التفاهة نتيجة حتمية لجريان دم الفساد في شرايين الحياة الإنسانية، ولا تترك التفاهة صورة من صور العيش الإنساني إلا ومسختها لتخرجها عن طورها الفطري الجميل وتفقدها سائر أبعادها المركبة والمتناسقة حتى تبدو وكأنها لوحة صماء لا تقول أي شيء، لوحة توحي بالوحشة والرهبة من الفراغ الذي يملأ كل الأمكنة.
إن التفاهة تطارد”الإنسان” أو بقايا الإنسان في كل مكان، تسد عليه كل المنافذ، لم تترك له مجالا للركض، تحاصره، تأخذ منه كل مرة، تسرق منه بقيته، لم يعد له مكان خاص به.
هل تملك التفاهة أن تسيطر على كل الأمكنة؟
إن الجواب عن هذا السؤال جواني تارة وبراني تارة أخرى، جواني لأن الإحساس الباطني يفقد قدرته، ساعة سيطرة أخطبوط التفاهة، على التمييز، وتتحول العواطف النبيلة إلى لذات وشهوات، وهذه علامة من الداخل الإنساني، فيستحيل الحب إلى جنس، وتستحيل النجدة إلى إظهار للقوة، وتستحيل الرحمة إلى هيمنة..
وبراني من حيث تتسطح الأشياء في العالم حولنا، فيعجز جهازنا الإدراكي الخارجي عن التفريق بين موضوعات الوجود حولنا، بسبب أنها صارت أشباحا وهياكل مخيفة مفرغة من كل قيمة.
لا شك أن التفاهة بما هي عمليات إفراغ متواصل للإنساني من الإنسان، لا تنتهي إلا بكائن بارد عديم القيمة لا تاريخ له ولا ضمير، يعيش وحيدا ويموت وحيدا حتى وإن كان منحشرا بين ملايين البشر، لأن وجوده من الكثرة الغثائية العددية وليس من الجماعة المتراحمة المددية.
على قدر ما تزداد حرارة العالم الخارجية بالاحتباس الحراري الذي كسبته يد الإنسان بأنانيته وعنجهيته وسوء تقديره تزداد برودة العالم الداخلية بما ورثته الرأسمالية المتوحشة من حروب وصراعات وتنافس محموم على مناطق الاستهلاك وعلى مستهلكين جدد لمنتجات لا يزيد تناول الإنسان لها إلا إفراغا له من بقايا إنسانيته.
التفاهة صار لها نعيق وزعيق في كل مكان، صار لها صوت كصوت الغراب لا يحمل على الطمأنينة والرضا، لقد صار لها صولة وسلطان في عالمنا المعاصر، صار لها مع الوقت قانون يحميها، وصار لها مدافعون وأحزاب ومناضلون يناضلون من أجلها، بل صارت لها حكومات وأنظمة بئيسة بأسلوب “ديمقراطي” تتناوب على تمكينها وتجذيرها في الواقع الحي والميت ببرامج ومناهج ومشاريع ذات أمد قريب ومتوسط وبعيد.
(يتبع…)
اترك رد