بقلم: د. رفيق المصري
هبْ أن الثورة الشعبية بدأت سلمية، لكنها لن تستمر كذلك، بفعل العوامل الداخلية والخارجية.
الثورة إذا كانت سلمية فإن الإصلاح سيكون محدودًا جدًا، لأن الإصلاح مجرد ردة فعل للثورة، وردة الفعل ستكون على حسب الفعل وقوته وشدته. فكلما اشتدث الثورة، وحمي الوطيس، وصارت مسلحة، زاد الإصلاح من جانب الحكومة! فلولا الضغوط الداخلية والخارجية لم يكن إصلاح، ولولا الضغوط لم تكبر حزمة الإصلاحات ولا زادت وتيرتها. لا شيء يأتي إلا بالضغوط والدماء والأشلاء! وقد لا يأتي الإصلاح بشيء، ويكون المراد سقوط النظام، وإحداث الفوضى، وتدمير البلدان!
قارن الآن بين قائمة الإفساد وقائمة الإصلاح، تجد أن الإفساد أقوى من الإصلاح كمًا ونوعًا، وأن الإفساد أسرع، وأن الإفساد محقق والإصلاح يحتاج إلى مال وجهد ووقت، هذا إذا كان جادًا، ولم ينته بانتهاء الثورة، أو يهمد بهمودها، أو يخمد بخمودها، ويعود الأمر كما كان قبل الثورة، اللهم ما لم تنس الحكومة حجم المعاناة من جراء الثورة. والراجح هو النسيان الكامل أو الأغلبي.
الإصلاح نسمع به صباح مساء، وحزمة الإصلاحات تتردد على مسامعنا كثيرًا، ولكن ماذا نشاهد على أرض الواقع؟ ما نشاهده هو الإفساد: قتل وقتل مضاد، جنائز، مقابر، جرح، تخريب، تدمير، ترويع، نزوح، جوع، عطش، فقر، مرض، استغاثة، شحاذة، تسول، تدخل أجنبي، ربما يؤدي إلى تجزئة أخرى، واحتلال أجنبي وشيك لا قدّر الله.
ويحسب بعض الناس أن هذه الدولة صديقة، وهذا المسؤول صديق، ولكن ما أحد يتحرك من الزعماء والدول إلا بإشارة خضراء، ظاهرة أو خفية، من القوى العالمية المهيمنة، وبحسب الدور المرسوم له، وعلى قدره. وأغلب الدول والناس يتحركون كذلك. إنهم لا يحبّون أن يمسكوا السلّم بالعرض. جعلوا همّهم السرعة في تنفيذ ما يُطلب منهم، ولا يجرؤ أحد منهم أن يقول: لا، ويتكل على الله!
حقيقة الإصلاح طالما استمرت الثورة، وطالما استعصى الحاكم ولم ينسحب ولم يتخذ ترتيبات فورية لنقل السلطة، هو أن الفساد يغمر الإصلاح، والإصلاح لا يعلو على الإفساد إلا بمجرد الكلام والصوت والادعاء والثرثرة المستمرة. القول للإصلاح والفعل للإفساد! لا يمكن إجراء أي إصلاح حقيقي وجاد ما لم يستتب الأمن! فالتدهور الأمني يخرّب كل دعاوى الإصلاح، ويخرّب كل شيء. فلم يعد الإنسان آمنًا على نفسه ولا ماله ولا عرضه ولا أرضه ولا وطنه ولا منزله. ولعل الثورة غيّبت أصوات العقلاء وأرهبتهم وروّعتهم وحجبتهم. فالإرهاب والإرهاب المضاد يملآن الدنيا بكل شيء إلا العقل والرشد.
هل اندلعت الثورات في وقت واحد، بلا حسابات ولا نظر إلى التكاليف والمآلات؟ هل هُيّج الناس واستثيرت غرائزهم ومكامن الثأر فيهم، فاستجابوا ولكل منهم أجندة خاصة، وحسابات خاصة، لا تجمعهم رابطة واحدة، ولا راية واحدة؟
هل سيبقى الحكام معاندين مهما كلّف ذلك من أثمان باهظة في الأرواح والأموال! مهما كلّف ذلك من خوف ورعب وذعر، مهما كلّف ذلك من انهيارات أمنية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وعائلية؟ إننا نُشمت الأعداء بهذا النزاع بين طرفين متعاندين لا نعلم له مخرجًا ولا نهاية! هذا العناد من الطرفين هو ما يريده أعداؤنا منا! ألم يسبق أن تقاتلت هذه الدولة مع هذه الدولة، فخرج الطرفان لا غالب ولا مغلوب! بل خرجا معًا منهكين ضعيفين مخذولين! القاتل والمقتول في النار! لأن المقتول كان حريصًا على قتل خصمه!
حقيقة القتال هل هي صراع على الإصلاح أم صراع على السلطة بين الأطراف المتنازعة والمتقاتلة؟ هل هناك أهداف وشعارات معلنة لأصحاب النوايا الحسنة وأهداف مبطنة لأصحاب النوايا الشريرة؟ فكل طرف من الأطراف الداخية والخارجية له أجندته في الوصول إلى السلطة والحكم؟ كوكتيل ثوري ليست له راية واحدة! ومن العسير أن يحقق أهدافه بسهولة وبتكلفة قليلة محسوبة. ولئن وضعت الثورة أوزارها، إلا أن الأطراف الثورية ستتقاتل مرة أخرى على كراسي الحكم، وقد لا يصل أي منها إلى الحكم. المهم أن تندلع الثورة، وأما الباقي: متى، وأين، وكيف، ومن البديل … فلا تسأل! سيكون هذا بيد الأعداء المتربصين!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ. قال : عضّوا على السنّة بالنواجذ، ولم يقل : عضّوا على السلطة بالنواجذ!
اللهم اجعل لنا من هذه الثورات فرجًا ومخرجًا. لقد أسقط في أيدينا جميعًا. ليس لنا إلا أنت سبحانك. إنك على كل شيء قدير. لا منجى منك إلا إليك. لا حول ولا قوة إلا بك. نسألك يا حي يا قيوم أن تفرج الكرب. نتضرع إليك أن تزيح عنا الهم والغم وكآبة المنظر في المال والأهل والولد والوطن … حتى الكفار أسقط في أيديهم وتحيّروا وأفلسوا وعجزوا وباتوا مؤمنين!
اترك رد