وهم الديمقراطية ومداخل الحرية في المغرب

بقلم: مبارك الموساوي – كاتب وباحث

إن الناظر بإزاء ما يعيشه المغرب من أحداث وتطورات سياسية ومجتمعية لا يملك إلا أن يسلم بالقول الدال على أن هذا البلد يعيش ممارسة ديمقراطية، أو على الأقل، إنه على سكة تكريس واقع ديمقراطي. ومن ثم فإن الصواب يكمن في الحفاظ على أصول هذا الواقع السياسية والمجتمعية والثقافية والفكرية والتربوية التعليمية.

فمعضلة التفكير السياسي في بلادنا تكاد تجمل في كون أصول بنائها وعملها صنيعة وضع سياسي واجتماعي يراد له “الدوام” المتجدد بما يعطيه زخما يسمح له بتجديد موقعه ضمن حركة المجتمع.

ألم تستطع الدولة/النظام أن تروض معارضي القرن العشرين وتلوي عنق أعتى أحزاب التغيير، وتذهب بكبار المثقفين والأكاديميين، على العموم، إلى الانخراط، ولو جزئيا، في مشروعها الكبير الواضح العبارة والمضموم: “المشروع الديمقراطي الحداثي” الذي أبدعه المخزن وقاد عملية تنزيله معلنا بوضوح أن الخيار الكلي هو الانخراط في المنظومة الدولية جملة وتفصيلا مع الحرب الشاملة على المعارضة الجديدة، إن لم تروض هي الأخرى وتسلم للأمر والواقع وتصبح لونا من ألوان المشروع تعبيرا عن التجربة الرائدة في العالم، من وجهة نظر أسياد الوقت، في كيفية ومضمون عملية الانخراط في المنظومة الدولية.

إننا إزاء موقف دقيق للبحث عن مسالك الحرية وبناء الفكر الحر القادر على نقد جذري لواقع متشابك ومعقد إلى حد إرباك التصورات والفهوم والسلوكات.

هل نسلم بالأمر الواقع فنبني نظرنا الكلي لوجودنا ومصيرنا ومستقبلنا من بين ركام أحداث التاريخ وتشوهات الواقع، أم نشمر على ساعد الجد والبحث للنظر إلى واقعنا ونؤسس لبناء مستقبلنا على قواعد التفكير الحر المتحرر من قبضة هذا الواقع، لكنه منغرس فيه ومحيط بتفاصيله وتشابكاته وعلاقاته والعوامل الرئيسة فيه وما يتفرع عنها من أسباب ومسببات بالفتح؟

إن السطور التالية تحاول، إن شاء الله تعالى، أن تفكك وتحلل ثم تركب على منوال جديد ينتقد لكنه يعرض. ينتقد من خلال إعمال أصول منهاجية كلية جديدة لقراءة الجزئية الواقعية، وفي نفس الوقت يذهب إلى الاجتهاد في عرض صورة بنائية تسعى للمساهمة في رسم طريق الخروج من نفق التأزم الذي لم يصنع إلا فكر الأزمة وأزمة الفكر، فصرنا في فراغ ليس بعده إلا الطوفان.

ألم ينادي الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين منذ أكثر من ثلاثة عقود بصوت عال، لم يعرف حقيقته يومها أحد من العاملين إلا القليل النادر الذي لا حكم له؛ نادى: “إنه الإسلام أو الطوفان”، وهو صاحب مدرسة جديدة كلية في التغيير: تغيير الإنسان والمجتمع، وبناء الإنسان والدولة والأمة والعمران؟

أولا: نقد أصول الخطاب السياسي في المغرب

1. أصول الخطاب السياسي في المغرب

يعتبر البحث في أصول الخطاب السياسي مدخلا مهما لإبراز بنيته الداخلية في كل أبعادها.

وفيما يخص الخطاب السياسي في المغرب يمكن اعتبار ثلاثة مصادر أساسية في تحديد أصوله، سواء من الناحية المفاهيمية أو العملية.

الأول: تراكم تجربة الدولة في المغرب خلال اثني عشر قرنا من الزمن، التي تميزت بكثير من الخصوصيات مع اعتبار اندماجها في تجربة المدرسة الغربية في لحظة تاريخية ميزها الاستعمار المباشر وما ترتب عليه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ومعرفيا، مما سمح للدولة بأن تصنع نخبة موالية لها تلعب دور الوسيط بينها وبين الأمة في كل الميادين والقطاعات، بالإضافة إلى الموقع الذي أصبحت تحتله الدولة في حركة المجتمع المغربي عموما، والذي خولها السيطرة المطلقة والتأثير الكامل في بناء المؤسسات المجتمعية، وحتى السياسية(1)، بل في بناء الأفهام.

وهذا المصدر هو الذي يشكل أصل النظام السياسي في المغرب كما زوده بتماسك ووضوح كافيين في مواجهة منافسيه وخصومه.

الثاني: التجربة الغربية التي التحمت بها تجربة الدولة في المغرب في لحظة ضعف هذه الأخيرة، مما فرض عليها اعتماد المرجعية الغربية في اختياراتها الكبرى في تدبير المراحل المقبلة نظرا لعدم تطور الوسائل السياسية والاقتصادية والإدارية داخل دولة جامدة، كما كانت هذه التجربة مصدرا كليا لدى ما سمي باليسار بكل تنظيماته وتياراته، وقد أضيفت إليه الأحزاب التي تشكلت بناء على مفاهيم أفرزتها التطورات الحاصلة في الواقع الغربي، والتي أصبحت تأخذ الصفة العالمية بحكم الواقع الهيمني للغرب، وبحكم الحقيقة التواصلية التي تميز العلاقات الدولية اليوم، سواء بين الدول أو بين المؤسسات أو بين الأفراد أو الشعوب. (حزب القوات المواطنة، الحزب الليبرالي المغربي …..). وقد بنت هذه الأحزاب وجودها الفعلي على ما تعتبره فراغا وعجزا حصلا بسب فشل التنظيمات السابقة لها في صناعة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يمكن من التنمية والتقدم.

وما يلاحظ على خطاب هذه الأحزاب انضباطه الأعمى لواقع هيمنة قواعد العمل السياسي النظامي. وهو ما يجعلها عنصر توازن كما هي ردة فعل سياسي لا تعبر بالضرورة عن واقع مجتمعي، الشيء الذي سيجعلها عرضة للتجاوز حين لا يصبح مرغوبا فيها سياسيا.

الثالث: التجربة الإسلامية، ويمكن اعتبار مرحلتين أساسيتين في صياغة مفاهيمها الأساسية في بلورة خطابها السياسي.

الأولى: المرحلة النبوية الخلافية، التي لم تدم أكثر من أربعة عقود ولم تمكن، بحكم قصرها، من صناعة الوسائل التفصيلية في تنفيذ كثير من القضايا، منها على الخصوص مسألة الدولة وكيفية تصريف مقتضيات الشورى في تفاصيل تدبير الشأن العام. لكنها حققت الأهم بما هي تجربة قدوة، وهو عرض أصول العلم والعمل على وضوح كاف وجامع يحتاج اليوم إلى اكتشاف الوسائل الأصيلة لاستنباطه واستخراج كوامنه وكنوزه. وذلك هو المدخل الحقيقي للبناء الإسلامي المعاصر(2).

والثانية: المرحلة الحديثة (منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين) التي تحقق فيها ظهور الحركات الإسلامية.

وقد تميزت هذه الحركات عن غيرها من الحركات الاجتماعية والسياسية كونها تعتبر الكتاب والسنة المصدرين الأساسيين للفهم والفقه والعمل مع اعتبار التجارب الإنسانية على مر التاريخ محط الاستفادة. وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الحركات الإسلامية اعتمدت اجتهادات علماء يعتبرون رموزا في تاريخ المسلمين في هذا الباب، من أمثال الشيخ ابن تيمية، أو الشيخ ابن قيم الجوزية، أو غيرهما، رحم الله الجميع، في صياغة بنائها النظري المتعلق بمجموعة من القضايا المطروحة على التفكير الإسلامي المعاصر، وخاصة ما يتعلق بالمواقف العملية من الأنظمة السياسية القائمة اليوم، مما ترتب عليه تمايز بين كثير من المواقف حيث تجعل بعض الحركات الإسلامية الرصيد الفقهي والمعرفي الذي يزخر به تاريخ المسلمين موضوعا للاستفادة بما هو اجتهادات مظروفة بزمانها لا حكما مطلقا في الزمن، أي أنه ليس بأصل في العمل.

وفي كلمة، فإدراك هذه المصادر يخول إمكانيات معرفية ومنهجية للتصدي لواقع سياسي يتميز بالتعقيد في ضبط تمفصلاته وأبعاده، كما يمكن من فهم طبيعة التحالفات التكتيكية والاستراتيجية التي تميز الحقل السياسي في مرحلة من المراحل. بالإضافة إلى كونه يمكن من فهم كثير من المواقف لدى كثير من الأطراف. والأهم أنه عامل مهم في بلورة الاقتراحات الجماعية المناسبة لبناء واقع الحرية والاستقلال في حالة هيمنة لغة الحوار الجماعي المبني على واقع الحرية الحقيقية. كما أن إدراكها بوضوح كاف يخول للناقد تحديد مستويات تأثيرها في صناعة الوقائع الحركية والتنظيمية، كما يمكن من تحديد مدى تدخل كل منها في مجال الآخر، وكيفية هذا التدخل ومعناه.

2. ملاحظات أساسية على الخطاب السياسي السائد في المغرب

أ. تجاهل الاعتبار البشري في الطبيعة الاستبدادية

كثيرا ما يقع بعض المحللين حين التعاطي مع الأنظمة السياسية الاستبدادية في قفص العجز عن تفكيك البنى التنظيمية والهيكلية لهذه الأنظمة، إذ يحصل تجاهل أو إغفال الاعتبار البشري فيها، ذلك أن الأنظمة الاستبدادية ما هي كذلك إلا لأن الممارسة الاستبدادية واقع نفسي ذهني قد تسمح الظروف التاريخية والواقعية المحيطة بالنظام إلى أن يتحول إلى حقيقة نظرية تأخذ صفة علمية متكاملة تكتشف لنفسها تبريرا منطقيا يسري من خلال الأجهزة الإدارية والعسكرية والسياسية والإعلامية والتربوية والتعليمية وغيرها ليصبح نظاما واقعيا متكاملا في ممارسته، مما يعقد عملية التحليل والتفكيك، الشيء الذي تترتب عليه صعوبة في إعادة التركيب تجاه صناعة واقع الحرية في حركة المجتمع عموما.

وتكمن قيمة الاعتبار البشري خلال نقد بنى الأنظمة الاستبدادية في الكشف عن آليات اشتغال الحقل السياسي والمجتمعي عموما. فكثيرا ما تموه الأنظمة الاستبدادية الواقع بادعائها اعتماد الحياد في صياغة الدساتير والقوانين المنظمة للحياة، لكن الحقيقة أن إرادة شخص أو مجموعة من الأشخاص هي الفاعلة في الحياة العامة.

قد تكون الخطورة محدودة في حالة استبدادية تراهن على قوة الحزب الحاكم، إذ غالبا ما تتدهور العلاقة الولائية للأمة مع مبادئ الحزب التي تعكس، على مستوى كبير من الغموض، رغبات الحاكم أو مجموعة الحاكمين الذين قد تتبدد العلاقات فيما بينهم فتؤثر على قوة الحزب وتماسكه الداخلي (تونس، الجزائر، العراق سابقا …). وما يلاحظ في مثل هذه الحالات أن الحزب الحاكم يملك جرأة كبيرة على دغدغة الحوافز الدينية لدى المواطنين (نموذج تونس والجزائر كذلك) مما يضعف الاعتبار الولائي الديني في العلاقة بين المواطن والنظام السياسي عموما، لتبقى وسائل العنف المادي المباشر هي الأبلغ في فرض النظام العام كما يتصوره الحكم، ومن ثم يتقلص هامش الحرية إلى أضعف مستوى. لكن درجة الخطورة تصبح بالغة وعميقة حينما يملك النظام الحاكم قدرة كبيرة على توظيف الاعتبار الديني في صياغة ولاء الأمة له لا للدين. أي أن يجعل من الولاء له ولاء دينيا بجعله من صميم العبادة (نموذج المغرب، مصر وسوريا ، وكذا إمارات المشرق وسلطناته…)، وهنا يصبح نظام الاستبداد أكثر تعقيدا، لأنه يجعل من طبيعته الاستبدادية محط ولاء قلبي عاطفي يتحول مع مرور الزمن إلى ولاء ديني يملك تصورا فكريا يستند على فهم وفقه وعلم ونظام عام يتخذ من الشعائر الدينية وسائل لضمان الاستمرارية والتعبئة العامة ضد أعداء الخارج، وكذا لقهر الخصوم والمعارضين في الداخل. لذلك قد نلمس بعض التغيرات في حالة تبدل الأشخاص على رأس هرم الحكم، لكن الحقيقة أن جوهر النظام لم يتغير، حيث يحافظ على استبداديته وروح الهيمنة والتسلط، إذ تلك التغيرات ماهي إلا مظاهر مرتبطة بجوانب فرعية تعني الشخص أو الأشخاص الجدد(3).

ففي المغرب، مثلا، نجد أول خطاب ملكي للعرش لمحمد السادس يؤكد استمرارية طبيعة النظام في كليته لتبرز معالم شخصيته في التغيرات الفرعية التي حددها خطاب البيضاء أمام المنتخبين ورجال الإدارة في المفهوم الجديد للسلطة، الذي فهم منه الكثير أن شيئا جوهريا سيحصل في طبيعة النظام، ليتبين بعد أن هذا المفهوم يبحث في علاقة المواطن مع إدارة عشش فيها الفساد والإفساد عقودا من الزمن لا مع نظام الحكم ولا علاقة له بأي تغير يمس جوهره.
ولذلك لا يمكن تفسير نظام الوراثة، أو نظام يجعل من الاستفتاء الشعبي في غياب الحرية وسيلة لتأبيد قيامه إلا بمعنى وحيد يختزله السؤالان التاليان:

أليس من العبث أن نحكم على أجيال قادمة بأن حاكمها فلان ابن فلان دستوريا؟

أليس من العبث، كذلك، أن ندفع الجماهير إلى صناديق الاقتراع لنفرض من خلالها أنفسنا عبر استفتاء مزور حكاما مؤبدين على أجيال قادمة؟

قد يقبل القول بأن النظام الأصلح لكل الأزمنة والعصور هو النظام الفلاني أو الفلاني على مستوى أصوله الكلية (كالنظام الشيوعي أو الاشتراكي أو اللبرالي مثلا…)، لأن ذلك لن يحد من إمكانية الاختيار والبحث عن الأصلح من حيث الأصول والفروع، لكن غير مقبول الحكم على أجيال قادمة بأن فلانا هو الحاكم. وقد يحصل أن هذا الفلان لم يولد بعد.

وبناءا على هذا، وغيره، فإن استحضار الاعتبار النفسي البشري في طبيعة الأنظمة الاستبدادية يفضي إلى إدراك تجليات ذلك في تفصيلات الحياة والسلوكات والمواقف(4)، خاصة إذا تحولت الممارسة من تجربة إلى مدرسة (نموذج المغرب… ) لأن يومها ستعمل المدرسة بوسائلها وأطرها وبرامجها واستراتيجياتها في تخريج رجالها وفعالياتها وصياغة مفاهيمها بما يضمن لها موقعا في الوجود السياسي وسط حلفائها في الخريطة المحلية والدولية. وستكون مقتنعة بموقعها وبأي دور في هذه الخريطة بما هو مرحلة في اتجاه تحقيق الاستراتيجية، أو لأنه، على الأقل، أفضل ما يمكن أن يكون.

ومعنى هذا أن نظاما مبنيا على روح الاستبداد الذي يعتمد عامل الوراثة في صناعة الحاكم وتهييئه لن يفرز ممارسة ديموقراطية في الواقع العام، خاصة إذا كان شخص الحاكم حاضرا، بحكم الدستور والأعراف، في كل تفاصيل تدبير الشأن العام.

فإذا كان الغرب، بما هو فضاء ولادة مفهوم الديموقراطية، قد نجح في اكتشاف أشكال تعالج وضع الوراثة في الملك بما يسمح بالممارسة الديموقراطية (ابريطانيا، السويد، إسبانيا، بلجيكا، هولندا ….)، وهي أشكال حدت نفسيا وقانونيا من تسرب تفريعات شخصية الملك في التفاصيل اليومية للحكم، حيث ذلك من اختصاص المؤسسات الإدارية والتشريعية والقضائية، وغيرها، فإن خلاف ذلك حاصل عندنا حيث شخص الملك موجود في كل التفاصيل. بل لقد أصبح نظام الحكم في كثير من بلاد المسلمين نظام الحياة ومعيارها في تحديد الاختيارات حتى الشخصية منها لدى المواطنين. وهذه معضلة تربوية وسياسية اجتماعية بالغة الخطورة في إحداث التغيير المطلوب بما هي عقبة معقدة أيما تعقيد.

إن البحث في الاعتبار البشري لا يعني أن معركة التغيير يجب أن تنصب على شخص الحاكم(5)، بل يعني إدراك تجليات البنية النفسية للاستبداد التي تسري في كل أجهزة الدولة والإدارة ظهورا واختفاء، مما يمكن من الوقوف على الجوانب التربوية والحركية التي صنعت وتصنع القابلية لقبول ممارسات استبدادية من خلال إيجاد تبريرات لذلك، خاصة في صفوف المثقفين والمفكرين، كما تصنع ولاء يشكل أم العقبات في عملية التغيير لدى عموم المواطنين.

ب. اعتماد مفاهيم مستوردة أدوات أصلية في التحليل.

إذا نظرنا إلى الخطاب التحليلي للواقع السياسي في المغرب(6) نجد مفاهيمه السياسية تتراوح بين نمطين يشكلان حبل التفكير السياسي في المغرب:

الأول: مفاهيم صاغها الاستبداد على قواعده ودلالاته، ومن ثم فهي أدوات لإعادة إنتاج الواقع على صورة منسجمة مع التحولات الطارئة والمؤثرة في العلاقات الاجتماعية والسياسة بما يسمح للنظام السياسي بضمان الاستمرارية والهيمنة. وينبغي التذكير هنا أن النظام/الدولة في المغرب ملك قدرة كبيرة على المزج بين ثلاثة مجالات، وهي الأصول الثلاثة المتحدث عنها سلفا؛ مجال تجربة الدولة محليا والمجال الغربي و”المجال الديني” كما صاغته ممارسة الدولة الحديثة في المغرب، حيث استطاع الحفاظ على استمرار الماضي في بعده التاريخي والديني داخل مفاهيم مستوردة من تجربة الغرب مع الاحتفاظ بمضمونها على وضوح دلالاته.

وتبرز بعض المفاهيم، على سبيل المثال لا الحصر، كمفهوم التعددية، ومفهوم الإجماع الوطني، ومفهوم السلم الاجتماعي، ومفهوم التناوب ومفهوم المجتمع المدني …. وقد امتدت دلالات هذه المفاهيم، وغيرها، كما صاغتها الدولة وحلفاؤها، إلى أدبيات جل الهيئات السياسية، خاصة منها التي كانت أو التي أصبحت جزءا من النظام، وبذلك صارت أهم الأدبيات الصائغة للمواقف والسلوكات السياسية لدى الأشخاص والهيئات التي اعتمدتها، في حين تراجعت مجموعة من المفاهيم أمام قوة الواقع في بعده المحلي والدولي إلى درجة متأخرة في التحليل والتأطير من قبيل التعادلية والاشتراكية العلمية وغيرها.

ونظرا للموقع الذي احتلته هذه المفاهيم في الخطاب التحليلي، فقد حصلت صعوبة كبيرة لدى المحللين في القدرة على اكتشاف آليات تملك الكفاءة لنقد الدلالات والواقع في أفق بناء سياسي ومجتمعي حر وقاطع مع الاستبداد، حيث إن خبرة هذا الأخير الطويلة استطاعت احتواء كثير من المتناقضات مع ضبط العلاقة بينها حتى لا تتحول إلى صراعات تؤدي إلى أي مستوى من التفكك. فكان النظام السياسي في المغرب بهذا منفتحا على الكل ولا موقع مناسبا لأحد فيه.

ولذلك اغتر الكثير بتداول هذه المفاهيم، وغيرها، في المجال الإعلامي والسياسي وهي مدعّمة بترسانة من القوانين المنظمة مع دستور ممنوح يجعل من الديموقراطية الاجتماعية اختيارا كليا لا رجعة فيه! والذي من تبعاته تحقق التعددية الحزبية، دون أن ينتبه هؤلاء إلى أن هذه المفاهيم البراقة، بما فيها مفهوم الديموقراطية، تخفي من ورائها الحقيقة الاستبدادية المخزنية التي ترعاها ما يمكن أن نسميه بالقواعد النظامية المنظمة للعبة السياسية في المغرب. وهي قواعد محكمة الصياغة والوضوح(7) لدى أصحابها مما جنب الدولة/النظام ممارسات طائشة وانفعالية- كما يحدث مع كثير من الأنظمة الاستبدادية العسكرية- إذ الممارسات الكبرى تخضع لاستراتيجية محكمة من حيث المضمون والتوقيت لتجنب الدولة/النظام أي اهتزاز سياسي أو اجتماعي يتسبب في الانهيار الجزئي أو الكلي.

إن إحكام هذه القواعد مع وضوحها الكبير أعطى للدولة/النظام قدرة كبيرة على الانفتاح والاحتواء خاصة إذا كان الخطاب المعارض يعاني من أي مستوى من الغموض أو أي مستوى من الضعف والتفكك.

قد اعتمدت الدولة/النظام وسائل عدة لتصريف دلالات تلك المفاهيم؛ منها وضوح دلالاتها لدى أطر وفعاليات الدولة التي ترعاها، ومنها اعتماد صياغة دستورية تمكن من تثبيتها من خلال قوانين تنظيمية وظهائر ومراسيم، ومنها اعتماد العنف المادي والرمزي لإضفاء قوة إلزامية تفرض الأمر الواقع، لكن مع مرور الزمن أصبحت تلك المفاهيم منظومة تشكل تصورا يؤطر “نخبة” كاملة ومتنوعة هي حاشية الدولة/النظام في كل الميادين والقطاعات.

الثاني: مفاهيم النخبة الحديثة في المغرب. وهي مفاهيم أفرزتها التجربة الغربية، واعتمدتها النخبة الخارجة من فترة الاستعمار لاعتبارين أساسيين.

الأول قصور القاموس السياسي المحلي عن استيعاب الجديد الوارد مع الاستعمار في السياسة والعلوم نظرا لهيمنة الجمود على الحركة العامة للمجتمع والدولة. والثاني تلمذة النخبة كلية على المدرسة الغربية حيث لم تكن هذه التلمذة خاضعة لضوابط الاستفادة بقدر ما حصل الاندماج الكلي في المجال الغربي على قاعدة الغموض في تحديد الأصول. بل هناك من عناصر النخبة من اعتبر تلك الأصول، التي ترجع كلية إلى الدين الإسلامي على ما شابها من انحراف وتزوير، هي المسؤولة عن واقع التخلف، ومن ثم فالالتحاق بركب الحضارة السائدة يفرض اعتماد مدلولات المفاهيم والوسائل التي جعلت من الغرب الغارق بالأمس في ظلمات الكنيسة ينعم اليوم بنور المعرفة والعلوم.

وبما أن الأمر يتعلق باختيارات في تدبير الشأن العام، أي برسم سياسات مركزية وقطاعية تفصيلية لبناء مجتمع ورسم معالم مستقبله، فإن الأمر يكتسي خطورة من حيث هو مرتبط بمصير أمة، لذلك فاختيار مفاهيم وجعلها تحتل المكانة المركزية لتحديد تصورات تجاه قضايا كبرى (بناء الإنسان والمجتمع والدولة) يفرض السؤال عن الذات. ومن ثمة فإن التجربة الغربية مجال خصب للاستفادة إذا ما كانت المفاهيم الأصلية، على الأقل، مدركة وواضحة وضابطة لعملية التفكير، أما في حالة انعدام هذا الشرط فإن الاختيار الوحيد أمام النخبة هو الانصهار الكلي والاندماج الشامل في خضم التجربة الغربية لتكون النتيجة العملية التبعية في جميع الأحوال.

ويعتبر هذا هو العامل المهم، إلى جانب عوامل كثيرة، في عجز النخبة عن إثارة الحوافز الحقيقية لدى الأمة لتنخرط في المشروع الديمقراطي الحداثي.

وبالنظر إلى مستويات تفريعية من مرجعيات النخبة يمكن تحديد نموذجين يحتلان الصدارة؛ نموذج صنعته خبرة الاستبداد. فهو ركيزة من ركائز الدولة/النظام حيث يلعب دور الوسيط المروض حسب المجال والتخصص بين الأمة والدولة وعنصر محور في السياسة الخارجية. والنموذج الذي يمثله أساسا اليسار، خاصة منه الذي تبنى في فترة من فتراته النضالية المفاهيم الثورية حيث اعتمد خطابا تحليليا عنيفا تجاه الوضع السياسي في المغرب، وكذا كثير من المعارضين للسياسات العامة لكن على أساس غموض كبير في الفكر والموقف(8).

ومن الموضوعية أن نؤكد أن هذه الفئة المناضلة(9) عجزت عن صناعة الأداة العلمية والبشرية والتنظيمية والهيكلية القادرة على تقويض قوة الاستبداد المخزني، كما عجزت عن تعبئة الأمة لصالح طروحاتها.

ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين أساسين؛ الأول عجز المفاهيم عن احتضان قضية شعب خارج من استعمار يبحث عن الحرية التي على قاعدتها قاوم المستعمر مع رجالات المقاومة وجيش التحرير. والثاني يرجع إلى أن الدولة/النظام استطاعت أن تحدد أصول وجودها وعملها بوضوح كاف وأن تلتجئ إلى الأساليب القانونية والدستورية، وأساليب العنف المادي والرمزي للدفاع عنها في مقابل غموض كبير في استعمال اليسار لمفاهيمه وأساليبه.

ويلاحظ، كذلك، أن عنف الدولة وصرامتها في استعمال قواعدها النظامية أدى إلى أن يصبح الخطاب اليساري جزءا من بنية النظام في كثير من الأحيان (لحظة التوافق على التناوب بحيث قدم تيار اليوسفي وحلفائه خدمة جليلة للدولة/النظام إذ من خلال توافقهم الكواليسي تم ترصيص فرصة تنفس الصعداء بإيجاد ذراع سياسي مكن من تفعيل المحيط السياسي والاجتماعي، لكن في اتجاه معاكس لطموحات الشعب المغربي وخادم لأهداف الهيمنة والاستمرارية)، حيث في الوقت الذي تزحف الدولة على المواقع تتراجع قوة الخطاب اليساري مما جعله في وضع سياسي واجتماعي لا يسمح بأي شكل من أشكال التهديد، خاصة وأن المرجعية الجامعة واحدة، سواء لدى النظام ومن يدور في فلكه أو لدى اليسار عموما، هي المرجعية الحداثية كما أفرزها الواقع الغربي.

بمعنى أن عامل الزمن بما يحمله من تطورات سياسية وفكرية ذوب الخلاف الإديولوجي بين اليسار والنظام وحدد الخلاف في حدود السياسي دون أي تعارض جوهري في الاختيارات، وبهذا أصبح المجال واحدا يتكون من مجموعة أطراف تخضع استراتيجيا لمنطق التوازن الذي يعني في القاموس السياسي عند الاستبداد صناعة واقع ضعف المكونات السياسية والمجتمعية وإضعاف حركة المجتمع.

ج. عجز الخطاب التحليلي عن النقد المتكامل

ما يلاحظ، عموما، على الخطاب التحليلي لطبيعة النظام السياسي في المغرب عدم تكامليته من حيث قدرته على النقد المتكامل، إذ ثبت عجزه في عرض الشق التركيبي الذي ينبني على نتائج موضوعية وعلمية لعملية التحليل والتفكيك المكونة لحركة النقد ونتائجها العملية.

وذلك راجع، أساسا، إلى كون الخطاب التحليلي السائد يعتمد على مفاهيم صاغتها التجربة الاستبدادية للنظام السياسي في المغرب على مر قرون، مما أعطى نتائج في أحسن صورها اقتراح إعادة تركيب بنية النظام بنفس العناصر مع تغيير مواقع بعضها بما يسمح بإعطاء فعالية جديدة للعمل السياسي في البلاد. وهذا ما يسعى العهد الجديد إلى ترسيخه إذ لم يشكل استجابة حقيقية لمطلب المغاربة في الخروج من واقع قمعي إلى واقع الحرية وتحمل المسؤولية. علما بأن نتيجة التحليل هذه بقيت على الورق عقودا من الزمن بسبب قدرة الدولة على إضعاف الجدوى من ذلك بحكم الموقع الذي تحتله داخل المجتمع، وبحكم الوسائل القانونية والمادية التي تملكها، وبحكم الظروف الداخلية للنظام نفسه، إذ كان الهاجس المسيطر عليه هو الحسم في تثبيت قواعده من الناحية الدستورية والقانونية، ومن الناحية العملية في ميادين التربية والتعليم والثقافة والاجتماع وغيرها من الميادين.

ونظرا للوضوح الذي اعتمده النظام على مستوى خطابه السياسي في مقابل الغموض المهيمن على جل الخطابات السياسية المعارضة فقد جعل الدولة في موقع قوة دائم على الرغم من الواقع الاقتصادي والاجتماعي اللذين تسببا في كثير من الانتفاضات التي أظهرت ضعف المعارضة في تأطيرها وتوظيفها في اتجاه تنفيذ مشاريعها السياسية.

وهكذا اكتفى الخطاب السياسي اليساري، بوعي أو بغير وعي، بالوصف الذي يحمل نبرات المعارضة، وقد تكون هذه النبرات عنيفة إلى حد كبير، دون أن يتوفر على القوة الكافية لاختراق تماسك الخطاب النظامي وبنيته، مما جعل طروحاته المتعلقة ببناء الدولة قاصرة عن إيجاد الموقع المناسب لمنافسة سعي الدولة لاحتكار المساحات والميادين والقطاعات.

ونفس الشيء حصل مع جل التيارات الإسلامية، إذ غالبا ما تعاني من غياب تصورات متكاملة عن الدولة المنشودة مما جعل خطابها السياسي وتموقعها الميداني لا يخرج عن دائرة واقع التوازنات التي أحكم النظام، بحكم خبرته في الباب، “سيناريوهات” تحققها في مقابل ضعف الخبرة السياسية المصاحب للضعف المفاهيمي النسقي عند كثير من الفاعلين الإسلاميين الذين منهم من اعتبر الدولة الإسلامية قائمة ولا ينقصها سوى تطبيق بعض أحكام الشريعة.

إنها نتيجة طبيعية لتحليل سياسي يفتقر إلى نضج معرفي أصيل يقف على عمق الأشياء تجنبا لأي تبسيط لقضايا هي مجال التعقد لعوامل تاريخية ومعرفية وحضارية متعددة ومتداخلة.

الهوامش:
(1) هناك صعوبة كبيرة في بناء مؤسسات مجتمعية وسياسية على وضوح مع عدم خضوعها لقواعد اللعبة النظامية، مما اضطر معه الكثير إلى اللجوء إلى العمل السري أو إلى اعتماد غموض على مستوى كبير في الأهداف والمواقف السياسية مما أثر على أجيال الحقل المجتمعي والسياسي، علما بأن الغموض عبر أجيال يصبح أصلا في الفكر والسلوك وهوما تسبب في كثير من الخلافات والصراعات داخل الحقل السياسي، بل داخل التنظيم الواحد.

(2) إنه لا مستقبل للحركة الإسلامية، وعليه لا مستقبل للمسلمين، ما لم تتمكن حركة الدعوة من الوقوف بين يدي هذه التجربة تلميذة باحثة عن الأجوبة عن أعوص قضايا المجتمعات المعاصرة، بل عن قضايا الإنسان المعذب اليوم بهيمنة معاني حضارة حداثية عولمية مقطوعة عن الله اختيارا.

(3) إلا أن يكون ذلك التغير مبنيا على إرادة حقيقية في التغيير، ولذلك وسائله ومظاهره التي تدفع إلى الاقتناع الكلي بأن شيئا جوهريا يحصل في نظام الحكم. وهذه معركة لا تتأسس على الخطب والكلام، بل على معايير بارزة وقاطعة كلية مع النمط الاستبدادي في الحكم.

(4) بهذا يمكن تفسير نجاعة نظام التعليمات والخضوع الإداري اللاإرادي في غالب الأحيان دون احترام للقوانين المنظمة.
(5) لقد كان هذا محور العمل السياسي لدى كثير من الحركات اليسارية وكذا الإسلامية مما ساهم في تحجيم أدائها السياسي بحكم طبيعة المعركة دون أن تميز بين نظام متكامل الصورة والوسائل وعلاقته بالشخص الحاكم الذي يشكل رمز النظام لا كليته، خاصة إذا أصبح هذا النظام مدرسة في ممارسة الحكم الاستبدادي حيث تصبح له القدرة الذاتية على صناعة الرمز في أية لحظة.
وقد كان ذلك من الأخطاء التي أدت إلى تقويض هذه الحركات حيث لم تستطع أن تعرض مشاريعها وتصوراتها، إن كانت تتوفر على ذلك، حول الدولة.

(6) ينبغي تجاهل النمط التحليلي الوارد من الخارج، من قبيل تحليلات واتر بوري وغيره، التي، للأسف الشديد، صارت مصدرا لدى كثير من المحللين المحليين، وهذا لا يمنع من الاستفادة منها.

(7) هذه القواعد غير موجودة في وثائق أو قوانين، لكن إذا خضعت هذه الأخيرة إلى قراءة شمولية لمضامينها مع النظر الكلي في ممارسات الدولة في تدبير الشأن العام تنكشف دلالات تلك القواعد النظامية. وهي قواعد متعارضة جوهريا مع الممارسة الديمقراطية.

(8) ينبغي التذكير هنا بأن المغرب عرف ويعرف نماذج متميزة من الرجالات الذين لم يقتنعوا بطريقة تدبير الشأن العام وبالمرجعية التي تحكم هذا التدبير، لكن بقي هؤلاء فرادى أو يشتغلون على أساس غموض كبير في الموقف والفكر بسبب شراسة الدولة، تاريخيا، في مواجهة معارضيها مما حد من تأثير هؤلاء في الواقع العام.

(9) حتى لا نبخس الناس أشياءهم، فقد عانى اليسار بكل تلوناته الكثير من عنف الدولة في المغرب. فقد عرفت كل السجون والمعتقلات هؤلاء. ومع هذه الشهادة فإن مرارة الواقع تدفع إلى نقد هذه التجربة بسؤالها عن العوامل التي أدت إلى عجزها عن تحقيق الأهداف الثورية.

الآراء

اترك رد