د. حماد محمد إبراهيم منصور: أستاذ الفقه والأصول بجامعة الطائف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد ،
فإن الاعتكاف عبادة من أجل العبادات وقربة من أفضل القربات ، وإنه لحري بالمسلم الذي يريد الاعتكاف أن يعرف أحكامه وغاياته ومقاصد تشريعه وأن يعمل على تحقيقها ، وفيما يأتي بيان لأهم أحكام الاعتكاف ومقاصده:
أولا : الأحكام:
1-معناه: الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه، وشرعا: لزوم المسجد والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله عز وجل.
2-حكمه :
الاعتكاف سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعله له ومداومته عليه
فعن عائشة ري الله عنها :”أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخرمن رمضان حتى توفاه الله ،ثم اعتكف أزواجه من بعده”
.ويجب بالنذر لحديث : ” من نذر أن يطيع الله فليطعه..”
3-شروطه :
أ-الإسلام ب- النية ج- الطهارة من الجنابة والحي والنفاس
د-أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة. ويرى بعض العلماء جوازه في أي مسجد.
4-أركانه : أ- النية ب- المكث في المسجد
5-وقته :
الاعتكاف المطلق ليس له وقت محدد، فمتى دخل المسجد ونوى الاعتكاف صار معتكفا، أما اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فإن وقت دخول المعتكف المسجد يكون قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين ،و وقت خروجه بعد غروب شمس أخر يوم في رمضان.
6-مبطلاته:
أ-الخروج من المسجد لغير حاجة عمدا؛لأن المكث في المسجد أحد ركني الاعتكاف.
ب-الحيض والنفاس ؛ لفوات شرط الاعتكاف
ج-الجماع ؛لقوله تعالى : ” ولا تقربوهن وأنتم عاكفون في المساجد” د- الردة
7-ما يباح للمعتكف:
أ-خروجه من معتكفه لتوديع أهله، فعن صفية رضي الله عنها:”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني”
ب-ترجيل شعره وحلق رأسه، وتقليم أظفاره وتنظيف البدن من الشعث والدرن ولبس أحسن الثيات والتطيب بالطيب.قالت عائشة رضي الله عنها:
” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة، فأغسل رأسه ”
ج-الخروج للحاجة التي لا بد منها، قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان”.
وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول، لأن هذا مما لا بد منه ولا يمكن فعله في المسجد، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله الخروج إليه، وإن بغته القيء فله أن يخرج ليقئ.
د-عيادة المريض وشهود الجنازة إذا اشترط ذلك في أول اعتكافه ، وقال بعض العلماء: له ذلك وإن لم يشترطه ، لما رواه سعيد بن منصور عن علي رضي الله عنه أنه قال : إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليحضر الجنازة، وليعد المريض وليأت أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم.” وقال بعض العلماء ليس له ذلك لما رواه أبو داود عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه”
8- قطع الاعتكاف :
للمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب متى شاء، قبل قضاء المدة التي نواها.
فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه.وأنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فأمر ببنائه فضرب، فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب.فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية، فقال: ما هذه؟ ” آلبر تردن ؟” قالت: فأمر ببنائه فقوض ، وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول ” يعني من شوال ”
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بتقويض أبنيتهن وترك الاعتكاف بعد نيته منهن دليل على قطعه بعد الشروع فيه.وفي الحديث أن للرجل أن يمنع زوجته من الاعتكاف.
ثانيا: مقاصد الاعتكاف:
الاعتكاف شأنه شأن كل العبادات له مقاصد وغايات يجب أن تراعى حتى يؤتي أكله وثمراته ويقع على الوجه المطلوب والمحبوب إلى الله عز وجل، ومن مقاصد الاعتكاف ما يأتي :
1-تحري ليلة القدر:
كان تحري ليلة القدر من المقاصد الأساسية لاعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم ؛إذا بدأ اعتكافه أول مرة من بداية الشهر يلتمسها في ليالي رمضان كلها ،حتى أري أنها في العشر الأواخر فاقتصر اعتكافه بعد ذلك على هذه العشر.
2-الخلوة بالله عز وجل والأنس به :
حقيقة الاعتكاف وفلسفته هي عكوف القلب لا الجسد ، أما عكوف الجسد فهو وسيلة لعكوف القلب على الله عز و جل والأنس به وتلذذ الروح بذكره ومناجاته.قال أحد السلف : الاعتكاف معناه وحقيقته قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق.
يقول ابن القيم رحمه الله : “.. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق.. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.”
ولذلك كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا اعتكف دخل خيمته وحده.
3-إصلاح القلب وجمع شمله بالإقبال على الله تعالى:
القلب شأنه شأن الجسد يعافى ويمرض ،ويقوى ويضعف ، ومن أسباب مرض القلب الذنوب والإفراط في المباحات وتناول الشهوات ،ودواؤه يكون بالتوبة والاستغفار وذكر الله عز وجل والإكثار من الطاعات ، ومن كان الاعتكاف من أهم وسائل إصلاح القلب.
4-تزكية النفس:
التزكية لغة: الطهارة والنماء، وتزكية النفس معناه تطهيرها من مساوئ الأخلاق وتنميتها بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، والعبادات كلها –ومنها الاعتكاف- وسائل لتزكية النفس ، قال تعالى : ” قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى”
5-حفظ الصيام من كل ما يؤثر فيه :
من المقرر أن الذنوب له تأثير بالغ في قبول الصيام والمثوبة عليه ،ففي الحديث : ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ” أي لا يعبأ الله بصيامه ، والاعتكاف وسيلة لحفظ الصيام من الذنوب والمعاصي.
6-التقليل من المباحات ومتاع الدنيا والزهد فيها:
من أسباب قسوة القلب الإكثار من تناول المباحات والشهوات ، والاعتكاف وسيلة للتقليل من هذه الأمور وتربية النفس على الصبر عنها والزهد فيها.
والخلاصة أنه لكي يؤتي الاعتكاف ثمرته وتتحقق مقاصده ينبغي على المعتكف أن يتجنب مخالطة الناس وكثرة الكلام بغير ذكر الله وكل ما يشغله عن الله ، وأن يكثر من الطاعات وخاصة ذكر الله وتلاوة كتابه وأن يجعل همه الأكبر هو تحقيق مقاصد الاعتكاف من الأنس بالله وإصلاح قلبه وتزكية نفسه.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
اترك رد