التجديد الموضوعي في الشعر العربي النيجيري (شعر الوصف أنموذجا) … أبوبكر آدم مساما

الدكتور أبوبكر آدم مساما: قسم اللغة العربية – جامعة عثمان بن فودي، صكتو نيجيريا

مقدمة:
ظل الشعر العربي النيجيري على منواله التقليدي منذ أوليته حتى أوائل القرن العشرين الميلادي فإنه لم يتطوّر تطورا كبيرا يجعله مخالفاً عن الشعر فى القرن الماضي، غير أنه من الطبيعي أن يحدث التجديد فيه، وأن تضاف إليه بعض الأغراض الجديدة التى لم تطرق فى الماضي. لأن البيئة الجديدة تستلزم إضافة شئ ما من مظاهر التطور والتجديد إلى الشعر فى موضوعه وأسلوبه وصوره. والواقع أن الشعر فى كل أمة خاضع لتطور حياتها فى نواحي الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وهي التى تحدّد مجراه ومساربه واتجاهاته، وتفرض عليه ما شاءت من التغيرات، فينتقل من طور إلى طور، وتتجد موضوعاته وصوره وألفاظه وأساليبه، وتزوّده بمعان جديدة لم تكن موجودة، وتحدث فيه صياغة لم تكن مألوفة. ومن هذا المنطلق رأى الباحث أنه من الجدير أن يتناول بالتفصيل والتحليل ظاهرة التجديد التى طرأت على فن الوصف في شعر بعض شعراء نيجيريا خصوصا في القرن العشرين. وقد اشتملت الدراسة على ما يلي من العناصر:
مفهوم التّجديد المعجمي والاصطلاحي:
التجديد في اللغة:
“التّجديد” مصدر من جدّد يجدّد تجديدا. وقد تناولتها أيدى اللغويين أصحاب المعاجم محاولين إظهار معانيها اللغوية. منها: جدّد الشئ إذا صيّره جديدا، والتجديد ضدّ التعتيق. وقولهم: كساء مجدّد: فيه خطوط مختلفة. (الفيروزآبادي، مادة: جدد). وجدّد الشّبابَ أو النّشاطَ أو القوّةَ: أحياها. وجدّد: كرّر و أعاد. ( الجوهري، 1990م، مادة: جدد). والتّجديد: إنشاء شئ جديد، أو تبديل شئ قديم وينقسم إلى: مادي كتجديد الملبس والمسكن، ومعنوي كتجديد مناهج التّفكير وطرق التّعليم.( الفراهيدى، مادة: جدد) وأما عند الفقهاء فالتّجديد عبارة عن: إعادة الشئ بعد فترة ومنه تجديد الوضوء. (قلعجي، 1985م، مادة: جدد).
بالرّجوع إلى ما سبق ذكره من معانى مادة “التّجديد” يدرك القارئ جليّا أنّها اشتملت على معانٍ عديدة فى اللغة منها: تصيير الشّئ جديدا، وإنشاء شئ جديد، وتبديل شئ قديم، وإعادة شئ أو تكراره. وفى الجملة يمكن القول بأنّها تدلّ فى اللغة على: التّصيير والإنشاء والتّبديل والإعادة والتّكرير. وينقسم التجديد إلى قسمين: مادي كتجديد الملبس والمسكن، ومعنوي كتجديد مناهج التّفكير وطرق التّعليم. ويغلب على التّجديد أنْ يكون مذموما فى المجتمعات البدائية الشّديدة التّمسك بتقليدها، وأنْ يكون محمودا فى المجتمعات الصّناعية التى تقدّس روح الاختراع.
مفهوم التّجديد عند النّقاد:
من القضايا والظّواهر والمصطلحات والمفاهيم التى ظهرت فى الدراسات النّقدية الحديثة بصورة أخرى (التجديد)، فصارت قيد أنظار الدارسين العرب المحدثين، ومن الذين أسهموا فى تحديد مفهومه الدكتور عبد المحسن بدر فقد ذهب إلى أن التجديد في الأدب يعني أن يتغيّر الأدب ويتطوّر؛ ليصبح قادرًا على التلاؤم مع تغيّر العلاقات في مجتمع من المجتمعات، وأنّ المتغيرات الجديدة تفرض تغيّر الأدب بما يتلاءم معها.(عبد المحسن بدر وشركاؤه، 1979، ص: 147).
ويعني عند بعضهم: “التّغيير والتّطوير في المعروف من الأساليب والمناهج التي يسير عليها الأدب والفنّ والفكر في القوالب والمضامين، على ضوء ما تتطلّبه الحياة الاجتماعيّة من تفاعل ومتطلبات يقتضيها التقدّم العلمي والتطوُّر والاجتماعي الذي لا يقبل إلاّ ما يجري في عصره من مفاهيم.” (التّاجوري، م، 2007 ص: 177).
ومن النّقاد من قرّر: ” أنّ التجديد لا يعني تجاهل التراث الشعري والفكري للأمّة، والبدء من نقطة الصفر، بل التجديد الحقّ الذي يكون عن بصيرة ووعي هو الذي يعمد إلى هضم التراث، واكتشاف كلّ جوانبه المضيئة، ثم البدء بالتجديد من أبعد نقطة وصل إليها ذلك التراث، فالتراث مجالُ التجديد ومادته الأولى.” (نافع محمود، 1990، ص: 116)
وفى ضوء ما تقدّم من أقوال النّقاد والدارسين المحدثين حول مفهوم التجديد يمكن القول بأنّ (التجديد) عند النقاد يتمثَّل في إعادة النظر في الموروث، وبعثه من جديد بلغة شعرية جديدة تواكب ما جدَّ في العالم وتُماشيه، وأنّ للمجتمعات دورا كبيرا فى بناء حركات التجديد والنّهضة الأدبية، إذ ربطت أقوالهم مفهوم التجديد بالواقع الاجتماعي والظروف الاجتماعية التي يعيشها المجدّد، ورأوا أنّ أيّ تجديد يحدث في الأدب لا يمكنـه أن يقطع الصلة بالتطوّر والتجديد الحاصل في ميادين الحياة الاجتماعية، وينمو بمعزل عنهـا، بل أنّ التجديد الحقّ هو الذي يُعَضِّد علاقته بالمجتمعات ويحاكي تطوّراتها المستمرة في كل عصر، لا سيَّما أنّ الأساس الاجتماعى يربط بين العمل الفنّي وظروف الحياة القائمة، وفى خلال هذا الرّبط تظهر قيمة ذالك العمل.
صور من شعر الوصف النيجيري في القرن التاسع عشر:
المراد هنا الوصف الأدبى الذي يتناوله الطبيعة والإنسان، والآثار القائمة، والمنشآت الجميلة، والحوادث الكبيرة، وكل ما يعنى للإنسان تسجيله باللغة، يعتمد على الخيال وصدق التعبير. وليس الوصف موضوعا جديدا فى الشعر العربي النيجيري كما هو ظاهر لكل قارئ وباحث، بل إنه من الفنون التى تطرق إليها الشعراء في القرن التاسع عشر الميلادي ، وقد أورده الدكتور علي أبوبكر من الأبواب الشعرية التي طرقها الشعرا في تلك الفترة حيث قال معللا عن الشعر والشعراء في الفترة:
” وليس لنيجيريا – في القرن التاسع عشر – شعراء على هذا المفهوم، وإنما لها علماء، وهؤلاء العلماء هم الذين قاموا بدور الشعراء، لأنهم هم وحدهم الذين استطاعوا أن يجيدوا اللغة العربية، ويتذوقوا سحرها وبلاغتها، ويتخذوها أداة للتعبير عن مشاعرهم وينظموا الشعر كما نظمه شعراء العربية وأدباؤها. وبالرغم من أن هؤلاء العلماء قد استخدموا بحور الشعر العربي إلا أن الأبواب التي طرقوها لا تزيد على سبعة وهي: الثناء على الله، والمديح، والوصف، والرثاء، والوعظ والإرشاد، والحكم والأمثال، والفكاهة.” (علي أبوبكر، 2014م، ص: 369)
وأما عن النماذج لشعر الوصف من أشعار هؤلاء العلماء، فمنها: القصيدة البائية التي وصف بها الشيخ عثمان بن فودي حياتهم الاجتماعية في القرن التاسع عشر، حيث يقول الشاعر:
ولما مضى صحبي وضاعت مآربي * وخلفت في الأخلاف أهل الأكاذب
يقولون مـــــــــــــــــــا لا يفعلون وتابــــــــــــــعوا * هواهم وطاعوا الشحّ في كل واجب
وليس لهم علم ولا يســــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــألونه * وأعـــــــــــــــــــجب كلا رأيُه في المذاهــب
وقطّع أرحاما وأزرى مَ ــــــــــــــــــــــــــعارف ا * وآثر عن قـــــــــــــرباه جمع الأشائــــــب
وما همّهم أمر المســـــــــــــــــاجد بل ولا * مدارس علم بله أمر الكتــــــــــــــــــــــــــ ائب
وهمّتهم ملك البلاد وأهـــــــــــــــــــــــــــ ـلـــــــها * لتحصيل لذّات ونيل المـــــــــــــــــــــراتب
بعادات كفّار وأسماء ملكــــــــــــــــــــــــهم * وتولية الجهّال أعلى المـــــــــــــــــناصب
وجمع السراري والثياب الحســــــــــان * والجياد الجواري في القرى لا المُحارب
وأكل هدايا الجاه والفيء والرُّشــــــــــا * وعودٌ ومزمار وضرب الدّبـــــــــــــــــادب
وإن قرين السوء يُعدي قريـــــــــــــــــنـــــه * بما فيه إعداءَ الصَّحاح الأجـــــــــــارب
وقد طار قلبي للمدينة ثــــــــــــــــــــــــاويــ ـا * سنين بها شــــــــــــــــــــــــوقا وليس بـــــــــــآئب
صرفتُ عِنانِي عنهمو متوجـــــــــــها * إلى خير خلق الله معطي الرغائب
وكم ليلة بتنا بها نـــــــــــــــــــــــــابغي ـــــــــــــــــة * ولا نار إلا نارنا في السّــــــــــــــــــباسب
وسمـــــــــــــــــــــــــــ ـــــارنا جيراننا أقرباؤنـــــــــا * بَعوض وحيـــــــــــــــات وجمع العقارب
أوانســـــــــنا أقوامنا وجـــــــــــــــــــــعابنـــ ــــــــــــــا * رماح وأسياف رقاق المضـــــــــــــــارب
وإذا أمعنا النظر في هذه الأبيات نرى أن عبد الله قد نجح إلى حد كبير في تصوير الحالة الاجتماعية في أسلوب متين واضح جلي ولكنه لا يسعنا هنا أيضا إلا أن نقول أن تأثره بالمعلقات وعلى الأخص ببائية النابغة الذُّبياني واضح كالشمس في رابعة النهار، وهذه البائية هي:
كليلني لهمّ يا أميمة نــــــــــــــاصب * وليل أقاسيه بطيئ الكواكب
فكلتا القصيدتين بائيتان ومن بحر الطويل، وفضلا عن ذلك فهناك عشرة أبيات تنتهي بنفس الكلمات التي انتهت بها أبيات النابغة.( علي أبوبكر، 2014م، ص: 382 – 383).
وليس من شك أن الشاعر – في هذه القصيدة – تقليدي يقتفي أثر شعراء الجاهلية في أسلوبه. وبناءً على هذا يمكن القول بأنّ الشاعر من أنصار لغة الشعر القديم والعلّة فى ذلك أنّ الشعراء في نيجيريا علماء لم يعرفوا – فى تلك الفترة – عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ولا الأخطل ولا جريرا ولا الفرزدق ولا ذا الرّمة ولا الكميت بن زيد ولا الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولا رُؤْبة بن العجّاج روّاد التجديد فى عهد بني أمية، ولم يسمعوا عن أبي تمام والبختري والمتنبي، ولا عن أني نواس وأبي العتاهية وبشّار وأمثالهم من روّاد التطوّر والتجديد فى القرن الثاني الهجري، ولكن قرءوا لامرئ القيس والنّابغة وطرفة خصوصا زهير والحطيئة وغيرهما فى الجاهلية ممن أطلق عليهم اسم عبيد الشعر، كما عرفوا شيئا عن كعب بن زهير وحسّان بن ثابت وغيرهما من شعراء صدر الإسلام. ويرجع السبب في ذلك إلى أن دواوين أولئك لم تصلهم ودواوين هؤلاء وصلتهم. ( غلادنثي، 1982م، ص: 103).
صور من شعر الوصف النيجيري في القرن العشرين:
وإذا قارنّا بين عدد الشعراء الذين مارسوا فن الوصف في نيجيريا خلال القرن التاسع عشر، وبين عدد الذين قالوه في القرن العشرين نجد أن عدد الذين قالوه في القرن العشرين ليسوا أكثر فحسب ولكنهم أكثر تنوعا فيه، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى ما حدث في هذه البيئة الجديدة من ظواهر الحياة الاجتماعية الحديثة والحضارة والعمران.
ليس الوصف موضوعا جديدا فى الشعر العربي النيجيري كما هو ظاهر فيما سبق، غير أنه لم يكن موجودا بهذا المفهوم الدّقيق إلا فى القرن العشرين الميلادي، ولعل هذا هو السرّ في غض بصر غلادنثي عن تلك المقتطفات الوصفية الصادرة من علماء القرن التاسع عشر حيث يقول: ” أما فى القرن العشرين يمكن القول بأنّ لمحات التجديد بدأت تظهر فى الموضوعات، وبدأ الشعراء يتناولون موضوعات جديدة لَمْ تطرق من قبل، وذلك مثل الوصف. ( غلادنثي، 1982م، ص: 148).
لم يختلف الشاعر النيجيري – في القرن العشرين الميلادي – عن مسايرة الرّكب الفني فى بلاد العرب، بل أدلى دلوه بين الدلاء، فوجدناه منذ نهاية النصف الأول من القرن العشرين يصوّر لنا ما وقع عليه حسّه فى بيئته من ظواهر الحياة الاجتماعية الجديدة والحضارة والعمران، فقد تجدد فن الوصف في نيجيريا تبعا للتطوّر الحضاري والعمراني، كما سيظهر للقارئ فيما يلي:
وصف الفساد الاجتماعي:
ليس وصف الفساد الاجتماعي جديدا في الالشعر العربي النيجيري إذ تطرق إليه كبار الشعراء أمثال الأستاذ عبد الله بن فودي، ولن تجدد لتجدد المفاسد. أخذ المجتمع الإسلامي النيجيري يتّقد بتأثّره بحضارات مختلفة فى أواخر القرن العشرين الميلادي، وكان اندماج الجنوب بالشّمال بهذا الاسم “نيجيريا” نقطة جديدة لإغراق المجتمع الإسلامي فى الحضارة ومظاهرها المادية، وانغماسه أكثر في أساليب الحياة الأجنبية عنه، تلك الحياة التى كانت تحياها الشّعوب الجنوبية المغلوب على أمرها. فقد وقر فى نفوس كثير من المسلمين بعد اتصالهم بألوان الحضارة المختلفة أنّ الحرية معناها أنْ يفعل كلُّ امرئ ما يحبّ وما يشتهي دون أنْ يخشى ملاما أو رقيبا. فأصبح المال ميزان الرّجال، ولهذا توسل الناس إليه بشتّى الوسائل، وحتى الْأَزْيَاء فى هذه الفترة التى نَتَحدّث عنها كانت فى معظمها صورة من صور الحضارة الجديدة التى شاعت فى المجتمع، فقد نبذ كثير من الشّابة والشّبّان زيّهم القومي والإسلامي ذا الحشمة شيئا فشيئا، والذى يعتزّ به الشعب المسلم النيجيري داخل البلاد وخارجها قبل القرن العشرين، ولم يبق له أثر عند غالب الشّبان إلاّ فى البوادي وعند العامة فقط.
أما فى الحواضر فقد اتخذ الناس أزياء جديدة مختلفة ترجع فى أصولها إلى ملابس العدوّ المستعمر الإنجليز. فالمدن الإسلامية عامرة بالنساء الحسان اللائي تلقين دراسات خاصة فى فنّ معاملة الرجال ومحاولة إغرائهم واجتذاب قلوبهم وأموالهم، بل مناصبهم الحكومية. وليس من مبالغة إنْ قال الباحث إنّ جميع الحواضر الإسلامية النيجيرية بلا استثناء كان يوجد فيها جانب يحيا هذه الحياة. لأنّ تغيّر المجتمع الإسلامي النيجيري فى هذا القرن لم يكن تغيّرا إقليميا محليا، بل كان تغيّرا واسعا شاملا.
وفى عام 1984م شنت الحكومة العسكرية النيجيرية الفدرالية الحرب على تلك الرذائل والأخلاق الذّميمة المنتشرة بين الناس فى المجتمع تحت قيادة رئيس نيجيريا الأسبق جَنَرَلْ محمد البخاري، وقد شارك العلماء فى هذه الحملة إذ العلماء هم الأدباء فى نيجيريا، وقد تركت هذه الحياة الاجتماعية الحديثة الذّميمة أثرها السلبي فى نفوس الشعراء منهم، حتى إننا نجد شاعرا منهم كالأستاذ أحمد صابر يصف لنا هذه الحياة وصفا دقيقا فى قصيدته بعنوان: “الحرب ضدّ تقهقر الآداب” والتى يقول فيها:
جاء التطوّرُ والتقدّمُ والإبـا * حةُ والْبِغَاء وكثرةُ الألعاب
والملحدون أتوا بكلّ غَوايةٍ * ودَعَوْا إلى الفوضىَ بحرقِ حجاب
فتغلغلتْ أفكارُهم بحرارةٍ * فى منزلِ الحضريِ والأعراب
ووسائلُ الإعلامِ جمّتْ فى الورى * كلّ يثوب بنانُه بخراب
تلك الوسائلُ قد نَمَتْ وتضحمتْ * وتحكمتْ فى مشعرِ الأصحاب
إنّ الإذاعةَ والصحافةَ كانتا * فى كلّ منطقةٍ وكلّ مناب
كلتا هما تأتي بكلّ خديعةٍ * لتبثَّ فى إعلامِها الجذّاب
والتلفزَه والسّينماتُ كذلك * كلتا هما محشوّةٌ بتباب
قد جاءنا عصرُ الحضارةِ والخَنا * فغدتْ مساكنُ أهلِه كيباب
عصرُ التّحرّرِ وانطلاقِ المرأة * مع سعيِها لفكاكِ كلّ حجاب
عصرُ الخمور مع الحشيشةِ والعقا * قيرِ التى تُطغِي على الألباب
عصرٌ لماخورٍ يعجّ بمنكر * وشبابُه لا يَستَحِي كعقاب
عصرُ الدّعارةِ والتّفنّجِ للزّنا * حتى تشبّه أهلُه بكلاب
عصرٌ أباحَ الغربُ فيه بلا حيا * وَطْأَ الذّكورِ بدون أيّ عتاب
عصرُ الرّبا وفسادِ أصحابِ الثّرى * وكذلك استيعابِ كلّ رقاب
كانت رذائلُه أًخَىَّ كثيرةً * موجودةً فى مشهدٍ وغياب
وتَهافتتْ بنتُ الزّمانِ وراءه * ثمّ انبرتْ توّا بلا جلباب
عرضُ الأوانسِ كان زينَ زمانِنا * كالعارياتِ بغير أىِّ نقاب
زعم الذين يروّجون وجودَه * أنّ الجميلةَ تمبري كشهاب
الرّقْصُ أصبحَ مِنْ أهمّ وسائلِ الْ * تَرْفِيهِ عند شبابِنا المتصابي
لعبُ القمارِ فشا بغير تحفّظٍ * وكذلك الشّطرنجِ فى الأبواب
(أويس إبراهيم، 2012م، ص: 32).
وهكذا استرسل الشاعر إلى نهاية قصيدته يذكر للقارئ ما تميّز به هذا المجتمع الجديد من الأخلاق الذّميمة لا سيَّما فى نهاية النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، ولعل تلك الآثار الاجتماعية السّلبية التى أشار إليها الشاعر تطلعنا على التّحوّل الكبير الذى طرأ على شكل المجتمع الإسلامي النيجيري فى تلك الأيام، فهي تشير إشارة جليّة إلى بدء تحلّل المجتمع من ارتباطه بالدّين والحياة الإسلامية التى أخذ بها نفسه فى عهد كَانَمْ بَرْنُو و دولة بني فُودِي.
وبطبيعة الحال لا يمكننا أنْ نقول إنّ هذه الصّورة التى رسمها الشاعر تمثّل تماما طبقات المجتمع المسلم النيجيري بجميع أفرادها فى هذا العصر، ولكنّها على أيّة حال تعطينا فكرة واضحة عن تيّار وجد فى هذا المجتمع، ولعلّه أثّر فى أغلبية أفراده على تفاوت هذا التّأثير بينهم. وهذا لا ينافي وجود فئة جادّة مقيمة على دينها وقيمه، ومحافظة على تقاليدها الحسونة حتى مع هذا التغيّر الاجتماعي، كما نشاهد ذلك عند بعض المنظمات الإسلامية القائمة على الدّعوة والإرشاد بين الناس فى هذا المجتمع.
ولم يكن تأثير الحضارة الاجتماعية الحديثة من هذه السبيل شرّا كلّه كما قد يتبادر إلى الأزهان، بل كان فيه بعض الخير للمجتمع الإسلامي فى العصر، كتعمير المدارس والمساجد وتنميتها، وكذلك عمّت البلدان ظواهر الحضارة والعمران من الطّرق والشوارع والجسور والمسارح والمركبات البخارية المستحدثة والحركات التّجارية والأسواق الحديثة الجديدة والمصابيح الكربائية النيّرة. فظهر أثر ذلك كلّه فى شعر هذه الفترة خصوصا فنّ الوصف منه.
وتظهر سمات التجديد في القصيدة في محاربة التقليد، إذ الشاعر أحمد صابر من الشعراء النيجيريين المجدّدين الذين يحرصون على أن تكون لغة شعرهم هى لغة الحياة اليومية نفسها، أو على الأقلّ أن تكون قريبة منها، فإنه عدل عن الأسلوب التقليدي في قصيدته، إلى أسلوب سهل مناسب للغة الحياة اليومية في رقة الألفاظ وبساطة التعبير وسهولته.
وقد رأينا فيما سبق كيف كانت لغة شعر الوصف النيجيري فى القرن التاسع عشر الميلادي لدى الشيخ عبد الله بن فودي، فإنّها امتداد للغة الشعر الجاهلي، حيث تعتمد على ألفاظ جزلة غريبة، لم تتغيّر إلاّ تغيّرا طفيفا جزئيا اقتضته طبيعة التغيّر الذى حدث فى العقيدة.
وصف المدن والبلدان:
يعتبر الشاعر عمر إبراهيم من أشهر شعراء الوصف فى هذا القرن، وهو وصّاف لدرجة أنّه إذا قرأتَ شعره الوصفي تظهر لك أوصاف الموصوف كأنّك تراها، فتشاركه فى ما يحسّه ويشعر به نحو الموصوف. ومن شعره فى هذا الفنّ قصيدته الميمية فى وصف مدينة كَنُو والتى يقول فيها:
أيا باريسَ حَوْسَا عليكِ السلام * سلامٌ مِنَ العاشقِ المستهام
أَرْجىَ التحيّاتِ شـوقا إلى * جميلِ صفاتِك بالإكـرام
معالمُـك الفـردُ لامـعةً * تكادُ تفوقُ النّجومَ الظلام
ومِنْ بينها المسجدُ الفاخـرُ * كجامعِ دلهي جمالَ النظام
ومأذنةٌ طـاولتْ إذْ بـدتْ * نواطحُ نِيُوركْ بقربِ الإمام
ومكتبُها قـد حَكىَ البَرْلَمـا * نِ القاهرِي لِحُسْنِ التّمـام
ترى الطـائراتِ تـعاودُهـا * أتَتْ مِنْ أوربّا ومصرَ وشام
وصارتْ كنحلٍ أتَتْ بعسـل * خليّتها أو كذا والغمــام
لها ارتبـاطٌ بـأمّ الـقرى * بجلّ السماءِ لزور المقـام
كَنُو جمعتْ عَلَمَ شرقٍ وغرب * ففازتْ بسهمين بين السّهام
أبارسَ حَوْسَا وعاصمـةَ الْ * الشّمال عليكِ دوامُ السلام
(كبير آدم تدن نفاوا، 2011م، ص: 72-73)
بإمعان النّظر إلى الأبيات السّابقة ندرك جليّا أنّ الشاعر قد صوّر لنا أهمّ مشاهد المدينة التى يشتاق إليها الزائر من المساجد والقاعات البرلمانية والمطار العالمي، وما اشتملت عليه المدينة من ظواهر الحضارة والعمران، حتى شبّهها بالمدن الأروبية النّامية كالبارس ونيويورك. بل جمعت مدينة كَنُو بين الحضارتين الغربية والشّرقية، إذ صارت هدفا للزّوار والتّجّار من بلاد الغرب والشّرق، وذلك لمكانتها التّجارية بين مدن نيجيريا.
وعند ما أراد الشاعر وصف حركاتها التّجاريّة العالميّة وصلتَها بالمدن والبلاد من مشارق الأرض ومغاربها أعمل دقائق فكره واصفا للطائرات المتحلقة فى سمائها، المترددة بينها وبين تلك البلاد، وما تأتي به من متاع ومتاجر، فكأنّها جماعة النحل فى الكثرة، وأما ما تحمله تلك الطائرات فقد شبّهه الشاعر بالعسل فى النفع.

وصف المدارس والمساجد الخاصّة:
نجد الشاعر آدم غُمْبِي يصف مدرسة العلوم العربية بكَنُو ذاكرا ما فيها من زخارف خصوصا أزهارها المتفتحة كأنّها تتسم بثغرها لترحبّ بزائرها:
وتلك مدرسةٌ تلفُّ غصونُها * فوقَ العبادِ وربُّها أسقاها
وترى الخمائلَ فى الجداولِ زهرةً * فتحتْ ترحّبُ زائرا بفناها
وترى الحدائقَ أسدلتْ بغصونِها * كَلِبَاسِ فخرٍ زُيِّنَتْ مرآها
وأما مسجد المدرسة فقد وصفه قائلا:
مهدُ العبادةِ فيكِ أحسنُ مسجد * فيه القلوبُ تَعِزُّ مِنْ تقواها
فيه الزّخارفُ تَصطفيكَ بمنظرٍ * تُنْسِيكَ ذكرَ حليلةٍ تهواها
ويظلُّ قلبُك يطمئنُّ بذكره * ناهيكَ حسنَ قبّةٍ وطلاها
وعَنَى على تصميمِها ببصيرةٍ * بانٍ أتمَّ بنائَها وزهاها
(تكر محمد إنوا، 2009م، ص: 24).
هذا دأب الأدباء فى كلّ عصر ومكان، كان أكبر همّهم فى الحضارة الزخارف والرونق، لا سيَّما أنّ هذه الحضارة التى نتحدّث عنها قريبة عهد بالمجتمع، فلا غرابة أنْ يتعجب بها الشّعراء وأنْ يبادروا فى إظهار عواطفهم حولها. فجاء وصفهم فى صورة جديدة تبعا للحضارة الحديثة التى يتمتّع بها المجتمع، لا سيَّما جمال الشّكل وجلاء الطّبيعة وحسن التّنسيق وزخرف الحضارة ورونقها كما هو ظاهر فى أبيات الشاعر حيث مال فى وصفه إلى ما فى المسجد من زخارف دون بنائه وحتى القبّة التى تعرّض عليها فإنّما أعجبه طلائها الجذّاب. وهكذا استمرّ الشاعر يصف هذه المدرسة ومسجدها وما فيهما من الزينة والزّخارف ما ينسي العاشق عاشقته.
وصف الطائرات:
كانت الطائرات من مظاهر الحضارة والتقدّم فى هذا العصر الحديث، وتعتبر نيجيريا من أوائل دول الأفارقة الفائزة بنصيب منها. وقد بهرت عقول الشّعراء من أوّل وهلة رأوها، مِنْ أجل ذلك تسابقوا إلى إبداء عواطفهم نحوها، فوصفوها وصفا دقيقا حسب الميول. ومن أوائل شعراء نيجيريا تطرّقا لهذا الشّعر الوزير جنيد، فاستمع إليه يصفها قائلا:
خرجنا بعونِ اللهِ فى غَلَسٍ إلى ال * مطارِ وكُنّا كالطّيورِ البواكر
فطارتْ بِنا مِنْ يَرْوَ ولاّجةُ الهَوى * تدافعُ أمواجَ الهَوى فى الهواجر
تخوضُ عُبَابَ الجوّ عند ارتفاعِها * وتملؤُه مِنْ صوتِها بالزّواجر
مُجَوَّفةٌ فيها كراسيُ صُفّفتْ * مُليّنةٌ بالْخَيْشِ بـــرّا لزائر
ونفعلُ فيها كلَّ شئٍ نريدُه * كأَكْلٍ سوى تَدْخِينِنَا بالسجائر
(جنيد الوزير: ص: 24).
وله قصيدة أخرى يصف الطائرة من أبياتها:
يَامَنْ يُصَعِّدُ أنفاسا بأنفاس * شوقا بخرطوم ذاتِ الْوَرْدِ والآس
اصبر قليلا فإنّا سوف تحملُنا * رعّــادةٌ فى الْهوى ملمومةُ الرأس
صعّادةٌ تتبارَى فى تجوّلِها * شُهْبَ السّماءِ التى تَرْمِي بأقباس
طيّارةٌ صوتُها عالٍ مجوّفةٌ * زَمَكُّها كذوابي الشّاهقِ الرأس
أنّانَةٌ فى نزولٍ عندَ مَا بلغتْ * إلى المَحَطّةِ تمشي مَشيَ مَيّاس
مملوءةٌ بكراسيٍّ مُليّنةٍ * بالْخَيْشِ تُلْبَسُ ترويجا لجلاّس
تنقادُ طائعةً فى كَفِّ سائقها * كَدَابّة ذُلّلتْ فى كفِّ سوّاس
فاعجبْ لَهَا إنّها عَنْقَاءُ مغبرةٌ * جاءتْ تُذَكِّرُ عبَّاسَ بْنِ فرناس
بَيْنَ الجناحينِ منها نِيطَ مِرْوحةٌ * تدورُ مِنْ حولِها مِنْ غيرِ إنكاس
تعطِي الدُّخانَ وتَنْهَى عَنْ تَعَامُلِنَا * بِهِ عليها وهذا خُلْفُ مقياس
(جنيد الوزير: ص: 25).
يتجلّى للقارئ المتتبّع للأبيات السّابقة أنّ هذا الوصف جديد مبتكر استمدّ باكورته من صورة الموصوف، إذ أنّ هذه الصّورة التى رسمها الشاعر للطّائرة صورة جديدة فى هذه البيئة لم يشاهدها الشعراء قبل القرن العشرين الميلادي فى هذه البلاد. فوصفها الشاعر بأوصاف دقيقة جذّابة رائعة، تجعل القارئ أنْ يشارك الأديب فى ما لاحظه من تلك الأوصاف كأنّه هو نفسه رآها بعيني رأسه. وقد أبلى الشاعر بلاء حسنا فى إبداع هذه الصّورة الرّائعة، ولعلّ حدا به إلى هذا المنهج ما فى قرارة نفسه من فرح وسرور وما غمره من ابتهاج حين تحمله الطّائرة إلى الخرطوم بلد يشتاق إليه الأديب غاية الاشتياق، دلالة على أنّ للعاطفة دورا مهمّا فى إبداع الشعر.
ولمّا كانت عاطفة أبى بكر محمود جُومِي حين تحمله الطائرة إلى السودان عاطفة حزينة حيث يتشائم بسفره إذْ أنّه يفارق وطنه وأهله، فإنّ أبياته وردت فى وصف الطائرة خلافا للأبيات السّابقة حيث وصفها قائلا:
وكُنّا وما نَدْري الفراقَ ولوعَه * وما مسَّنا ضُرٌّ نَطوفُ ونغرق
سَبَتْنِي وطارتْ بِي تُفَرِّقُ بَيْنَنَا * على حسدٍ طيَّارةٌ تَـتَـشَقْشَق
مَطيَّةُ إبليسَ اللّعينِ وأهـلِـه * ومختظر أهل السلام إذ تتحلق
تَطيرُ وتَمشِي فى الْهَوَى ناءٍ بأرضِها * وفيها نجومُ النَّارِ تَذْكُو وتَحرق
وما راكـبٌ إلاّ يُشَدُّ بِحَبْلِها * لكيلا يفوتَ الخطرَ إذْ تَتَفَسَّق
فجالتْ على الْآفاقِ تَحْملُ جُثَّتي * وما الرُّوحُ إلاّ حائرٌ ليس ينطق
ولَمَّا رَأَتْ ألاّ مَحَلَّ يَسُـدُّنِي * لِمَا اشتهرتْ مِنِّي الْعُلاَ والتّفوّق
تَدَلَّتْ على الصّحراءِ مِنْ سُوءِ كيدِها * رَمَتْنِي إلى بَخْتِ الرّضا أَتَشَهَّق
(محمد آدم، 2012، ص: 128 – 129)
وصف الشاعر الطائرة في هذه الأبيات بأنّها مطيّة إبليس أى آلة للشرّ إذْ أنّها تسبي الأحرار، وتفرّق بينهم وبين أوطانهم وأهليهم لا لشئ إلا للحسد والحقد والغيظ، وأسؤ من هذا كلّه أنّ فيها نارا تذكو وتحرق من دنى إليها، ويرى أنّ ربط الحزام عند إقلائها أو هبوطها إنّما هو كيد منها لكيلا ينجي مَن فيها مِن خطرها إذا حدثت الحادثة. بل بلغ تشائم الشاعر بأمر الطائرة إلى حدّ أنْ وصف نفسه فيها بالميّت لا روح فيه، وكأنّه جثّة حيث طار روحه وحار من شدّة روعته وخوفه من مكر الطائرة سوء صنيعها.
ولمّا وصف الوزير جنيد الطائرة – فيما سبق – بأنّها فى حال نزولها تمشي مشية المتبختر وفيها كراسي مليّنة، وأنّها تنقاد فى كنف سائقها، فإنّها فى وجهة نظر أبي بكر جُومِي خلاف ذلك بل الذى وجد نفسه فيها حسب رأي جُومِي لا يعدّ نفسه من الناجين حتى إذا رَمَتْ به الطائرة سالما، فإذًا تجده يتشهّق تشهّق الناجح من الهلاك. ولعلّ حدا بالشاعر إلى هذه الفكرة تجاربه مع الحياة، إذْ من المعروف لدى الجميع أنّ كلّ من طارت به الطّائرة فلا يكون مطمئنّ البال وكذالك أهله وجيرانه إلاّ بعد نزوله منها سالما غانما وهذه هي الحقيقة التى لا ريب فيها.
وصف الجسور والشّوارع:
ومن التطوّر الملموس تَطرّق بعض الشّعراء لوصف الجسور والشّوارع أثناء رحلتهم إلى الأماكن البعيدة فى نيجيريا، من ذلك قول الإمام محمد بَوْشِي عن جسر جَبَا:
سفرٌ قادَ النّجيبَ إليه * سفرُ الازديادِ في الآراء
ورأينا عجائبَ نَفَعَتْنَا * رُؤيةَ الاعتبارِ والاعتناء
أَعْجَبَنِي بناءُ قَنْطَرَةٍ فى * جَبَا لله حسنُه مِنْ بناء
وقال عن ملعب فى لاَغُوسْ:
وحَضَرْنَا ملْعبًا فَرَأَيْنَا * لَعِبًا فيه نُزْهَةُ الأقوياء
غِلْمَةٌ رَوْقَةُ الْمَنَاظِرِ كالأقمار * فى الْحُسْنِ فتية نجباء
وقال عن كثرة السكّان والحركة التّجاريّة فى إِبَادَنْ:
كثرةُ الْخَلْقِ فى إِبَادَنْ مع الصَّنْـ * عَةِ فيهم رجالُهُم ونساء
(تكر محمد إنوا، 2009م، ص: 7).
نلاحظ أنّ الشاعر فى هذه الأبيات يهدف إلى إلى تصوير عجائب ما رآه وشاهده أثناء سفره مع أمير إِمَارة بَوْشِي إلى لاَغُوسْ. ومن أهمّ ما أعجب الشاعرَ الجسرُ الممدود على نهر جَبَا، وكثرةُ السكّان فى مدينة إِبَادَنْ مع ما شاهده الشاعر فى المدينة من متاجر ومصانع ونشاطات تجاريّة بين الرجال والنساء سواء، وفى لاَغُوسْ أعجب الشاعر ملعبُها الفاخرُ حيث رأى الفتيان الأقوياء فى مظهر رائع كأنّهم أقمار فى البهجة والضياء. ولا غروا فى تعجّب الشاعر بهذه الظواهر، إذْ أنّها جديدة لديه غير مألوفة حيث كان بعيدا عنها. لا سيَّما أنّه إمام من كبار الأئمة فى شمال نيجيريا، ومِنْ عادة الأئمة فى تلك الأيام لزوم حدود بيوتهم ومساجدهم إلاّ لضرورة شرعية. ولعلّ هذا السفر هو أوّل سفر قام به الشاعر من نوعه.
وأمّا الشاعر علي بن سعيد فإنّه قام برحلة تاريخية إلى مدينة مِنَا عاصمة ولاية نَيجَا فى شمال نيجيريا، فوصف للقارئ ما شاهده فى السّفر إلاّ أنّه مال إلى ما يستهجنه من سوء الطّريق وخطورته كما هو ظاهر فى قوله:
وبعدُ لمّا كان أمرُ السّفر * يُرى الأعاجيبُ ممَرّ الدهر
كتبتُ ما رأيتُ فى رحلتي * لِأرضِ نَيْجَا مَذْهَبِي ورجعتي
خرجتُ مِنْ بَوشِي بيومِ الأحد * خامسِ شَعْبانَ بطينِ الجدّ
إنّ طريقَ جُوسْ إلى أَبُوجَا * تَجده مُحْدَوْدِبًا مُعْوَجّا
فاعوجاجُه فلا يُعـــــدُّ * وعقبـــاتُه فلا يحدّ
(تكر محمد إنوا، 2009م، ص: 7).
دلّت الأبيات السّابقة على تجارب الشّاعر مع السّفر خصوصا بين مدينة جُوسْ وأَبُوجَا، حيث تكابد الشّاعر بعض المشقّات أثناء سفره لسوء الطّريق وخطورته فى تلك الأيام. وهذا من الطّبيعي أنْ ينتقد الأديب ما يستهجنه من الظّواهر، كما يستحسنها إذا أعجبته.
وصف المصابيح الكهربائية:
ومن الظّواهر الحضاريّة الحديثة الرّائعة والتى تجذب الإنتباه المصابيح الكهرابائية، إذْ أنّها تشبه الأزهار والنّجوم فى الرّونق والتّضئضئ. وقد تَطرّق الشعراء إلى وصفها وصفا دقيقا مثيرا، مِنْ ذلك قول الوزير جنيد عنها عند نزوله فى الخرطوم:
وعندَ غروبِ الشّمسِ تمَّ نزولُنا * فأقبلَ ليلٌ مسدَلٌ بالدياجر
فلاحتْ لآلـي الكهرباءِ كأنّها * نجومٌ بدتْ أو كالبُدورِ السّوافر
ووصفها أيضا وهو فى كُولَنْدَ قائلا:
بِهِ ألفُ مصباحٍ تُضيئُ كأنّها * وجوهٌ حِسانٌ فى معالي المنابر
(جنيد الوزير: ص: 20).
ولا يخلو هذا الوصف مِنْ المتعة الفنيّة التى تثير فى السّامع عواطف ومشاعر تجعله مشاركا للشعراء فيما يحسونه نحو الموصوف.
وصف المعتقلات:
ومن أشهر شعراء الوصف فى هذا القرن عيسى أَلَبِي أبو بكر والذى حدته عاطفته إلى وصف بعض الظّواهر على مستوى العالمي، فتطلّع إلى القضايا العالمية الحسّاسية الجديدة فى تاريخ العالم الحديث والتى استفاض حديثها فى الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام. من ذلك قوله فى وصف غُونْتَنَامُو:
قيّدونَا فى السِّجنِ مَثَلُ القرود * ونَسُونَا نَئِنُّ تحتَ الحديد
إنّ غُونْتَنَامُو لَشَرّ المكان * لِصُنوفِ التّعذيب والتّنكيد
ليس فيه النّشاطُ إلاّ ركود * مَثْلُ أجحار دابة فى الجليد
ليس فيه سِوى ظلامٍ كثيفٍ * يَفْقدُ الفأرُ حسَّه للقديد
لا حياةَ لا موتةَ لا قضاءَ * لا سراح يُزِيلُ ثِقَلَ القيود
أيّها النّاسُ إنّ كُوبَا قومٌ * سُجناءُ الهمومِ والتّسهيد
فسألوا بُوشْ أنْ يُخَفّف عنهم * خفّف اللهُ عنه عِبْءَ اليهود
(عيسى ألبي، 2008م، ص: 73)
غُونْتَنَامُو معتقل خاصّ بجزيرة فى أرض كُوبَا، والهدف الأساسي من إنشائه تسجين أسارى الحرب وإسكان اللاجئين الذين كانو يتسللون من كُوبَا وهَايِتِي إلى الولايات المتحدة طلبا للمأوى. ثمّ إنّ أَمْرِيْكَا فى هذه الأيام أعدت فيه صنوفا من العذاب للتنكيل بمن تتّهم زورا وبهتانا بالإرهاب من المسلمين خصوصا الطالبان وتنظيم القاعدة.
اشتملت الأبيات السّابقة على وصف صنوف العذاب فى هذا المعتقل، وصرّح الشاعر بذكر “السّجن” للدلالة على مدار القصيدة وموضوعها. فوصف حال السّجناء بالضّيق قائلا: ” مثل أجحار دابة فى الجليد” فشبّه المعتقل بالجُحْرِ بجامع الضّيق فى كلّ. ولمّا أراد وصف الظّلام فى المعتقل لجأ إلى تعيين مقداره إذْ أنّ الظّلام معرفة الصفة، وقال: ” يفقد الفأر حسّه للقديد” تأمّل هذا الوصف الدّقيق إذ ممّا أثبته التّجربة أنّ الفأر لترى فى الظّلام العادي مثل ما ترى فى ضوء النّهار، وأمّا ظلام هذا المعتقل فقد جاوز هذا الحدّ إلى حدّ يضلّ فيه الفأر عن طعامه.
وأما بالنسبة لشدّة العذاب فيه فقد وصفه الشاعر قائلا: ” لا حياة ولا موتة “. وهى الغاية فى العذاب، ولعلّه اقتبس هذه الفكرة من القرآن الكريم حين يصف الله جلّ جلاله أشدّ عذابه على الأشقياء الذين يبتعدون عن الذكرى فى قوله تعالى:” وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى.” (سورة الأعلى، 11 – 13)
وليس من شكّ أنّ وراء هذا الوصف هدف يهدفه الشاعر ولعلّه يقصد به إثارة المشاعر الإنسانية ولفت أنظار المجتمع الدولي، وتنبيه الأمة الإسلامية على حال إخوانهم فى معتقلات أمريكا.

الخاتمة:
قد أقبل الباحث على كتابة هذا المقال راجيا التعرّف على مدى تأثير الحياة الاجتماعية الجديدة في تطوّر موضوعات الشعر العربي النيجيري لا سيما فن الوصف منها، فعرض بعض النماذج فى هذه الظاهرة مناقشا ومحلّلا، وأكبر الظنّ أنّ فيما قدّمه من هذا كله ما يدلّ أوضح الدلالة على أنّ فن الوصف قد تجدد لدى شعراء نيجيريا فى القرن العشرين الميلادي، فيما يلي خلاصة الدراسة التى تمثلت فى النتائج الآتية:
1 – أنّ التجديد لا يعني تجاهل التراث الشعري والفكري للأمّة، والبدء من نقطة الصفر، بل التجديد الحقّ الذي يكون عن بصيرة ووعي هو الذي يعمد إلى هضم التراث، واكتشاف كلّ جوانبه المضيئة، ثم البدء بالتجديد من أبعد نقطة وصل إليها ذلك التراث.
2 – وإذا قارنّا بين عدد الشعراء الذين مارسوا فن الوصف في نيجيريا خلال القرن التاسع عشر، وبين عدد الذين قالوه في القرن العشرين نجد أن عدد الذين قالوه في القرن العشرين ليسوا أكثر فحسب ولكنهم أكثر تنوعا فيه.
3 – وأن حركة التجديد في الوصف لدى شعراء نيجيريا في القرن العشرين خاضعة للواقع الاجتماعي والظروف الاجتماعية التي يعيشها الشعراء.
4 – وقد تطوّر الوصف فى القرن العشرين الميلادي إلى حدّ أن وصف لنا الشعراء كلّ ما مرّت به تجربتهم مع هذه الحياة الاجتماعية الجديدة، لاسيَّما ظواهر الحضارة الحديثة والتمدن والعمران. من ذلك: وصف المدن والبلدان، وصف الطائرات، وصف الجسور والشوارع، وصف المصابيح الكهربائية، وصف المعتقلات.
5 – وأما من جانب الشكل فقد تطوّرت قصائد الوصف في القرن العشرين إلى حدّ أن هجر أصحابها التقليد المفرط في أساليبهم، فصارت لغتهم الشعرية لغة سهلة على ضوء ما تتطلبه الحياة الاجتماعية الجديدة.

قائمة المصادر والمراجع:
– القرآن الكريم.
– أويس إبراهيم، ديوان المرحوم أحمد صابر محمد: جمع وتحقيق، الطبعة الأولى، ديسمبر، 2012م Daylight Printing Press Sokoto
– تكر محمد إنوا، ظواهر الحضارة والعمران فى شعر بَوْتِشِي الأدبي فى القرن العشرين الميلادي: دراسة تحليلية فنية، ورقة مقدّمت إلى ندوة الدراسات العليا جامعة عثمان بن فودي صكتو، نيجيريا. 2009 م
– جنيد الوزير ديوانه، مخطوط. للباحث نسخة منه.
– الجوهري إسماعيل بن حماد، الصحاح؛ تاج اللغة وصحاح العربية، دارالعلم للملايين – بيروت، الطبعة الرابعة 1990م.
– عبد المحسن بدر وشركاؤه، حركاة التّجديد فى الأدب العربي، دار الثقافة، القاهرة مصر، 1979م .
– علي أبوبكر الدكتور، الثقافة العربية في نيجيرا من 1750 إلى 1960، دار الأمة لوكالة المطبوعات كانو، نيجيريا. الطبعة الثانية، 2014م.
– عيسى ألبي أبوبكر، ديوانه: السباعيات، المركز النيجيرى للبحوث العربية، إِيْوُوْ – ولاية أُوْشُنْ نيجيريا، 2008م.
– غلادنثى أحمد سعيد، حركـة اللغة العربية وآدابهـا في نيجيريا، دار المعارف مصر، 1982م.
– الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، مصدر الكتاب: المكتبة الشاملة. القسم: المعاجم (اللغوية والحديثية والفقهية).
– الفراهيدى، كتاب العين، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال بدون تاريخ، مادة: (جدد).
– كبير آدم تدن نفاوا، المدخل إل الأدب العربي النيجيري في القرن العشرين الميلادي، دار الأمة، الطبعة الثانية، 2011م – 1432هـ.
– محمد آدم الدكتور، النقد الأدبي فى نيجيريا: دراسة تطبيقية، الطبعة الأولى يناير، 2012م Millennium Printing Technology Sokoto
– التاجوري، محمّد التركي، حول ملامح التجديد وخُطُواته في الأدب العربي ونقده، الطبعة الأولى، منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، 2007م .
– قلعجي محمد، معجم لغة الفقهاء، دار النفائس للطبلغة والنشر والتوزيع شارع فردان، بناية الصباح وصفي الدين بيروت لبنان الطبعة الاولى: 1405ه/1985 م مادة: (جدد).
– نافع محمود الدكتور، اتّجاهات الشعر الأندلسي إلى نهاية القرن الثالث الهجري، الطبعة الأولى دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990م.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ T Z R
    T Z R

    شكرا للدكتور على هذه الافادة المرموقة حول التجديد الموضوعي في الشعر العربي النيجيري وهنا ك مؤتمر حول حركة التعليم والعلماء في نيجيريا الحديثة أفيم في جامعة بايروا في شهر إبريل 2017م .

  2. الصورة الرمزية لـ T Z R
    T Z R

    شكرا للدكتور على هذه الافادة المرموقة حول التجديد الموضوعي في الشعر العربي النيجيري وهنا ك مؤتمر حول حركة التعليم والعلماء في نيجيريا الحديثة أفيم في جامعة بايروا في شهر إبريل 2017م .

اترك رد