد أعدائه من الحيوانات كذلك تذكر أن جسد الظبية كان حاراً فلما نفقت صار بارداً؛ فوقع في خلده أن الشئ الذي فارغ جسد الظبية ربما كان من جوهر هذه النار ووجه تفكيره إلى هذا الجانب عله يظفر بما يبحث عنه من إدراك سر الحياة؛ فعمل على تفحص العديد من أعضاء الحيوانات الميتة أو التي كان يقتلها في عراكه معها. إلا أن أبعد ما توصل إليه هو أن هناك شئ واحد مشترك وموجود في جميع هذه الكائنات التي تعيش في الغابة، ولكن ما هو؟؟ إنه لا يدري. وعاش (حي) في الجزيرة وهو يعمل عقله وفكره في المقارنة بين الأشياء من: حيوانات ونباتات وجمادات، بل راح يقارن ذاته بكل ما هو موجود بقربه في تلك الغابة فلم يعثر لنفسه على مثيل أو شئ يشبهه وأكثر (حي) من البحث والتفكير في الماديات المحسوسة، وفي هذه الأثناء تعلم الكثير والمفيد الأمر الذي يسر له الحياة وساعده على توفير سبل العيش في أحضان الجزيرة. وبينما هو يسعى إلى المعرفة تاقت روحه إلى البحث في الصور، وهي المعاني المجردة من المادة، وهنا تراه يضع قدمه على أول درجات سلم المعرفة، وأول شئ أثار انتباهه هو الماء؛ فإنه إن برد سال وتدفق إلى أسفل وإن سخن وزالت عنه البرودة أخذ في الصعود إلى أعلى؛ فأدرك أن لكل حادث محدِث، ثم ازداد في التفكر والتأمل فتبين أن الأفعال الصادرة عن الأجسام ليست لها في الحقيقة وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها، وهذه الخاطرة التي لاحت له إنما هي مما ورد في القرآن العظيم حيث يقول، تبارك وتعالى،: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . وقد ورد في صحيح البخاري ج5/ص2384
(… وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته) .
ومازال (حي) يتعمق في بحثه وتأمله في الموجودات فرأى أنها تتكون تارة وتفسد تارة أخرى وهذا هو القانون الذي يسري على الكل دون استثناء، بعد ذلك راح يقلب بصره في السماء وهو يتأمل ما فيها من شمس وقمر ونجوم؛ فتكونت لديه معرفة بعلم الهيئة فجميع الأفلاك في حركتها يضمها فلك واحد هو الذي يعمل على تسيير حركة الكل، وهنا برزت في ذهنه أسئلة واستفسارات: من أين خرج هذا الفلك؟؟ وكيف ظهر إلى الوجود؟؟ وهل هو شئ حدث بعد أن لم يكن؟؟ ووجد في الوجود بعد العدم؟؟ أم أنه كان موجوداً ولم يسبقه عدم؟؟. وبقي (حي) يبحث عن الإجابة أو الإجابات سنوات عدة فتتعارض عنده الحجج، ولا يترجح لديه أي من الاحتمالات التي يراها، ولكنه توصل إلى يقين جازم وراسخ هو أن لهذا الوجود فاعل ولابد لهذا الفاعل من صفات تميزه عن غيره، وبعد تدبر وتفكر رأى أن هذا الفاعل لا يمكن أن تدركه الحواس، أي أنه ليس بجسم، ولا يدرك بالخيال؛ لأن الخيال يقوم اعتماداً على الحواس وبالتالي فهو منزه عن كل صفات الجسم، كما رأى (حي) أن هذا الفاعل، ربما كان هو موجِد هذا الوجود فهو إذن قادر ومسيطر عليه (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ولم يقف (حي) عند هذا الحد بل أخذ في التساؤل، كيف بلغ هذا الحد من المعرفة التي رسخت في نفسه؟؟ وبعد طول تفكر في حواسه التي استخدمها في الوصول إلى تلك الدرجة من الإدراك علم أن هذه الحواس قاصرة عن أدراك كل هذه الحقائق التي تمكن من إدراكها؛ إذن فلابد من أن هناك شئ ليس بجسم ولا هو بقوة من قوى الجسم هو الذي مكنه من الحصول على كل هذه المعرفة اليقينية الراسخة في كثير مما ذهب إلى التفكير فيه.
لقد أثار ذلك في نفس (حي) قلقاً أرقه بالتفكير مما أدى به إلى البحث في النفس التي سماها (الذات الشريفة )، لأنها هي التي أعانته على الوصول إلى الإدراك اليقيني الذي بلغه، حيث أدرك أن هناك موجودًا واجب الوجود، ومن بين تلك الأسئلة المحيرة عن النفس والتي دارت في ذهن (حي): هل هذه النفس قابلة للفناء؟ أم أنها دائمة البقاء (خالدة)؟؟ فاهتدى من خلال التفكر إلى أن الفساد والعلل والفناء هي من صفات الجسد، فأدرك بفطرته أن هذه النفس ليست بمادية وإنما هي روحانية، وهي دائمة الميل والتوقان إلى الفاعل الموجد لهذه الوجود؛ إذن هذه النفس مفارقة للجسم ومنفصلة عنه، كذلك لا يعتريها الفساد ولا الفناء، فدعاه ذلك إلى الاعتقاد بأن سر سعادة النفس وكمال ذاتها يكمن في لذة المشاهدة أي مشاهدة الموجود الواجب الوجود على الدوام، والاتصال به فلا ينقطع عنه طرفة عين حتى تدركه المنية وهو في حال المشاهدة بالفعل فتتصل لذته دون ألم، فعليه إذن أن لا ينقطع تشبهه وأن لا ينسى اتصاله بهذا الموجود الواجب الوجود، وعليه أيضاً أن يتخلى عن صفاته التي يشترك فيها مع الحيوان.
استطاع (حي) أن يدرك أن جميع صفاته وأفعاله لا تخرج عن أنواع ثلاثة هي:
ـ أنه أشبه بالحيوان في بعض صفاته وأفعاله، الأمر الذي يصعب مهمته ويعوقه عن الوصول إلى الشعور والإحساس بلذة الماشهدة، وهو يرى أن في ذلك منتهى سعادته.
ـ أن صفاته أقرب إلى الأجرام السماوية، وفي ذلك حظ عظيم من المشاهدة، ولكنها مشاهدة مشوبة ببعض الكدر.
ـ أما النوع الثالث من صفاته وأفعاله فهو ذلك الذي يعينه على الاستغراق المحض الذي لا إلتفات فيه لغير الموجود الواجب الوجود؛ وذلك لا تتكدر لذة الشعور والإحساس بالمشاهدة.
ولكي يدرك الوصول إلى النوع الثالث من صفاته وأفعاله فلابد من الارتباط والتمرين اعتماداً على النوع الثاني مدة من الوقت حتى يتمكن من بلوغ النوع الثالث من الصفات والأفعال، فتفكر في حاله فرأى أنه لا غنىً له عن أحد أمرين هما: الحاجة إلى الغذاء حتى يبقي عل حياته، والأمر الثاني هو حاجته لشئ يقيه من عوامل الطبيعة كالحر والبرد والمطر … وغيرها، فهدته فطرته إلى أن الحزم يفرض عليه أن يحد لنفسه حدوداً لا يبعد عنها ولا يتعداها، ومقادير لا يتجاوزها، فنظر في أصناف الموجودات التي يتغذى عليها فوجد أنها: إما نبات لم تنضج بعد، أو ثمار اكتمل نموها لإخراج نوع آخر لحفظ النوع، وإما أنه من الحيوانات البرية والبحرية. وكان (حي) قد أدرك من قبل أن هذه الأصناف هي من صنع الموجود الواجب الوجود، الذي أيقن أن سر سعادته مرتبط به لا بغيره، وبناءاً على ذلك وضع (حي) لنفسه خطاً لا يخرج عنه في غذائه؛ لأنه ضرورة لبقاء الحياة والحفاظ عليها، كان يطعم نفسه من ما تيسر له، فإن توفرت العديد من أصناف الطعام فعليه أن يأكل من ما لا ضرر فيه لفعل الموجود الواجب الوجود، وأن يجعل البذور في موضع يمكنها من النمو مرة أخرى، كذلك عليه أن يتخير طعامه وغذائه من أكثرها وفرة، وأقواها توليداً وإنباتاً محاذراً أن لا يبتر أصولها. أما إذا أخذ من الحيوان فعليه أن يأخذ من أكثرها وجوداً وتوالداً أو من بيضه. هذا ما كان من أمر غذائه أما من حيث المقدار فعليه أن يكتفي بما يسد الرمق والخلة (الحاجة ) أي أن لا يسرف في الأكل. ولم يزل (حي) ملتزماً بما وضعه لنفسه من حدود, وهو يطلب الفناء والإخلاص في مشاهدة الحق حتى يتأتى له ما أراد، ولم يبق في حياته ولا في تفكيره إلا الواحد الحق الموجود الواجب الوجود الذي بلغ حداً من القرب منه والاتصال به أنه كان يصل إليه متى شاء وكيف أراد ، فبقي في تلك السعادة أسابيع لا ينقطع عن الشهود والاتصال.
بعد ذلك تأتي مرحلة جديدة في حياة (حي) وهي بداية العلاقة بينه وبين (أسال) الذي نشأ في جزيرة تبعد عن تلك التي ترعرع بين أحضانها (حي)، وقد تعلم الأول أسس عبادة الله الواحد الأحد من ملته التي أخذت تعاليمها من أحد الرسل، ولم يتوقف (أسال) عند حد الظاهر من تلك الشريعة أو العقيدة التي كان يدين بها، بل كثيراً ما كان يغوص متأملاُ في باطن وأعماق المعنى الظاهر باحثاً عن معنى يتفق والعقل السليم، فمال إلى العزلة والتأمل والانقطاع عن الجماعة؛ لذلك أزمع الرحيل إلى الجزيرة القاطن بها (حي)، دون معرفة منه به، لما سمعه عنها من خصب مراتعها وطيب هوائها وهدوئها، الأمر الذي سيساعده على التفكر والتأمل، فعزم (أسال) وتوكل على الله وجمع كل ماله فاكترى بجزء منه مركباً وتصدق بما تبقى من المال على الفقراء. وهناك انقطع (أسال) للعبادة والتبتل لله، تعالى، متفكراً ومتأملاً، ومستأنساً بمناجاة ربه. وفي هذا الوقت كان (حي) منقطع للموجود الواجب الوجود ولا يخرج من مغارته إلا مرة كل أسبوع باحثا عن الغذاء، فاتفق أن تراءى في مرة من المرات كل من (حي) و(أسال) فظن الأخير أن الذي رآه هو أحد النساك فعليه ألا يفسد عيه خلوته ، أما (حي) فقد أخذته الدهشة والحيرة من أمر هذا الكائن الذي كانت عليه مدرعة من الشعر سوداء فظنها (حي) شعر طبيعي ، وعند ما جد (أسال) في العودة إلى مكان عبادته تبعه (حي) وأنصت إلى خشوعه في تعبده فعرف بحسه أنه لا يشبه ما كان يراه من الكائنات في الجزيرة، ولكن (أسال) أخذه الرعب وانطلق طلباً الهرب والفرار، ولكن حيًًّّ لم يتركه وجد في اللحاق به حتى امسكه، وزاد من خوف (أسال) ما رآه من منظر (حي) الذي ما زال يصدر من الحركات والأصوات حتى طمأن (أسال) وسكن، عند ذاك قرب (أسال) طعامه إلى حي الذي تناوله بعد لأي إلا أنه استطابه وأحس بالإلفة مع (أسال) فأشفق عليه ورغب في تعليمه الكلام مبتدئً بالأسماء حتى تمكن ـ في وقت وجيز ـ من الكلام. وعند ما أتقن (حي) الكلام سأله (أسال) عن شأنه ،فأخبره بأنه لا يدري من أمره شيئاً أكثر من ما أخبره به، وسار بهما الحديث عن المعارف العقلية التي يمكن للإنسان أن يدركها ببصيرته فتطابقت عندهما المعرفة. وتحدث (أسال) عن جزيرته وأحوالها، وعن العقيدة هناك، فتنبه (حي) إلى أن الشرع الذي جاءت به الرسل لا يخالف ما توصل إليه بعقله، فآمن وصدق، والتزم بمبادئ الشرع، إلا أنه بقي في نفسه أمران كان دائم التعجب منهما: لمَ ضرب الرسول الأمثال في كثير مما وصفوه للناس من أمر العالم الإلهي، وأضربوا عن مكاشفتهم مما ساق الناس إلى الوقوع في الأخطاء؟؟.
أما الأمر الثاني فهو لمَ أباح الشرع اقتناء المال؟؟ ففي رأيه أنه لا يجوز للفرد أن يأخذ أحد شئ مما في الحياة إلا ما يقيم أوده، وأما المال فلا معنى له عند (حي). وكان في ظن (حي) أن ما جاء في الشرع من أحكام البيوع والعقوبات، وغير ذلك إنما هو تطويل لا طائل من ورائه؛ وذلك لاعتقاده أن الناس جميعهم من ذوي الفطرة الفائقة، ففكر في الاندماج في مجتمع الناس حتى يستطيع أن يقوم بإخراجهم من الظلمات إلى النور بهدايتهم وإرشادهم إلى سبيل الردشاد، واستشار في هذا صديقه (أسال) فأيده وعزز هذا رأيه وتفكيره بالذهاب إلى جزيرة (أسال)؛ لعل الله يرشد به المعرضين عن الإيمان بالحقائق الإلهية، واتفقا على أن يلازما ساحل الجزيرة حتى يهيئ الله لهما أمر الرحيل؛ فهيأ الله لهما سفينة جنحت إلى تلك النواحي وقبل ذووها أن يحملاهما معهم.
ودخلا الجزيرة معاً فذهب (أسال) بصديقه (حي) إلى بعض أصحابه وعرفه بهم فعظموه وقدروه أيما تقدير، وأخبره بأن هؤلاء هم الأقرب إلى الفهم من أهل الجزيرة فعليه أن يبدأ بهم، فمازال بهم (حي) يبين لهم الحق فلا يزدادون إلا بعداً ونفورًا، حتى بلغ منه اليأس مبلغاً عظيماً، ثم أنه راح يتأمل في أحوال الناس فوجد أن أكثرهم بمنزلة الحيوان وهنا أدرك الحكمة من بعث وإرسال الرسل، وأن الهداية والرشد من الله، وأن كل ميسر لما خلق له، كما في صحيح البخاري ج6/ص2745 (عن عمران قال قلت يا رسول الله فيما يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له) ، وكأنه يتلو قول الله، تعالى،: (سنة الله التي قد خلت ولن تجد لسنة الله تبديلا) ؛ فآب ورجع إلى رأيهم واهتدى بهديهم، كما أوصاهم بالالتزام والتمسك بالشرع.
وفي آخر القصة عاد كل من (حي وأسال ) إلى موطن الأول واجتهدا في العبادة والتبتل طلباً للوصول إلى المقام والدرجة التي يبقيها (حي) من قبل لقائه (بأسال) وجدا في ذلك بهمة ونشاط حتى لقيا الله.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد