قال تعالى:( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ 5 خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ 6 يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ 7) سورة الطارق.
وذا تنبيه منه تعالى بإحالة التفكر إلى أصل الإنسان، ومكمن الإعجاز الخلقي فيه، الدال عظمة الخالق له، فذكره تعالى بمنشئه من ماء مهين دافق، ثم ذكر له أصل الماء، وذا تحد للمنكر ألوهية الوحي القرءاني، فأنى لأمي من أهل الصحراء أن يدري أصل الماء الدافق لو لم يكن نبيا يوحى إليه.
وفي الآية أقوال في تفسيرها، وبالأخص في معنى مخرج الماء الدافق، أهو من الصلب والترائب للرجل وحده أم للرجل والمرأة، أم صلب الرجل وترائب المرأة[i].
– المعنى اللغوي:
معنى الصلب: الصُّلْبُ: الظَّهر، وهو عظم الفَقارِ المتصِّل في وسَط الظَّهر، والصُّلْبُ من الجَريِ ومن الصَّهيل: الشديد، وقال: ذو مَيعَةٍ اذا تَرامَى صُلْبُهُ.
ورُبَّما جاء في معنى الصُلَّب كالحُوّل والقُوَّل والقُلَّب أي المُحتال، والقُوَّل من القَوْل[ii].
قوله تعالى (يخرج من بين الصلب) أي من بين أجزاء صلب كل رجل؛ أي ظهره.
و الصُّلْبِ الرجل: العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، و هو ذو الفقرات.
معنى الترائب: من التريبة: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندؤة[iii] .
والتَريبةُ: ما فوقَ الثَّندُوتَيْنِ إلى التَّرْقُوتَيْنِ، وقيلَ: كلُّ عظمٍ منه تَربية[iv] .
والتَّريبة: مَجال القِلادة في الصّدر، والترْب: اللّدَة الذي ينشأ معك، والجمع أتراب[v] .
وقال أبو عبيدة الترائب معلق الحلي من الصدر وهو قول جميع أهل اللغة.
و محرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقوتين و الثّديين و وسموه بأنه موضع القلادة من المرأة، وهي تضاف إلى الرجل و إلى المرأة، و لكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.
– المعنى الاصطلاحي(أهل التفسير):
لم يختلف في تفسير الصلب، ففهم الخروج عن مقره بقوله: (من بين الصلب) أي صلب الرجل، وهو عظم مجتمع من عظام مفلكة، أحكم ربطها غاية الإحكام من لدن الكاهل إلى عجب الذنب.
لكن اختلف في تفسير الترائب، وفي الترائب أقوال:
– أنه موضع القلادة قاله ابن عباس، و قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون الترائب موضع القلادة من الصدر وأنشدوا لامرىء القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل.
– أن الترائب اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
– أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزجاج.
– عظام الصدر.
– وقيل ما بين الثديين.
– وقيل ما بين المنكبين والصدر.
– وقيل التراقي.
– وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب[vi].
وقيل “الترائب” أي ترائب المرأة، وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وصوبه ابن جرير، أو ما ولي الترقوتين منه، أو مابين الثديين والترقوتين أو أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة من يسرته، أو اليدان والرجلان والعينان، وعلى كل تقدير شهوتها من أمامها، وشهوة الرجل فيما غاب عنه من ورائه[vii].
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : في قوله عز و جل (يخرج من بين الصلب والترائب ) قال : الصلب هو الصلب، و الترائب أربعة أضلاع من كل جانب من أسفل الأضلاع.هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.تعليق الذهبي قي التلخيص : صحيح[viii].
وكلها لا تخرج عن موضع القلاد بين المنكبين ما بين الثديين من الترقوة من عظام الصدر، فلا اختلاف في التفسير، بل هو تنوع لفظي لا أكثر.
– معنى “يخرج من بين”:
قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ) الضمير عائد إلى (ماءٍ دافِقٍ)، و هو المتبادر، فتكون جملة ( يَخْرُجُ) حالا من (ماءٍ دافِقٍ)، و وصف أنه (يخرج من بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ) لأن الناس لا يتفطنون لذلك، و الخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان، و لو بدون بروز، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب و الترائب.
و كلام أهل التفسير في مصدر الماء من معنى الآية على ثلاثة أقوال:
– الأول: الماء الدافق من صلب الرجل وترائب المرأة؛ روي عن سفيان وقتادة، وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية، الصلب والآخر الترائب، وعليه قيل هو كقولك: يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير، على معنى أنهما سببان فيه، وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران كالشيء الواحد، فكان الصلب والترائب لشخص واحد.
وقال عطاء عن ابن عباس يريد صلب الرجل وترائب المرأة، وهو موضع قلادتها، وهذا قول الكلبي ومقاتل وسفيان وجمهور أهل التفسير، وهو المطابق للأحاديث الواردة عن تكون الولد، وبذلك أجرى الله العادة في إيجاد ما يوجده من بين أصلين كالحيوان والنبات، وغيرهما من المخلوقات، فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى، كما ينعقد النبات من الماء والتراب والهواء، ولهذا قال الله تعالى (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) (الأنعام 11)، فإن الولد لا يتكون إلا من بين الذكر وصاحبته، و لا ينتقض هذا بآدم وحواء أبوينا، ولا بالمسيح فإن الله سبحانه مزج تراب آدم بالماء، حتى صار طينا ثم أرسل عليه الهواء والشمس حتى صار كالفخار ثم نفخ فيه الروح، وكانت حواء مستلة منه وجزءا من أجزائه، والمسيح خلق من ماء مريم ونفخة الملك وكانت النفخة له كالأب لغيره[ix].
– الثاني: من صلبيهما وترائبهما معا؛ قاله الحسن و قتادة، و المعنى أنه يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة، و ترائب كل منهما..
– الثالث: من صلب وترائب الرجل؛ أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل و ترائبه. قاله سفيان و الحسن، أي أن أصل تكوّن ذلك الماء و تنقله من بين الصلب و الترائب، و ليس المعنى أنه يمر بين الصلب و الترائب، إذ لا يتصور ممر بين الصلب و الترائب، لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر و الضلوع من قلب و رئتين.
فقوله سبحانه (من بين الصلب والتراءب) “عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة، فالترائب يشمل القلب والكبد، وشمولها للقلب أظهر، والصلب النخاع، و بتوسطه الدماغ، ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره، ذلك لأنه دم نضيج، وإنما احتيج إلى ما خفي؛ وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء، فنبه على مكانهما، وقيل ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالأحليل، وقيل لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد، وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه.. وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل؛ أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه، فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط، وجعل الكلام إما على التغليب، أو على أنه ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق”.[x]
فقوله تعالى (يخرج من بين الصلب والترائب)، ولم يقل يخرج من الصلب والترائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين الملتقين، كما قال في اللبن( يخرج من بين فرث ودم).
وقد أخبر سبحانه أنه خلقه من نطفة في غير موضع، والنطفة هي ماء الرجل، كذلك قال أهل اللغة، قال الجوهري: والنطفة الماء الصافي قل أو كثر، والنطفة ماء الرجل والجمع نطف.
و الذي يوصف بالدفق والنضح، إنما هو ماء الرجل، ولا يقال نضحت المرأة و لا دفقته . والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك؛ أنهم رأوا أهل اللغة قالوا الترائب: موضع القلادة من الصدر، قال الزجاج: أهل اللغة مجمعون على ذلك، وأنشدوا لإمرئ القيس: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنبل.
وهذا لا يدل على على اختصاص الترائب بالمرأة، بل يطلق الرجل والمرأة، قال الجوهري: الترائب عظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندؤة[xi].
وروى إسماعيل عن أهل مكة (يخرج من بين الصلُب)بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي، وقال : من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، الضمير في {يخرج} للماء[xii].
قال البيضاوي: ولو صح أن النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند الأنثيين، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها، ولذلك تشبهه، ويسرع الإفراط في الجماع بالضعف فيه، و له خليفة؛ وهو النخاع وهو في الصلب، وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصا بالذكر.
وقال الملوي: فالذي أخرجه من ظروف عظام الصلب والترائب، إلى أن صيره في محله من الأنثيين، إلى أن دفق، واعتنى بعد ذلك بنقله من خلق إلى خلق، بعد كل أربعين يوماً، إلى أن صيره إنساناً يعقل ويتكلم ويبني القصور، ويهدم الصخور، قادر على بعثه[xiii].
فجعل الإنسان مخلوقا من ماء الرجل، لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل، فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة، و هو شي ء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين و يطرح ما عداه.
و هذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل، مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل و ماء المرأة؛ بذكر الترائب، لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة.
وذا القول هو ما رجحه ابن القيم.
أصل الماء الدافق:
أخبر سبحانه أنه خلق الإنسان من ماء دافق، والدفق صب الماء، يقال دفقت الماء فهو مدفوق ودافق ومندفق، فالمدفوق الذي وقع عليه فعلك، كالمكسور والمضروب، والمتدفق المطلوع لفعل الفاعل؛ تقول دفقته فاندفق، كما تقول كسرته فانكسر، والدافق قيل إنه فاعل بمعنى مفعول، كقولهم “سر كاتم” و”عيشة راضية”، وقيل هو على النسب لا على الفعل؛ أي ذي دفق، أو ذات، ولم يرد الجريان على الفعل، وقيل وهو الصواب انه اسم فاعل على بابه، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعل الدفق، فان اسم الفاعل هو من قام به الفعل، سواء فعله هو أو غيره، كما يقال ماء جار، ورجل ميت، وإن لم يفعل الموت، بل لما قام به من الموت نسب إليه على جهة الفعل، وهذا غير منكر في لغة أمة من الأمم فضلا عن أوسع اللغات وأفصحها .. ونبه سبحانه بكونه دافق؛ على أنه ضعيف غير متماسك، ثم ذكر محله الذي يخرج منه وهو بين الصلب والترائب[xiv].
فهل أصل الماء الدافق؛ أي المن، الصلب والترائب أم الخصيتين؟
المتعارف عليه الذي لا يرده خلاف أن مني الرجل يتكون في الخصيتين، بينما الآية ترجع الماء الدافق إلى الصلب والترائب، ومن المؤكد أن لا مني بهما بل لا منفذ بينهما، فما تفسير الآية ؟؟
أصل تكون الخصيتين والمبيضين: في بداية الأسبوع السابع لا يوجد في الجنين أعضاء تناسلية، إلا أنه توجد حدبة تناسلية غير محددة الهوية ( ذكورة أم أنوثة ). توجد بالقرب من منطقة الكلية بين الصلب “العمود الفقري”، و الترائب ” الأضلاع “.
ابتداء من الأسبوع السابع من الحمل تبدأ الخصية بالنمو، ويظهر فيها نسيج خاص يكون ملفوفاً بغلاف أبيض يدعى اللفافة البيضاء، وتنمو الخصية أو المبيض في الحدبة التناسيلة..
في الأسبوع الثامن تعرف الغدد التناسلية إن كانت خصية أم مبيضاً، وفي الأسبوع التاسع من الحمل تبدأ الأعضاء التناسلية الخارجية بالتميز بين الأنوثة والذكورة ..و في الأسبوع الثاني عشر تتميز الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل كامل أي في نهاية الشهر الثالث.
و يكون موضع الخصية قبل الشهر الثالث ( في الأسبوع الثامن ) بالقرب من موضع الكلية بين الصلب ( العمود الفقري )، والترائب ( الأضلاع )، ثم تنزل الخصية تدريجياً أثناء الحمل إلى أن تصل إلى الحوض في الشهر السابع، وعلى عكس المبيض الذي يستقر في الحوض؛ تتابع الخصية نزولها، حتى إنها في الشهر التاسع من الحمل ( الأسبوع 36) تنزل إلى كيس الصفن خارج البدن.
وقد ثبت أن النطاف متواجدة منذ بدء تطور الخصية، إلا إنها تكون متواجدة بجدار القنيات المنوية بشكل خلايا أصلية، ينشأ منها كل النطاف طوال العمر الجنسي، إلا أن الخصية تكون خامدة هاجعة حتى سن البلوغ، وتحت تأثير هرمونات منطقة الوطاء: ( منطقة تحت السرير البصري، أو منطقة تحت المهاد ( Hypothalamus )، تبدأ الغدة النخامية بإرسال رسولها المنشط ( المغذي ) للغدد التناسلية، فتتنبه الخلايا الأصلية ( الأولية ) الموجودة بجدار القنيات المنوية، فتقوم من هجعتها الطويلة وتبدأ بالانقسام منذ تلك اللحظة[xv].
– أصل مادة الماء الدافق:
لا شك أن النسل يتكون من الرجل و المرأة، فيتكون من ماء الرجل و هو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى الحيوانات المنوية، و هي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل و ذنب دقيق كخيط، و هذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة، و مقرها الأنثيان و هما الخصيتان، فيندفع إلى رحم المرأة، و من ماء هو للمرأة كالمني للرجل، و يسمى ماء المرأة، و هو بويضات دقيقة كروية الشكل..غير أن أصل مادة كلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ، و تنزل في عرقين خلف الأذنين، أما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، و هو الصلب، ثم ينتهي إلى عرق يسمى الحبل المنوي، مؤلف من شرايين و أوردة و أعصاب و ينتهي إلى الأنثيين، و هما الغدتان اللتان تفرزان المني، فيتكون هنالك بكيفية دهنية، و تبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية، و ذلك عند دغدغة أو لذع القضيب المتصل بالأنثيين، فيندفق في رحم المرأة.
و أما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين؛ يمران بأعلى صدر المرأة و هو الترائب، لأن فيه موضع الثديين، و هما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل، و الحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم، و هي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض، و تنقبض عقب الطّهر..و الرحم يأتيها عصب من الدماغ.
و هذا من الإعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم، و هو إشارة مجملة[xvi] .
فالخصية والمبيض يتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين و ترائبه..و الصلب هو العمود الفقري..و الترائب هي الأضلاع..وتتكون الخضية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط، أي بين الصلب والترائب، ثم تنزل الخصية تدريجيا حتى تصل إلى كيس الصفن (خارج الجسم) في أواخر الشهر السابع من الحمل..بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة.
ومع هذا فإن تغذية الخصية والمبيض بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها..أي من بين الصلب واترائب، فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر(الأورطي البطي) من الصلب والترائب، كما كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة..يصب الوريد الأيسر في الوريد الكلوي الأيسر، بينما يصب وريد الخصية الأيمن في الوريد الأجوف السفلي..وكذلك أوردة المبيض وشريانها تصب في نفس المنطقة، أي بين الصلب والترائب..
كما أن الأعصاب المغذية للخصية أو المبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب والترائب.
فهل يبقى بعد كل هذا شك أن الخصية أو المبيض إنما تأخذ تغذيتها ودماءها وأعصابها من بين الصلب والترائب؟..فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب والترائب، كما أن منشأها و مبدأها هو من بين الصلب والترائب.
والآية الكريمة إعجاز كامل، حيث تقول (من بين الصلب والترائب)، ولم تقل من الصلب والترائب.. فكلمة “بين” ليست بلاغية فحسب؛ بل تعطي الدقة العلمية المتناهية..
” فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا..ومقابل أسفل الضلوع.
ومما يفسر لنا صحة هذه النظرية؛ أن الخصية والمبيض يعتمدان في نموها على الشريان الذي يمدها بالدم..وهو يتفرع من الشريان الأورطي، في مكان يقابل مستوى الكلى؛ الذي يقع بين الصلب والترائب، ويعتمدان على الأعصاب التي تمد كلا منهما..وتتصل بالضفيرة الأورطية، ثم بالعصب الصدري العاشر، وهو يخرج من النخاع من بين الضلع العاشر والحادي عشر..وكل هذه الأشياء تأخذ موضعها في الجسم فيما بين الصلب والترائب.
فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتها وفي امدادهما بالدم الشرياني..وفي ضبط شؤونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب، فقد استبان صدق ما نطق به القرءان الكريم وجاء به رب العالمين”، وهكذا تتطابق الحقيقة العلمية والحقيقة القرءانية ولا غرابة..فإن منشأ الحقيقة العلمية هو الله سبحانه وتعالى وهو خالقها فإذا تحدث عنها الرب سبحانه فهو اعلم بها..إلا يعلم من خلق وهو الطيف الخبير؟ “[xvii]
الخلاصة:
من بين الصلب والترائب؛ أي من صلب الرجل وترائبه، ومنهما أصل مادة الماء الدافق، أي من نطفته، فالإنسان ذكر في القرءان خلقه من ماء مهين ومن نطفة وكلاهما للرجل، وذا مبني على التغليب، إذ الدفق لا يطلق إلا على ماء الرجل، ويعلم بالبداهة أن مستقره القرار المكين رحم المرأة، فالإعجاز في الآية قائم في بيان مبدأ الخلقة الجينية لا مستقرها برحم المرأة، أي أصل الماء الدافق، لا أصل تكوين الحمل، وكون القرار معلوم موضعه بعلم تكملة ما في الرحم للماء الدافق في عملية الحمل. فذكر أحد أطراف عملية الخلق هنا بأن خلق الإنسان من ماء دافقن ثم بيان أصل مادته الذي يخفى على العامة، إذ الدفق معلوم أنه من الخصيتين، غير أن مادته كانت مجهولة.
[i] التبيان في أقسام القرآن: ابن القيم.ج2، ص 104.
[ii] العين: الخليل بن أحمد. ج 2، ص39.
[iii] تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري. ج1، ص225.
[iv] العين: الخليل بن أحمد. ج2، ص163.
[v] جمهرة اللغة: ابن دريد. ج5، ص241.
[vi] اللباب في علوم الكتاب: أبو حفص عمر بن علي ابن عادل الدمشقي الحنبلي. ج20، ص264.
[vii] الجامع لأحكام القرآن: القرطبي. ج20، ص (4_7)
[viii] المستدرك: الحاكم. ج3، ص 406.
[ix] تحفة المودود بأحكام المولود: ابن القيم.ص 158.
[x] روح المعاني: الألوسي. ج30، ص(97 -98).
[xi] إعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن القيم. ج1، ص(168_169).
[xii] الجامع لأحكام القرآن: القرطبي. ج20، ص7.
[xiii] نظم الدرر: برهان الدين البقاعي.ج8، ص 580.
[xiv] التبيان في أقسام القرآن لمحمد الزرعي (2/ 103):
[xv] مجلة مجمع الفقه الإسلامي: (4/ 66- 67).
[xvi] التحرير و التنوير، ج 30، ص: 234-235
[xvii] خلق الإنسان بين الطب و القرءان: محمد علي البار. ص(114_116).
اترك رد