الرويبضة الإلكترونية … عبوب محمد أمين

عبوب محمد أمين: أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة حسيبة بن بوعلي الجزائر

لاشك وأن لكل استخدام لتقنية أو وسيلة إعلامية جوانب تقلل من فاعليتها ومصداقيتها وكذا مشاكل تعكر صفو السياق الذي تعمل على إنمائه، ولعل استخدام إعلام الوسائط الجديدة وكل ما تزخر به من أدوات وتطبيقات قد خلق العديد من المشاكل عبر منصات الجيل الثاني من الويب كالشبكات الاجتماعية والمدونات…الخ، والظواهر المصاحبة لتطور هذه التقنيات كصحافة المواطن والاعلام الاجتماعي الالكتروني والبث الذاتي والبودكاست، وكل ما يعطي للمستخدم سلطة وإمكانية على صناعة الحدث، حيث يقوم الفضاء الاعلامي الحر عبر الوسائط الجديدة بإيهام مستخدميه بانه لا حدود ولا سقف لحرية التعبير ولا رقابة تنظم ممارساتهم داخل الفضاء العمومي الافتراضي، هذا ما جعل المستخدمين يطلقون العنان لأفكارهم وخاصة الشاذة منها والمتطرفة وكذا المائعة والهدامة.
ويعتبر الكثير من الباحثين أن المجال العمومي هو تجسيد لرؤية جديدة للديموقراطية “وبناء مجتمع تحكمه العقلانية والانعتاق والمصلحة العامة وأعاد صياغة بنية العلاقات بين السلطة والمجتمع المدني، وهو إجمالا رؤية أعطت نفسا جديدا للديمقراطية محورها “الاتصال””(1) وهذا ما حققه الفضاء الالكتروني أكثر من غيره من فضاءات المجال العمومي.
من أبز المشاكل التي تزعج الباحثين والأكاديميين المهتمين بالمجال العمومي الالكتروني مشكل الرويبضة (2) الالكترونية، ونعني بها تلك الفوضى القائمة والجدل العقيم الدائر عبر وسائط الاعلام والاتصال الجديدة بصورة علنية، حول أمور عامة دون تحديد نوعية ولا مستوى ولا هدف الأفراد الفاعلين في النقاش، وذلك باستغلال الحرية التي توفرها أدوات وتطبيقات الوسائط الجديدة والفضاءات العمومية مفتوحة المصادر، حيث تعتبر الرويبضة الالكترونية من مظاهر سوء استغلال الحرية التي يمنحها الفضاء الالكتروني للمستخدمين.
وتعتبر الرويبضة الالكترونية ظاهرة مستفحلة عبر الشبكات الاجتماعية خاصة وكذا المنصات الموفرة لمجالات للتعليق حول مضامين متنوعة وكذا التطبيقات الاجتماعية المختلفة، وذلك عبر جميع الوسائط كالنصوص المكتوبة وكذا المقاطع السمعية البصرية…الخ، والتي تمكن المستخدمين من إبداء آراءهم حول مواضيع وقضايا مختلفة ومتفاوتة الأهمية بالنسبة للشخص نفسه أو قضايا مصيرية تمس الصالح العام المحلي أو حتى العالمي، وهذا ما يخلق نوعا من التشويش والفوضى الإعلامية وذلك بسبب الكم الهائل من المعلومات المولدة وكذا انتشار الاشاعات والأكاذيب، وهو ما له من تأثيرات على السلم القيمي الحاكم لهذا النوع من الاتصال والتفاعل، وهذا ما سينعكس “على حياتنا الاجتماعية سواء على بنية العلاقات الاجتماعية التي أصبحت تستعيض تدريجيا عن التواصل الإنساني المباشر بالاتصال التكنولوجي، أو على مستوى نظامنا القيمي الذي لا شك سيكون أكثر انفتاحًا على قيم جديدة نظرًا للانفتاح الإتصالي الكبير” ، وما ينجر عنه من فوضى وخروج عن أشكال الحوار الحضاري وأحيانا الانحطاط الفكري والأخلاقي، وعدم التركيز والتجمع حول الأفكار الصائبة.
وقد مست الرويبضة الالكترونية كفعل إعلامي ثلاث أصعدة مهمة داخل المجال العمومي الافتراضي:
• الصعيد الإعلامي: عدم التحقق من المعلومات ومصادرها، وهذا ما يجعل الأكاذيب والإشاعات والتشويه من مميزات هذا النوع من الإعلام.
• الصعيد الأخلاقي: وهو عدم احترام المعايير ومبادئ الذوق العامة وعدم الالتزام بأخلاقيات المجتمعات الافتراضية، عند استخدام المجال العمومي الافتراضي أثناء التعليق والتحاور.
• الصعيد الثقافي: وخاصة اللغوي منه حيث يلاحظ تدني المستوى اللغوي واللجوء نحو الجمل والكلمات المختصرة وغيرها من ظواهر انحطاط الثقافة اللغوية.
وتكون أسباب هذه الفوضى هو التفاوت بين مستويات الناشطين وكذا جدية وعمق أفكارهم وهذا ما قد يفرغ المواضيع المناقشة من أهميتها، وظهور شائعات وأكاذيب قد ينجر عنها فتن بين أفراد المجتمع الواحد أو بين المجتمعات -باعتبار أن الفضاء الافتراضي يجمع عدد من الثقافات والمجتمعات-، حيث “يكتب شخص مغمور بضع كلمات في حق النبي عليه الصلاة والسلام، فتقوم الدنيا ولا تقعد لأن الإعلام المفتوح قد منح كلمات المذكور فرصة الانتشار على نحو لم يكن ليحدث في أزمنة سابقة، ولا سيما أن أعدادا كبيرة من البشر ما لبثت أن نقلتها من موقع إلى موقع فمواقع أخرى كثيرة، ولنتخيل لو أن الزنادقة في الزمن القديم قد حصلوا على “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” لنقل كلامهم” (3).
مع كل هذه السلبيات فإن هذا لا يُعْتَبَرُ سبب لتَكميم أفواه المستخدمين أو منعهم من ممارسة حقهم في التعبير لا عبر الطرق التقنية ولا القانونية، وإنما يعد الاتجاه نحو التربية الإعلامية والتكنولوجية من أهم الطرق للتغلب على هذا المشكل، ومن أهم شروط الاستفادة الإيجابية من مجال الحرية المتوفر عبر البيئة الافتراضية، وللمحافظة والتمتع بالديموقراطية الالكترونية يجب احترام الأفراد وآرائهم بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والدينية والعرقية، وكذا الالتزام بشروط الحوار البناء الذي يرقى بالذوق العام، وإلا سينتج “مُستقْبلاً قادة رأي في ظل مجتمع معلومات منبطح ثقافيا وإعلاميا، ومعاقا فكريا ولغويا أضحى يسبح في مستنقعات الفضاءات الزرقاء” (4) العقيمة التي تستنفذ أفكار المجتمع ولا تستفيد منها.
———————————————————
– مفيدة العباسي، المجال العمومي والاتصال الافتراضي: مقاربة (هابرماسية) لدراسة المجموعات الافتراضية التونسية، ماجستير في علوم الإعلام والاتصال، جامعة منوبة، تونس، 2009/2010، ص 8.
– وهو مصطلح يأخذ معانيه من حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ, وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ, وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ “.
– حوار مع الدكتور عبد الرحمان عزي، تكنولوجيا الاتصال، موقع مركز نماء للبحث والدراسات، تاريخ الادراج 14/11/2014، تاريخ الزيارة 27/08/2014، “http://www.nama-center.com/DialogueDatials.aspx?Id=40#.Vre2iJ80fqY.facebook “،
– ياسر الزعاترة،”الرويبضات” في زمن الإعلام المفتوح، مقالات رأي موقع الجزيرة.نت، تاريخ الادراج (20/4/2012)، تاريخ الزيارة (05/09/2016)، “http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2012/4/20/-الرويبضات-في-زمن-الإعلام-المفتوح”
– سعد بوعقبة، الرويبضة في الإعلام، جريدة الخبر اليومية، عمود نقطة نظام، تاريخ الزيارة(03/06/2016)، تاريخ الادراج (10/05/2016)، http://www.elkhabar.com/press/article/105284/.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد