السرد في التراث العربي: رؤية معرفية جمالية

صدر عن دائرة الثقافة والإعلام والنشر بالشارقة (الإمارات العربية المتحدة) كتاب جديدة للناقد والأكاديمي د. مصطفى عطية جمعة، وعنوانه ” السرد في التراث العربي: رؤية جمالية حضارية “.

ويأتي الكتاب ضمن مشروع المؤلف، لتقديم قراءة جديدة للسرد في التراث العربي، بهدف تقديم رؤية كلية، عن السرد العربي بوصفه بناء لغويا وإشاريا وإخباريا، يتشكل في أبنية جمالية متعددة، نجدها في مرويات التاريخ والشعر الغنائي والملحمي، وفي الحكايات القصيرة والطويلة، في السير الشعبية وفي حكايات المجالس، مثلما نجدها في الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة والأقاصيص والأخبار والقصص الحياتية، وما يستجد أو يتوارث من أشكال الحكي.

*********

إذا كان النثر هو الوجه الآخر للشعر ، فإن السرد جامع الاثنين معا، وإذا كان الشعر يعبر عن الوجدان مستخدما الخيال والرمز والمفردة الموحية ، فإن النثر يشترك فيه أيضا ، مع المزيد من التحرر من قيود القافية والوزن ؛ أما السرد فهو جامع لكل ما سبق ،ويضيف لها : بنية وأسلوبا ، أحداثا وشخصيات.

إن دراسة السرد بوصفه معبرا عن الوعي – وأيضا اللاوعي – الجمعي للأمم والشعوب ، ” تساعد على فهم ثقافة الشعوب ، وتشكل حقلا للتفسير الثقافي والاجتماعي ، عبر دراسة أنماط السرد ، التي تعد تعبيرا عن المعرفة الإنسانية وسبيلا للاتصال ” ([1]) ، وهذا يشكل بعدا جديدا في دراسة الأنماط السردية، لأنها تساعدنا على المزيد من الوعي والإدراك لهوية الأمة ، وثقافاتها ، فالسرد معبر عن المعرفة في أبعادها السيوسيولوجية والأنثروبولوجية وأيضا السيميولوجية ، وأيضا هو سبيل للاتصال بين الناس ، عبر السرديات اليومية أو الحياتية البسيطة ، أو عبر ما هو فني : حكايات وسير شعبية وأشعار وقصص أدبية . كما يشكل تربة خصبة وثرية لدراسة ” أشكال من الأحداث الإنسانية واللغويات وأيضا الذاكرة الذهنية للوصف وإعادة البناء والفهم للحياة الواقعية الإنسانية وستثير أسئلة ونقاشات رفيعة ومتعددة حول التاريخ و فلسفة التاريخ ” ([2])

السرد – بأشكاله – تعبير يهواه المرسل والمستقبل ، المنشئ والقارئ ، الفرد والجماعة ، الكل يتلقاه شفاهيا أو مدونا أو معروضا ، والكل يشتاق إلى بثّه بالحكي الشفاهي وهذا المستوى الأدنى الذي يشترك فيه الجميع دون استثناء، لأنه يتصل بالسلوك اليومي ، فيحكي الإنسان ما أضره ليُشرِكَ مستمعه في همّه، ويحكي عما أسعده من تجارب مرّت أمامه ، كما يحكي عما شاهده أو استمع إليه في مختلف مواقف الحياة . وفي نفس الوقت ، فإن أي جماعة بشرية مهما صغرت تحتفظ بحد أدنى من المرويات ، مثلما هو الحال مع الأسرة الصغيرة، التي يحلو للوالدين أن يجترّا ذكرياتهما الفردية أو المشتركة على أولادهما ، كذلك مع العائلة الكبيرة عبر حكي الجدين، ومع القبيلة وإن تعددت عشائرها ، وامتدت جغرافيا ، فلها أيضا مروياتها التي تخص أجدادها وأبطالها، وما حدث مع أبنائها في تقلبات الزمان.

كما أن للثقافات – سواء كانت بدائية أو متحضرة – مروياتها المعبرة عن رؤاها ومعتقداتها وإن كانت وثنية مثل أساطير الإغريق وبابل وآشور ، ومثلما نجد في الحضارات الكبرى سرديات يجتمع عليها أبناء شعوبها مثل الحكايات الشعبية والأساطير، أو تتخطى حدود الحضارات، لتكون تراثا سرديا إنسانيا ، على نحو ما نرى في أسطورة هوميروس والكوميديا الإلهية وحكايات السندباد العربية ، ولص بغداد ، وكذلك الروايات العالمية الخالدة حديثا . وبعبارة موجزة : السرد صورة لأحداث حياتنا وأفكارنا وهمومنا وعقائدنا ، وهو أساس في التعبير الإنساني.

أيضا ، فإن السرد هو القاسم المشترك بين الأمم والشعوب والثقافات ، فكما أن لكل جماعة مروياتها ، فإن لكل ثقافة سردياتها ، صغر شأنها أم كبر ، مثلما أن لكل حضارة إبداعاتها في السرد ، والذي يمكن أن يتطور إلى تمثيل وملاحم وصوتيات ومرئيات و فنون تشكيلية .

أيضا ، يمتاز السرد بخاصية جوهرية ، بالنظر إلى كونه مرتبطا بالإنسان ، وتقلباته ، وتبدل أحواله ، وبما يتوارثه من أجداده ، فهو مرن طيّع ، فالمرء يمكن أن يعيد مروياته عشرات المرات ، دون كلل ، وفي كل مرة يمكن أن يطيل فيها أو يقصر، ونفس الأمر فإن المتوارث السردي – خاصة الشفاهي والشفاهي المدون ، والمدوَّن الشهير – يعاد بثه ، واستحضاره من قبل الجماعة والأمة ، في أوقات الزهو والرفعة الحضارية ، وفي زمن البطولات ، ويستعان به في شحذ الهمم ، والبناء على الأمجاد والبطولات التاريخية .

إن المستهدف في هذه الدراسة تقديم رؤية كلية ، عن السرد العربي بوصفه بناء لغويا وإشاريا وإخباريا ، يتشكل في أبنية جمالية متعددة ، نجدها في مرويات التاريخ والشعر الغنائي والملحمي ، وفي الحكايات القصيرة والطويلة ، في السير الشعبية وفي حكايات المجالس ، مثلما نجدها في الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة والأقاصيص والأخبار والقصص الحياتية ،وما يستجد أو يتوارث من أشكال الحكي .

وفي نفس الوقت ، نبحث فيما يتقاطع في أرضية السرد من ميادين للمعرفة الإنسانية ، فالسرد حاو للمعلومات ، التي يستفاد منها مباشرة ، مثلما هو عاكس لثقافات الشعوب والأفراد ، وتلتقي في بنيته اللغوية فلسفات ورؤى وأفكار .

وسيكون جهدنا في هذا الكتاب منصبا على مناقشة القضايا النظرية التي ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسرد العربي القديم ، ذلك أن النقاش النظري يعيد إلى بؤرة التفكير كثيرا من القضايا ذات العلاقة المباشرة بالسرد ، مثل الشفاهية والكتابية، والمعيارية واللامعيارية ، والشعرية والنثرية . فعلى كثرة الدراسات النقدية والأدبية التي تناولت السرد العربي : كتبا وحكايات ، شفاهية وكتابية ، تاريخية واجتماعية وأدبية؛ على قلة الدراسات التي تجمع هذا المتناثر ، وتعيد لحمته في خيوط ، تشكل رؤية فكرية جامعة ، والنقاش النظري في هذا الكتاب يحاول لملمة الخيوط في نسيج واحد، ويستحضر الأبعاد الثقافية والحضارية والفلسفية ، بحيث تكون الصورة في النهائية كلية في الزمان والمكان، تمتد من العصر الجاهلي إلى ما قبل العصر الحديث ، تنظر – بقدر المستطاع – في آراء الأقدمين ، وجهود الباحثين المحدثين ، غير غارقة في ضرب الأمثلة ، وما أكثرها، لأن ميدانها الأساسي هو الدراسات التطبيقية.

في ضوء ما تقدم ، سيشكل الباب الأول قاعدة تأسيسية نظرية للسرد : تنظيرا ومنهجيا وفلسفة وتشكلا وتلقيا ، تتلوه دراسات معمقة في البابين التاليين ، تناقش القضايا النظرية المتصلة بالسرد العربي بوصفه نموذجا يعكس سمات الأمة ، ورحلتها التاريخية إبداعا وتعبيرا ، بعيدا عن الرؤى المجزأة والمجزِّئة ، والمبتسرة والمتجاهلة لأشكال سردية أبت أن تلج ضمن التقعيد النقدي ، ونأى عنها الدارسون متغافلين أو متعالين أو مهملين أو منتصرين لأشكال بعينها دون غيرها ، فظلت تلك السرديات ، تنتظر من يرنو إليها ، ويضعها ضمن بحوثه وسعيه في اكتناه شخصية الأمة العربية ، التي لا شك أن أحوالها تبدلت من البداوة والقبلية إلى الاستقرار والحضارة ، ومن الشفاهي إلى المكتوب والمدون ، ومن القصص البسيطة إلى القصص القصيرة والطويلة ،ومن الحقيقي الواقعي إلى الخيالي المؤلَّف ، جمعت بين العامي والفصيح ، والشعرية والنثرية .

والجامع المشترك لحكايات السرد العربي أنها كانت متوازية ومتوالية في آن : متوازية بأننا وجدنا حكايات البدو الرحّل مع أشعارهم في البوادي العربية، جنبا إلى جنب مع الكتب المؤلفة في الحواضر العربية ، ومتوالية في إعادة سردها في أجيال متتابعة للأمة ، تقرؤها ، وتفهم ما كان عليه الأجداد من رؤى وأفكار وحيوات ومعايش ومعارك وشخصيات ، يمتزج التاريخي فيها بالآني ، والآني يتأسس على الثقافي المتوارث ، مع ملاحظة الأشكال المبتكرة التي ابتدعها المؤلفون الأجداد، وقبلتها الذائقة الجمعية ، ومن ثم اتسعت وتمددت ، حتى استقرت .

وفي نفس الوقت ، تعاطت بالإيجاب مع الأشكال المقتبسة مع الحضارات الأخرى قديما وحديثا ، وفي جميع الأحوال ، عبّرت عن نفسيات شعوبها . وفي كل ذلك كان المنهج المتبع : التنظير والتحليلي والتركيبي والمقارنة ، مع المقارنة في بعض الموضوعات، جاء التنظير بعرض جوهر القضية ، والتحليل لأبعادها المختلفة، والتركيب بإعادة لملمة أطرافها في رؤية كلية ، تتسق مع أهداف الدراسة، وأخيرا المقارنة على صعيد الثقافة والحضارة ونماذج من السرديات .

أيضا ، لم يتوسع الباحث في القضايا الفرعية ، المنشغلة بالجزئيات والاختلافات ، عاقدا العزم أن يكون ذلك في دراسات تالية ؛ لذا ، جاء تركيزه على الهدف الأساسي وهو كلية الرؤية وجماليتها وأبعادها المتعددة .

هوامش:

[1] ( Narrative and Identity :Studies In Autobiography , self and culture . Edited by : Jens Brockmeier , and Donal Carbough , 2001 , John Benjamins Publishing Co .Amsterdam, Netherland . Introduction P 3 . ينبه المؤلفان على أن تلك الدراسة تتقاطع مع حقول معرفية عديدة تشمل علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ ونظرية الأدب ،وعلوم الاتصال . انظر الصفحات 1-2

[2] ) Ibid, p 14 .

 


نشر منذ

في

,

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد