أ.د. أحمد زغب: أستاذ التعليم العالي بجامعة وادي سوف (الجزائر)
ثبت أن النص الأدبي ذو طبيعية أنثروبولوجية، وأن فعل القراءة نفسه فعل أنثروبولوجي سواء أوعى القارئ بذلك أم لم يع، يعرّف الباحثان الفرنسيان جيرفود .Gerfod وتوريل Torrel القراءة الأنثروبولوجية بأنها حركة ذهنية تنطلق من معارف مسبقة موثوقة للقارئ إلى إنجاز معارف جديدة.
هذه الخطوات المركبة ترتكز على خطة منهجية تقوم على تحديد العلامات التي تؤلف النص، ومن غير إقصاء العلامات الأخرى مهما كانت طبيعتها وتتناول العلامات في عمومها وخصوصها.
تهدف القراءة الأنثروبولوجية أيضا إلى إماطة اللثام عن التعقيدات الاجتماعية للوصول إلى فهم أعمق للعمل الأدبي.(lecture Anthropologique p65).
من أهم الفروق بين العمل الأثنوغرافي الميداني ودراسته الأنثروبولوجية من ناحية، والعمل الأدبي من ناحية أخرى ،مع أن مصدرهما واحد، أن على الباحث أن يكون في حياد إبستيمولوجي أي أن يقف على مسافة من موضوعه ،بينما على الأديب أن تكون هذه المسافة نقدية التي يقيمها الأديب من خلال تغريب نصوصه وفق رؤية تخييلية كما يرى الباحث المغربي عياد أبلال.
وهذه الرؤية التخييلية ،لا تحاول تصوير الواقع كما هو إنما يعمل الخيال النقدي على تشفير العلامات التي تؤدي إلى نظرة نقدية أو مثالية للواقع لخدمة الرسالة التي يتوخاها المبدع.
وفي مسرحية حنين الخوابي نلاحظ أن تيمة مهيمنة على النصوص الشعرية والمشاهد، هي الجانب الاجتماعي والعاطفي، وذلك من اجل خدمة الموضوع الذي ينتقل بنا من حب المرأة وحب الأهل والأقارب وعلاقات القرابة إلى حب الوطن.
المستوى الأثنوغرافي :
المجتمع بدوي صحراوي يعيش في الخيم ويتنقل من منطقة إلى أخرى، يتتبع مساقط الغيث، وهو مجتمع قبلي ،لكل قبيلة شيخ يحكمها ، هناك ملامح باهتة لنمط المعيشة التي تعتمد في جانب من جوانبها –على الأقل – على الرعي وتربية الإبل، كما تبدو ملامح البيئة الطبيعية منطقة رملية وعرة وبها شجر النخيل المثمر، ويعتمدون في سقي ماشيتهم على الآبار التقليدية التي يحفرونها بأيديهم في عمق التربة.
أما الجانب الاجتماعي ،فنلمح قبيلتين قبيلة آوى إليها بن دوال عرش الذهايبة ، وقبيلة مباركة عرش الحمايدة،ولكل قبيلة شيخ عرش يستشير مجموعة من الرجال، ويبدو أن القبيلتين متعايشتان لولا حب بن دوال لمباركة، وهو حب ممنوع وفق أعراف القبيلتين ، فالزواج إضوائي داخليendogamie ، ومن ثم يحرم على الرجل أن يطمح في امرأة من قبيلة أخرى، وكل من ينتهك هذا المحظور ينال عقاب المجتمع الرادع، ونلاحظ أن موقف بن دوال كان ثوريا على عادات المجتمع التي تحجر على الشبان عواطفهم، بينما رأينا مباركة عند البئر معبرة عن حبها لبن دوال لكنها مستسلمة لقدرها وأعراف مجتمعها.
ولم نستطع أن نجد لقبيلة المصابيح دورا فلم يلجأ الشاعر العاشق إلى قبيلته إنما لجأ إلى عرش الذهايبة لعل الكاتب فعل ذلك عمدا ليجعل حنين الشاعر وأشواقه منصبا على قبيلة الحمايدة حيث محبوبته مباركة، وكأنه يمهد لموضوعه أو غرض المسرحية الذي سوف نكتشفه في الختام، وهو الوطن المعادل الموضوعي للمرأة، وغالبا ما كانت المرأة معادلا موضوعيا للأرض فكلاهما ينتج حين يسقى، المرأة تنتج النسل لحفظ النوع والأرض تنتج الزرع لحفظ الذات.
نلاحظ أن المجتمع يعدّ المرأة شرفه، لكنه لا يعيرها أي اهتمام، فمجرد ذكر اسمها في شعر بن دوال ،استوجب عقابه ((نزلوا عليه بضربهم في حملة ما حد خلى شيء ما قدم له وخلو صيد القوافي طريح الفيافي وشاع خبره بين الناس بن دوال مــــــــــــات))(ص23).
المستوى الأثنولوجي:
يبدو المجتمع قدريّا مستسلما لأعراف قبلية جماعية يطبقها بصرامة، كما يبدو الشعر وسيلة اساسية في ثقافة هذا المجتمع ، به يعتز الفرد بقبيلته ، وبه يستسلم الفرد لقدره ، كما فعلت مباركة ،وبه ينفرد الفرد بالتمرد على الأعراف كما فعل بن دوال.
لا نلمح دورا واضحا للدين ،فلا طقوس ولا تشريعات دينية ،فكل ما يفرض لتحقيق الضبط الاجتماعي أعراف تقليدية، أو ما يسمّى بالعادات الاجتماعية، غير أن من الأحكام ما يخضع لسحر الكلمة الشعرية، فالعرس لا يتحقق من دون حفل ينشد فيه الشعر، كما ان المساجلة الشعرية يمكن أن تغلق حفلة العرس فلا يستمر، وهو ما كان يعرف في المجتمع البدوي التقليدي ب (( رباطية العرس)).
فبعد انطلاق الحفل ،وكل شاعر يبرز براعته في القول والإنشاد، يدخل شاعر فحل يتحدى غيره أن ينشد الشعر، فيأتي بما يشبه اللغز ،وهو شعر قائم على الادعاءات، فيزعم مثلا أنه أغلق حفلة العرس، ورمى بالمفتاح في بئر يحرسه الجن من بني الأحمر وحوله كثير من العقارب والأفاعي العملاقة، أو رمى بالمفتاح إلى السماء فالتقطته سحابة عابرة وسافرت به إلى المجهول وهكذا، ويتحدى أقرانه ان يأتوا بشعر يفسخ ادعاءاته ، فإن استطاع الشعراء أن يفسخوا كلامه بادعاءات مماثلة تواصلت حفلة العرس ،وإلا استجدوه أن يحل بنفسه لغزه ولا يجرؤ شاعر آخر على الوقوف معه ويصبح المسرح الشعري حكرا عليه.
وهذا ما حدث في زواج مباركة عشيقة بن دوال من محمود من قبيلة الحمايدة، فقد أراد الشاعر المدعو عمار أن يربط حفلة العرس – ربما فعل ذلك تعاطفا مع بن دوال- ولم يستطع أي من شعراء القبيلة أن يحل اللغز المطروح في ’’الرباطية‘‘واضطر القوم إلى أن يلجأوا إلى فحل من فحول الشعر، فوقع الاختيار على بن دوال، الذي ضربوه بسبب حبه وشعره في كريمتهم مباركة.
ويجعل كاتب المسرحية الشعرية اللغز الذي يطرحه عمار الشاعر يحقق المغزى العام للمسرحية ، ليتصل الفاعل المنفذ بموضوع القيمة على حد ترسيمة الفاعلين لGreimas، فالحرفان اللذان تناولهما الشاعر في قوله:
حَرْفِينْ هُمَّا رَاحْتِي وَهْنَاتِي *** وْهُمَّا مَعَ عكْسِ الزّمَانْ اخْطَارْ
وْبَحْرِينْ فِيهُمْ خُضُتْ فِي رِحْلاَتِي*** كِي غُصُتْ مَا سِمْعُوا عَلَيَّ أَخْبَارْ.
فالحرفان هما الحاء والباء، الحب، لنكتشف بعد حل اللغز من قبل بن دوال أن المقصود حب المرأة الذي يتحول إلى حب الوطن بعد أن عامل الشاعر خصومه من الحمايدة بالتسامح من أجل الوطن.
صحيح أنه يقفز لأذهاننا لأول وهلة الافتعال غير المبرر لتحول بن دوال من حب مبروكة إلى حب الوطن، وكان من الممكن أن يساوم عليها قومها في حله للرباطية كما حدث في روايات شفاهية أخرى، فقد أخذت عريس محبوبة بن دغمان في حكاية شعرية من هذا النوع، العزة بالنفس والشهامة، بعد أن أرسلت مباركة زغرودة معبرة فيها عن تجاوبها مع محبوبها بن دغمان، الأمر الذي أثار حفيظة العريس وتنازل للشاعر عن العروسة .وكان يستطيع كاتب المسرحية الشعرية أن يعتبر المرأة حينئذ رمزا للوطن.
لكن حلّ بن دوال للرباطية، مزج بين البحرين والحرفين؛ حب المرأة وحب الوطن:
حَرْفِينْ بِيهُمْ عِشِتْ فِي مِحْنَاتِي *** وْخَشِّيتْ بَابْ الْحُبّْ وَاسَعْ دَارْ
وْبَحْرِينْ يَا صَاغِي كِلاَمْ أَبْيَاتِي *** بَحْرِ النِّسَا مَا يَقَرْبَهْ خَوَّارْ
وْبَحْرْ الْوَطَنْ مَلْزُومْ لِينَا يَاتِي *** مَهْمَا حَمَلْنَا الْمُوجْ نِفْدُو الثَّارْ
فالخوار (= الجبان الرعديد) لا يقرب بحر النساء لكن بحر الوطن لابد من العود اليه مهما طال الزمن. يبدو أن مزاوجة الشاعر بن دوال بين الوطن والمرأة، في كونهما من ضرورات الحياة، في مغامرة تنتهي بالعودة إلى أرض الوطن ،وغض النظر عن المحبوبة التي كانت الموتيف الرئيسي المحرك لأحداث المسرحية الغنائية من البداية. وكأن الوطن هو المعادل الموضوعي للمرأة.
المستوى الأنثروبولوجي:
تبدو المسرحية التي يرويها قدور (مغني الربابة) الذي تعوّد رواية الملاحم البطولية والغزوات، وهذه الغزوات غالبا ما تتخللها وقائع عجائبية مدهشة، وبما أنها أي : هذه الغزوات والملاحم تكتسي طابعا دينيا، فإن العناية الإلهية تتدخل في كثير من الأحيان لنصرة البطل لا سيما إذا وجد نفسه في مأزق. فإرادة البطل تتوافق دوما مع إرادة العناية الإلهية
وهذا ما يجعلنا نفكر في أسطرة الملاحم البطولية التي يرويها مغني الربابة، فهي ذات طابع أسطوري في الغالب. ولما كان الشاعر أي كاتب المسرحية الشعرية مأخوذا بالأساطير البطولية فإنه أراد ان يجعل من المبارزة الشعرية التي أسفرت عن عودة الشاعر البطل بن دوال إلى وطنه عملا بطوليا، عملا مشابها للأعمال العظيمة التي يرويها عادة مغني الربابة مثل ملاحم أبي زيد الهلالي ،وغزوات الفاتحين مثل عبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود…..الخ. وهكذا أراد الكاتب أن يمنح الفن (هنا الشعر) دورا هاما في التحول الاجتماعي أو على الأقل التأثير على مجريات الأحداث الاجتماعية.
وفي هذه المقاربة أي المزاوجة بين المرأة والأرض باعتبارها معادلا موضوعيا لها تحضرنا الأسطورة التي ذكرتها كتب الأدب الشعبي ، وهي من أساطير الخلق الأولى التي تحاول تفسير كيف خلق الكون.
تقول الأسطورة إن السماء والأرض كانتا متزوجتين، وهكذا كانتا ملتصقتين لأمد طويل من الدهر، ونتج عن هذا الالتصاق إنجاب الأبناء وهم الشمس والقمر والنجوم.
ولما كان هؤلاء الأبناء موجودين بينهما أي : بين السماء والأرض، شعروا بالاختناق، فأخذوا في إطلاق السهام فابتعدت السماء عن الأرض، وانحاز الأبناء إلى الأب، وبقيت الأم أي: الأرض، تراقب الأبناء عن كثب(نبيلة إبراهيم أشكال التعبير ص.32.).
فالأرض هي المرأة والسماء معادل موضوعي للرجل، فمثلما أن الأرض بحاجة إلى السماء لتسقيها حتى تصبح قادرة على إنتاج الغذاء وسيلة الحاجة الأنثروبولوجية الأساسية الأولى حفظ الذات، فالمرأة أيضا يسقيها الرجل حتى تستطيع أن تنجب النسل وتحقق الحاجة الأنثروبولوجية الثانية الأساسية حفظ النوع.
وهذه النظرة تكرس باطرياركية النظام الاجتماعي، وهو المعنى المضمر الذي يمكن أن تخفيه المسرحية الشعرية حنين الخوابي، يدعم هذا التأويل الموقف السلبي للمرأة مباركة في الأحداث، وغلبة القبيلة وقهرها للأفراد حين يخرجون على الأعراف الاجتماعية، قهر قبيلة الحمايدة للشاعر بن دوال.
يمكن في الأخير أن نلمس التأثير المتبادل، بين العادات والتقاليد باعتبارهما عاملي ضبط اجتماعي ،والثقافة والفن يمثله ههنا الشعر من جهة (نلاحظ الغياب التام للدين )، وبين النظام الاجتماعي وعلاقات القرابة والنسيج الاجتماعي وعلاقات التعايش بين القبائل من جهة أخرى.
الثقافة تؤثر في العلاقات الاجتماعية (الزواج القرابة المصاهرة)، وهي في حاجة إلىها مثلما ان الشعر والعادات والتقاليد لامعنى لها إلا في كنف المجتمع حيث تؤدي الثقافة وظيفتها، في حفظ الاستقرار من جهة ،وتعديل موازين القوى او الأولويات في سلم القيم الاجتماعي من جهة أخرى.
يبدو ذلك جليا في ردع بن دوال عن حب مبروكة بفضل العرف والعادات والتقاليد، وفي ذات الوقت الحاجة الشديدة إلى الشعر والشاعر(بن دوال) لاستمرارية الزواج كطقس العبور، وهو وسيلة ضرورية للبناء المجتمعي.
المراجع :
Gerford ; Tourrel
lecture Anthropologique des oeuvres litterales
ـ عياد أبلال أنثروبولوجيا الأدب دراسة انثروبولوجية للسرد العربي
ـ نبيلة إبراهيم أشكال التعبير الأدب الشعبي
ـ المصدر : حنين الخوابي، بشير غريب .
اترك رد