التكوين النفسي للمتنبئ من خلال أشعاره … حسن محمد أحمد محمد

د. حسن محمد أحمد محمد: جامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب – قسم علم النفس

يعتبر موضوع دراسة الشخصية من أهم موضوعات الدراسات النفسية؛ وذلك لصلته المباشرة بموضوع علم النفس الأساسي، وهو دراسة السلوك. وللسلوك أنماط متعددة ومتنوعة، وهو الذي ساعد علماء النفس في تحديد سمات كل فرد أي أنه (السلوك) يمنحه شخصيته المميزة له عن الآخرين؛ وتوجد أنماط متباينة من الشخصية فهناك الشخصية: الاجتماعية، المنبسطة، الانطوائية، المحبوبة، المرحة، الجذابة، والمكتئبة،… والمثيرة للجدل، والأخيرة هي التي تعنينا في الأسطر التالية.
لا شك في أن المتنبئ قد مثل شخصية مثيرة للجدل، يقول ابن رشيق، في عبارته المشهورة، عن أبي الطيب المتنبئ (303-354 ه /915-965م)، (ملأ الدنيا وشغل الناس)، ويقول المتنبئ نفسه:
أنام ملء جفوني عن شواردها * ويسهر الخلق جراها ويختصم
ولكن ليس هذا هو مقصدنا من تناولنا لشخصية المتنبئ، وإنما هدفنا هو تناول شعره، ولكن بأسلوب تحليلي يختلف عما تناولته به أقلام النقاد والأدباء من أهل اللغة؛ لاسيما وأن شعر المتنبئ يصور حياته ويبرز شخصيته التي سنحاول أن نلج إليها من باب الدراسة النفسية لشعره، باعتبار أن اللسان ينبئ عما في النفس من حاجات، وقد قيل (المرء مخبوء تحت لسانه)، وقيل أيضًا: (المرء بأصغريه لسانه وقلبه)، ويقول الشاعر الأعور الشني :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ومن المعروف أن نفس المتنبئ قد شابها الكثير من التوتر والقلق، وعدم الاستقرار، ويتجلى ذلك في الصورة الشعرية التي تولت رسم شخصيته وقدمتها، في ما بعد، للناس. والناظر في حياته وسيرته؛ يلمح ما فيها من تواضع لا يخفى على العين، فقد ولد في حي كندة بالكوفة وتولت امرأة علوية رضاعته، وهناك صمت، قد يكون مقصودًا، عن أسرته، فلم يذكر المتنبي، نفسه، عن أسرته سوى جدته التي كان يعدها أمّه إذ هي التي تولت تنشئته ورعايته، ولم يذكر المؤرخون، من أسرته، سوى ابن، وحيد، يسمى محسَّد. وتشير الدراسات والبحوث إلى أن أسرة المتنبئ كانت فقيرة أو شبه معدمة، ويدل على ذلك شهرة والده بعيدان السقاء للدلالة على مهنته؛ الأمر الذي دفع بالفتي (المتنبئ) إلى أن يسعى إلى التكسب من خلال الشعر الذي كان يرى أنه يمثل السبيل السريع إلى الثراء، ودون عناء، فهو القائل:
ضاق صدري وطال في طلب الرز * ق قيامي وقل عنه قعودي
تشير نتائج بعض بحوث علماء النفس إلى أن بعض السِّمات، كالتعب في سبيل تحقيق أمر مهم أو هدف عظيم، قد تستمر منذ مراحل الطفولة المبكرة وحتى الكبر، وقد جسد المتنبئ هذا المعنى في قوله:
إذا كانت النفوس كبارًا * تعبت في مرادها الأجسام
ولعل هذا البيت هو الذي شكل لنا شخصية المتنبئ التي تميزت بالهمة العالية والطموح الذي لا يحده حدود. إلا أن الدارس لشعر المتنبئ يجد أن هناك سمة قد ظلت ملازمة للمتنبئ أكثر من غيرها من السمات، وربما كانت هي التي ميزت شخصية المتنبئ عن غيره من الشعراء، ألا وهي، الفخر، فقد كان شديد الفخر بنفسه، حتى أمام ممدوحه، ودون وجل أو خوف، فهو القائل:
وما أنا إلا سمهري حملته * فزين معروضًا وراع ممددا
أجزني إذا أُنشِدتَ شعرًا فإنما * بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي * فأنا الصائح المحكي والآخر صدا
وهو القائل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم
وقال:
ما أبعد العيب والنقصان عن شيمي * أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ويقول مفتًخرا على جميع الناس الذين عاش بينهم وفي مجتمعهم:
وما أنا منهم بالعيش فيهم * ولكن معدن الذهب الرغام
وليست لدينا من شك في أن الشعور والإحساس بالعظمة قد تغلغل في نفس المتنبئ حتى تملكه وسيطر عليه بشكل تام، وتتجسد تلك المشاعر والأحاسيس، بصورة جلية للعيان، في تكراره الدائم للضمير (أنا) في الكثير من أشعاره؛ لدرجة تدل بل وتأكد أنه مصاب بعقدة الأنا، وقد صارت الأنا عنده تعاني من تضخم مرضي، وقد انعكس ذلك الشعور الأنوي على سلوكه وعلى شخصيته؛ في صور عشق للذات (النرجسية)، ونرى أن المتنبئ، هنا، أكثر عشقًا وتعلقًا بذاته من الشاعر الطرماح الذي قال:
لقد زادني حبًا لنفسي أنني * بغيض إلى كل امرئ غير طائل
وإني شقي باللئام ولن ترى * شقيًا بهم إلا كريم الشمائل
حيث نلاحظ أن جنون العظمة، والعشق والهيام بحب الذات قد بلغ بالمتنبئ حدًا أنه توهم الكمال في نفسه، في قصيدته التي يقول في مطلعها
لك يا منازل في القوب منازل * أقفرت أنت وهن منك أواهل
إلى أن يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل
وقيل، في بعض الروايات، أن لقب المتنبئ قد ألصق به لكثرة استخدامه أو تشبيهه لنفسه بالأنبياء (عليهم السلام)، وها هو يشبه نفسه بصالح (عليه السلام) في قوله:
إن أكن معجبًا فعجب عجيب * لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي * وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله * غريب كصالح في سمود
ويبلغ المتنبئ ذروة سنام جنون العظمة بنفسه، فلا يرى له شبيهًا بين الورى، حيث يقول:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه * فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
ولعل تضخم الأنا والشعور بالعظمة أو ما يمكن أن نطلق عليه، جنون العظمة، أمر طبيعي لمن عاش ونشأ في بيئة اجتماعية بائسة، وشبيهة أو مماثله لبيئة المتنبئ، الذي سما به شعره من قاع المجتمع إلى قمته، فراح يجالس علية الناس وكبراء القوم من الوزراء والولاة والحكام؛ بعد أن كان نكرة تقتحمه العين بل وتزدريه، فسعى المتنبئ، جاهدًا، إلى ابراز شخصيته، التي يريدها ويتمنى أن يراه الناس بعينه هو لا بعيونهم هم، فعمل على تقديم شخصيته، الجديدة، للمجتمع في صورة مغايرة لصورة شخصيته التي عاش في كنفها ردحًا من الزمن في ما مضى، وكأنه يريد أن يستبدل شخصيته القديمة بأخرى مختلفة عن سابقتها، وأن يطمس ملامح ومعالم الشخصية السابقة، وأن يمحوها من الوجود، فنجده يخاطب سيف الدولة بكل كبرياء ويتيه على حاسديه مفتخرًا حين ينشد:
أزل حسد الحساد عني بكبتهم * فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
وهو لا يأبه ولا يهتم بما يدور حوله من لغط، ولعه هو الذي يثير تلك الزوابع ليشتغل الناس به أكثر، وبذلك يكون مدار أحاديثهم، وهذ هو المعنى الذي عناه ابن رشيق بعبارته الذائعة الصيت (ملأ الدنيا وشغل الناس)، فقال:
رماني الدهر بالإزراء حتى * فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام * تكسرت النصال على النصال
وهان فما أبالي بالرزايا * لأني ما انتفعت بأن أبالي
ولا يقف شعور المتنبئ بأنانيته عند حد الشعور بحسد الحساد، وإنما تتجاوزه وتتعداه إلى الرغبة في سفك الدماء بلا رحمة، حيث يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم
والشعور بالحسد صفة وسمة نفسية تبرز بشكل كبير لدى أصحاب الهمم والطموح العالي، ولا شك في أن المتنبئ أحد أولئك النفر الذين ترعرع، حتى وطال واستطال، لديهم الشعور بحسد الحاسدين، وهذا الشعور نابع من معاناته الدائمة منذ الطفولة البائسة التي عاش وترعرع في ظلالها، ومن إحساسه بالدونية والنقص منذ صغره، الأمر الذي دمغ شعره بالتفرد، في كثير من الأحيان، فاستمع إلى شكواه وهو يشرح سبب ما به من علة، فينشد قائلاً:
يقول لي الطبيب أكلت شيئًا * وداؤك في طعامك والشراب
وما في طبه أني جواد * أضر بجسمه طول الجمام
فأُمْسِك لا يطال له فيرعى * ولا هو في العليقة ولا اللجام
فإن أمرض فما مرض اصطباري * وإن أحمم فما حمّ اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن * سلمت من الحمام إلى الحمام
لقد عاش المتنبئ بلسانه وكذلك كان سبب مقتله بين فكيه، حيث أورده، حياض المنية بيت شعر واحد من أشعاره الكثيرة التي ظل ينشدها ويرددا طوال عمره، فمما يروى ويحكى عن سبب مقتله، أنه قد فر من أعدائه، حتى كاد ينجو بحياته من بين أيديهم، غير أن أحد غلمانه ببيت من قصائده، فقال له: ألست القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قفال له: قتلتني قتلك الله. ثم رجع إلى موضع القتال فقاتل حتى قتل؛ وبذلك انتهت حياة هذه الشخصية التي كادت أن تكون أسطورة من الأساطير من كثرة ما روي عنها من أحاديث ضاقت بها صحائف المجلدات.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد