محمد إعلون: باحث في العلاقات الدولية – جامعة ابن زهر أكادير – المغرب
تقديــــــــم:
لقد أثار طرح مفهوم “الحلم الصيني” من طرف الرئيس الصيني الحالي “شي جين بينغ”، جدلا واسعا ليس فقط داخل الصين بل على مستوى العالم. فهناك من ينظر إلى هذا المشروع بعين الريبة والتخوف، وآخرون يرونه حلما مشروعا نظرا للمكانة التي حققتها الصين بشكل سلمي. لكن هناك الكثير من الأسئلة تطرح نفسها وعلى رأسها، ماهية الحلم الصيني، وعلاقته بالديمقراطية الصينية، وبسط المبادئ التي تؤطره، وإبراز علاقته ” بالحلم العالمي”. وقد تجاذبت الأراء حول مكوناته هذا الحلم وعلاقته بتطور ونماء الصين، والفرق بين ” الحلم الصيني” و “الحلم العالمي”، إلى غير ذلك من النقاشات حول هذا الموضوع. ولتوضيح مضامين هذا الحلم، قام الرئيس الصيني بشرحه من خلال مجموعة من الخطابات، حيث جاء في إحدى كلماته، حينما قال : ” إن تحقيق أهداف استكمال بناء المجتمع الرغيد والدولة الاشتراكية الحديثة والقوية والديمقراطية والمتحضرة والمتناغمة، وتحقيق الحلم الصيني للنهوض العظيم للأمة الصينية، عبارة عن تقوية الوطن ونهضة الأمة وإسعاد الشعب، وتمثل مثل الصينيين الأعلى، كما تمثل تقاليد أجدادنا المجيدة للسعي للتقدم”. وهكذا يلخص ” تشي جين بينغ” المغزى العام من الحلم الصيني، الذي يتخذ كأساس له الارتقاء بالصين وبشعبها إلى مصاف الأمم العظيمة، وتحقيق الرفاه الشامل للشعب الصيني أجمع. كما ذهب في كلمة أخرى مباشرة بعد انتخابه، حيث قال: ” أرى أن النهوض العظيم للأمة الصينية هو الحلم الأعظم للأمة الصينية منذ العصر الحديث. ويتحمل هذا الحلم رغبة الأجيال من الصينيين، ويمثل المصالح العامة للأمة الصينية والشعب الصيني، وهو توقع مشترك لكل أبناء الشعب الصيني”. فإذا لقي هذا المشروع/ الحلم قبولا واسعا داخل الصين، فإنه استطاع أن يفرز على المستوى العالمي تيارين متناقضين حول أهدافه الحقيقة وجدواه بالنسبة للعالم.
تحاول هذه الدراسة رصد العلاقة الجدلية بين الصعود الصيني وتطور الفكر الاستراتيجي للعملاق الأسيوي. والذي تجلى في تطور الخطاب الصيني على المستوى العالمي منذ عهد الإصلاح والانفتاح، والذي استحوذ ( الصعود الصيني) على اهتمام دول العالم كبيرها وصغيرها. وتقوم الدراسة على طرح فرضية نجاح الصين في خلق دينامية جديدة على مستوى الدبلوماسية العالمية من خلال إبداع مفاهيم جديدة بالموازة مع تحقيق تقدم في جل المجالات. وتحاول الدراسة أن تجيب على بعض الأسئلة مثل، ماهية جذور ومنطلقات الحلم الصيني؟ وماهي أهم مميزاته ومرتكزاته؟ وماهي العلاقة بين “الحلم الصيني” و “الحلم العالمي”؟
أولا: جذور الحلم الصيني ومنطلقاته التاريخية.
يرتبط الحلم الصيني بصيرورة تاريخية للشعب الصيني، ممتدة عبر مئات السنين. ويتأسس هذا الحلم على التجارب التي خاضتها الأمة الصينية، في إطار حضارة عريقة تمتد إلى حوالي 5000 سنة. هذه التجارب التي شهدتها الصين الحديثة، منذ تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949 على يد الزعيم “ماو تسي تونغ “، مرورا بمرحلة الإصلاح والانفتاح مع الزعيم “دينغ سياو بينغ” منذ 1978، وصولا إلى الآن، أي مرحلة إعلان ” الحلم الصيني” من طرف الرئيس ” شي جين بينغ”.
وتجدر الإشارة إلى أن مساهمة الصين في رفاهية المجتمع البشري ظلت حاضرة منذ قرون. فحسب الدراسة التي أجراها المؤرخ الاقتصادي البريطاني ” أنجوس ماديسون”، أثبت أنه خلال الفترة مابين القرن العاشر وأوائل القرن الخامس عشر، كان معدل دخل الفرد الصيني أعلى من نظيره في أوربا. بل حافظت على تفوقها الاقتصادي على المستوى العالمي لعدة قرون. حيث بلغت نسبة إجمالي الناتج المحلي للصين عالميا 33 % سنة 1820. غير أن تحالف القوى الدولية آنذاك على الصين بعد حرب الأفيون، وحدوث مشاكل داخلية وخارجية، أدى إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي الصيني من ثلث الإجمالي العالمي إلى خمسة بالمائة فقط .
لقد لعب الشاي الصيني دورا هاما في الصعود التجاري للصين، وخلق عجز في الميزان التجاري لدى البريطانيين. إضافة إلى مواد أخرى تمثلت في السكر والحرير والورق والنحاس، والخزف الصيني ومواد أخرى صدرتها الصين إلى الغرب. في المقابل حصلت الصين على الذهب والفضة بكميات كبيرة. هذه الوضعية في العلاقات التجارية لم يروق للإنجليز، مما حدا بهم إلى البحث عن بديل ومقابل في معاملتهم التجارية مع الصين. فكانت مادة الأفيون هي الحل السحري للمعضلة وكذا الكساد التجاري الذي هدد بريطانيا. حيث لجأت شركة الهند الشرقية إلى تشجيع تجارة الأفيون لكسب أموال طائلة وتوطيد نفوذها بالصين.
وكرد فعل على “سياسة الأفيون” التي ابتدعتها بريطانيا لإخضاع الصين، قام الامبراطور الصيني آنذاك بإصدار مجموعة من المراسيم لمنع تجارة الأفيون بمجموع البلاد، لكن ذلك لم يعمل على وقف هذه التجارة. مع بداية عام 1936، وفي سياق محاربة الافيون، دعا مجموعة من الموظفون السامون بالصين إلى سن قوانين وتشريعات تنظم تجارة الأفيون. غير أن تجارة هذه المادة والموزعين لها، استبقوا هذه القوانين وعملوا على إغراق الأسواق الصينية بتلك المادة. مما جعل الإمبراطور هذه المرة حازما في قرار تدمير مادة الأفيون بشكل شامل في منطقة قوانقزو. هذا القرار الذي عجل بالقضاء على هذه التجارة بشكل نهائي بحلول عام 1939.
لقد شكل توقف تجارة الأفيون، ضربة قوية لمصالح التجار الإنجليز. مما عجل برد فعل، تمثل في إغراق السفن الشراعية التجارية الصيني في نهر بيرل ومحاصرة الموانئ الصينية. كما قام الإنجليز بتصويب مدافعهم تجاه نانجينق للتأثير على المفاوضات التي كانت دائرة هناك بين الصينيين. وقد ساهم ذلك بشكل كبير في تخلي الصين عن هونغ كونغ للانجليز، ودفع غرامة قدرت بواحد وعشرون مليون جنيه استريلني، إضافة إلى فتح موانئ الصين أمام التجار الأجانب، ودخلت بذلك الصين فيما يسمى ” قرن الإذلال” . ولعل هذا ما جعل الصينيون منذ ذلك الحين، يسعون إلى محو هذا العار والذل الذي لحق الأمة الصينية واستباحة أراضيها وخيراتها من لدن الأجانب. فكان ذلك محركا أساسيا لانبعاث الصين وبحثها عن طرق ووسائل لتحقيق استقلالها ونهضتها وريادتها للعالم.
لقد شكل الحلم الصيني الدافع الرئيسي لتحقيق ما تصبوا إليه الصين منذ مئات السنين، والذي تجلى من خلال تطور الأمة الصينية واستقرارها، بل أن هذا الحلم عاش مع الصينيين طيلة مسيرة تطور الأمة الصينية. فكلمة “الحلم” تعني للصينيين كل ما هو مرتبط بالاتجاه نحو المستقبل، وهذا هو الهدف الذي سطره الشعب الصيني ولا يزال يحترمه. أما كلمة ” الصين ” فهي ترتبط بمجموع الأرض الصينية، وجميع الشعب الصيني. إذن فهذا الحلم، بالإضافة إلى كونه متواصل ويمتد عبر التاريخ، فهو مرتبط بالشعب والأمة الصينية بدون استثناء، كما يعتبر بمثابة المثل والغاية السامية للشعب الصيني، كما يمثل له المستقبل المنشود القائم على سعادة الجميع، وهو بذلك نابع من الحس المشترك لكل الصينيين، من كفاحهم المشترك، وتجاربهم المتعددة، واحترامهم لتاريخهم وهويتهم الوطنية. كما يهدف الحلم الصيني بالدرجة الأولى إلى بناء مجتمع شامل الرفاهية، وتخليص نحو 1.3 مليار نسمة من الفقر، وتوفير تطبيب جيد، وتعليم حديث، وشغل محترم، وظروف عيش حسنة لا ينقصها أي شيء من الأساسيات.
ثانيا: أسس ومميزات الحلم الصيني:
إن ما يميز الحلم الصيني، هو الخطاب الجماعي الذي يتضمنه من قبيل الأمة، الشعب، جميع الصينيين، حيث تضمنت كلمة الرئيس ” شي جين بينغ” في تفسيره لهذا الحلم أن : “الحلم الصيني حلم الأمة وحلم جميع الصينيين أيضا” ، وهو بذلك يبرز حضور قيمة الجماعة عوض ” القيمة الفردانية” في الثقافة الغربية. والحلم الصيني بهذا المعنى يتخذ كمرجعية له الثقافة التقليدية الصينية، التي تقوم على وضع المسؤوليات والوجبات في المقدمة، وعدم الاقتصار على الحقوق فقط، كما أنه يقوم على قيم التوازن والانسجام والتسامح بين جميع الشعب الصيني، وهو بذلك ينطلق من الشعب من خلال المسؤوليات ليعود إليه عن طريق الفوائد والحقوق، وهذا ما يؤكده الرئيس ” بينغ”، حين قال أن : ” الحلم الصيني حلم الشعب في التحليل الأخير، ولابد أن يتحقق اعتمادا على الشعب، ويوجد فوائد للشعب باستمرار”.
فمنذ تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949، وتبني الصين طريق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وترسيخها خلال سياسة الإصلاح والانفتاح مع دينغ سياو بينغ عام 1978، منذ ذلك الحين والصينيون متمسكون ببناء صين اشتراكية حديثة، وديمقراطية، ومتقدمة، ومتناغمة فيما بين جميع مكوناتها، قائمة على الانسجام بين أصالة وتاريخ الشعب وبين كل ما هو جديد، وبين الخصوصية والعالمية. وقد تجسد هذا، من خلال عملية بناء طريق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، والذي كان أساسه تاريخ وتقاليد الشعب الصيني، والإصلاحات والإبداعات النظرية التي وضعها الصينيون منذ تأسيس الصين الحديثة. كما يتجلى ذلك أيضا من خلال دمج النظرية والممارسة العملية، فيما يخص صيننة الماركسية، حيث تم ذلك من خلال دمج نظرية الاشتراكية العلمية مع ممارسة البناء والثورة في الصين، وتأسست بذلك النظرية الماركسية ذات الخصائص الصينية .
وما يميز هذه الطريقة، هو اعتمادها على العمل والنضال، والارتباط بتقاليد وتاريخ الشعب وهويته، مع استشراف المستقبل والانفتاح على الجميع في إطار من التسامح وقبول الأخر، خلال عملية الاندماج في المجتمع العالمي، ولعل هذا ما ينطبق على المثل الصيني الذي يقول : ” لن يكون الجبل عاليا إذا كان رفيعا، ولن يكون النهر عميقا إذا كان ضيقا”. في هذا السياق جاء في إطار الجلسة الكاملة الثالثة للدورة الثامنة عشر للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني التي أقيمت عام 2014، أن الصين بعد سياسة الإصلاح والانفتاح، ستعمل على الاستفادة من جميع إنجازات الحضارة الإنسانية وتجاربها، وستأخذ دروسا من التاريخ بإيجابياته وسلبياته، وستتبنى المفاهيم والأفكار والقيم العالمية، وتدخلها إلى الطريق الصيني والمؤسسات الصينية.
ولعل ما يميز الحلم الصيني هو ارتباطه بمفهوم التنمية الشاملة، وذلك من خلال تحقيق تقدم المجتمع وازدهاره، والحفاظ على هذا التقدم لتستفيد منه الأجيال القادمة، وكذا تحقيق المساواة والعدالة بين الجميع. كما أن الحلم الصيني يسعى إلى تحقيق التقدم في شتى المجالات، مع إعطاء الأولية للاقتصاد، كونه محركا لتنمية جميع القطاعات الأخرى. وبهدف تحقيق تنمية مستدامة خلال تحقيق التقدم وتطوير الاقتصاد، لا بد من احترام البيئة والحياة الإيكولوجية للشعب الصيني والعالم. وستسعى الصين في هذا الصدد، إلى ابتكار نمط إنتاج وعيش يتلاءم مع الخصوصية الصينية وللإمكانيات المتاحة لها .
انطلاقا مما سبق، يمكن القول أن مفهوم “الحلم الصيني” يأتي في سياق التحولات الكبرى التي تعرفها السياسة الداخلية والخارجية للصين، وكذا تكريسا لسياسة الشعارات الكبرى لدى الزعماء الصينيين منذ تأسيس الجمهورية الشعبية إلى الآن. فقد طرح الزعيم ” ماو تسي تونغ” مفهوم ” الماوية” الذي عمل من خلاله على المزج بين شيوعية لينين وماركس، هذا المفهوم الذي كان بمثابة لوحة قيادة بالنسبة للثورة الثقافية التي شهدتها الصين، بإيجابياتها وسلبياتها المتعددة. أما الزعيم “دينغ سياو بينغ” الذي حاول الاستفادة من أخطاء سابقيه، فقد طرح مفهوم “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، والذي ارتكز عليه في سياسة الإصلاح والانفتاح التي انتهجها على المستوى الداخلي والخارجي. كما يمكن ذكر مفاهيم ” التنمية العلمية” و “التمثلاث الثلاث” التي جاء بها رؤساء الصين بعد الزعيم “دينغ”. ثم حاليا يأتي الرئيس “تشي جين بينغ” ليطرح مفهوم ” الحلم الصيني” وذلك مع أول خطاب له كرئيس للصين.
إن أبرز ما يمكن تسجيله في هذا الصدد، يتجلى في كون الحلم الصيني بمثابة العقيدة التي جاء بها الرئيس الصيني الجديد ليلهب حماس الجماهير، وما يدل على ذلك الاهتمام الإعلامي الكبير بالمفهوم الجديد وامتداح خصاله ومزاياه. كما أن المؤسسات الأكاديمية بالصين هي الأخرى ساهمت في الدعاية لهذا المفهوم. وهذا أحد أهم المراكز البحثية في الصين، دعا إلى إبداع مقترحات لجعل مفهوم “الحلم الصيني” موضوع بحث ودراسة. كما أنه على المستوى الشعبي، فقد استطاعت أغنية شعبية موضوعها الحلم الصيني أن تلهب حماس الجماهير، حيث حققت مبيعات هذه الأغنية أرقاما عالية.
ثالثا: الحلم الصيني والحلم العالمي أية علاقة؟
إن البعد العالمي للحلم الصيني، يرتبط بعموم ساكنة العالم، حسب الرئيس ” شي جين بينغ”، والذي يرى أيضا أنه حلم ينسجم مع ” الحلم العالمي” الذي تصبو إليه جميع شعوب العالم. ويتجسد هذا الانسجام والاندماج، من خلال كون الشعب الصيني، حريص على الانفتاح على شعوب العالم في إطار من التسامح وتبني نمط إنتاج مبني على التنمية المستدامة لبقية شعوب العالم. وبناء عليه، فالحلم الصيني يتجلى على مستويين، الأول يتمثل في السياسية الداخلية للصين والثاني من خلال سياستها الخارجية.
فحسب المسؤولين الصينيين، يتجسد هذا الحلم في التكامل بين ما هو داخلي وما هو خارجي، أي تحقيق مصلحة الشعب الصيني لا تنفصل عن تحقيق مصلحة شعوب العالم. غير أن البعض يرى في الحلم الصيني تجسيدا لتفكير الصين في إعادة أمجاد “الامبراطورية الوسطى العظمى”. في مقابل هذا الرأي، يدافع الصينيون عن كون منتقدي الحلم الصيني والنهضة الصينية لم يفهموا التاريخ الصيني بشكل جيد. حيث عرف الصينيون من القدم بتمسكهم بمفاهيم السلم ونبذ الحرب واستحضار الحوار، والاحترام للاخر شعبا وثقافة وتاريخا، وهي كلها مميزات الأمة الصينية منذ القدم.
وما يزكي طرح المدافعين عن هذا الحلم، هو مساهمة الصين في نمو الاقتصاد العالمي، عبر تنشيط التجارة الدولية وتحريك عجلة الاقتصاد، مما يؤثر إيجابا على باقي الاقتصاديات الوطنية. كما تعمل على تصدير المنتجات الاستهلاكية والحاجيات الأساسية، والتي تجمع ما بين الجودة والثمن الرخيص، الشيء الذي يلبي حاجات فقراء العالم. كما تتجسد مساهمة الصين في الاقتصاد العالمي بشكل مباشر، عندما وقعت الأزمة المالية في شرق آسيا عام 1997، مما أثر على اقتصاديات دول المنطقة وانخفاض قيمة عملاتها. فتدخلت الصين بشكل مسؤول، وأعلنت عن عدم تخفيض قيمة عملتها الرنمينبي، بغية إرجاع الاستقرار الاقتصادي للمنطقة. وساعدت الإجراءات التي اتخذتها الصين، على تحفيز نمو اقتصاديات شرق آسيا، عن طريق رفع واردات الصين من هذه البلدان بكميات كبيرة. ومرة أخرى، وخلال الأزمة العالمية سنة 2008، اتخذت الصين مجموعة من التدابير والإجراءات، من بينها استثمار 4 تريليونات لتحفيز الاقتصاد الوطني، الشيء الذي انعكس إيجابا على انتعاش الاقتصادي العالمي. ولقيت الصين اعترافا بمجهوداتها من طرف المؤسسات الدولية، حيث صرح انذاك، رئيس البنك الدولي ” روبرت زوليك” حيث قال : ” اتخذت الصين إجراءات فعالة جدا لمواجهة الأزمة العالمية. ولم تهتم الصين بهذه الإجراءات فحسب، بل لعبت دورا هاما في الاقتصاد العالمي. واستفاد بعض الشركاء التجاريين للصين من انتعاش الاقتصاد الصيني الذي تحفزه المطالب المحلية، الأمر الذي ساعد على بناء الثقة على نطاق العالم” .
إن الحلم الصيني في نظر هؤلاء، يقوم على مبادئ السلام وانسجام وتناغم العالم، وتعايش جميع شعوبه. كما يروم إلى تحقيق الرخاء والازدهار والنهضة المشتركة بين الصين والعالم. وهذا ما يفند نظرية سعي الصين إلى التوسع وتحقيق ازدهارها بالقوة على حساب الآخرين. بل قامت بنهضتها في إطار سلمي، أساسه النمو الاقتصادي، والحوار الثقافي، والدعوة إلى حل الأزمات بشكل سلمي.
إذن، يرجع التوجه السلمي للصين، إلى وعيها بكون العالم أصبح أكثر ارتباط بين جميع أجزائه. فتنمية الصين وازدهارها سينعكس على باقي الأجزاء الأخرى، في إطار الاعتمادية المتبادلة وترابط المصالح بين جميع الوحدات الدولية، في ظل العولمة الاقتصادية ومجتمع المعلوميات. وتلتزم الصين بخلفيتها الثقافية، القائمة على السلام والتنمية المشتركة للجميع، الشيء الذي انعكس على سياستها الداخلية خلال مرحلة الإصلاح والانفتاح في إطار تطبيق “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، والتي استهدفت جميع الشعب الصيني، بعيدا عن التوجه ” الفرداني” الذي هيمن على السياسيات الغربية.
يرى الصينيون أن القيم الأخلاقية هي الموجه الرئيسي لسياستهم الداخلية والخارجية، وهي القيم المتجلية في الحلم الصيني المنشود، والتي تميزه عن الحلم الغربي. كما يتجسد في الحلم الصيني التفاعل الإجمالي بين القيمة الجماعية والمشتركة، والقيمة الفردية. إضافة إلى الموازنة والتساوي بين الحقوق والواجبات، وذلك في مقابل تدعيم الليبيرالية وتقديس الفرد والحريات الفردية في الثقافة الغربية منذ عصر الأنوار. وحسب الصينيون فإن هذه الأخيرة تميزت بإعطاء الأولوية للحقوق على الواجبات. في حين أن الثقافة الصينية، ومنذ القدم، تتأسس على القيم الأخلاقية، وتقدس الواجبات، التي تكون تجاه الجماعة، وهذا ما يؤكده المثل الصيني القديم الذي يقول : ” لا تفعل لغيرك ما لا تريد لنفسك”.
إن منظومة الأخلاق التي تعتمدها الصين على المستوى الداخلي، تنعكس على سياستها الخارجية. حيث تدعو الصين إلى الالتزام بمبدأ الواجبات والمسؤوليات في علاقات المجتمع الدولي، وذلك عندما يهيمن بقوة مبدأ الحق على هذه العلاقات، وإهمال واجبات الدول تجاه بعضها البعض، وتجاه المجتمع الدولي ككل. ويعتقد الصينيون أن تكريس مبدأ أولوية الواجبات، سيخلق عالما أكثر اتزان وتسامح، وبالتالي تفادي النزاعات والحروب فيما بين الوحدات الدولية. وهذا ما أكده تقرير الدورة الثامنة عشر للمؤتمر الوطني الشعبي، الذي تضمن تمسك الصين بمبادئ العدالة والمساواة والسلام، في علاقاتها الخارجية . كما تستند إلى المبادئ الأخلاقية وإحقاق مصالح جميع الشعوب، وتحقيق المنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة، وذلك خلال نهضتها الداخلية وانفتاحها على العالم.
تنطلق الصين من شمولية المجتمع البشري والمصلحة العاملة المشتركة لشعوب العالم، وتتخذ من ذلك منهجا لتحقيق الحلم الصيني. هذا الأخير الذي يرتكز على مختلف التجارب العالمية في التنمية، والتي استفادت منها الصين خلال بحثها عن طريقها الخاص في التنمية أطلقت عليه ” طريق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. في هذا الصدد، تدافع الصين عن أحقية الشعوب قي تبني أسلوب التنمية الملائم لها، واختيار النظام الاجتماعي الذي تريده. إلا أن هذا لن يتحقق إلا في إطار الاحترام المتبادل بين جميع الدول، واحترام جميع الحضارات والثقافات وأساليب التنمية لكل للشعوب دون استثناء.
حسب تقرير الدورة الثامنة عشر للمؤتمر الوطني الشعبي للحزب الشيوعي الصيني، تلتزم الصين بنهج تنمية مستديمة، لفائدة جميع الشعوب. وستسعى إلى المساهمة في تضييق الهوة بين الشمال والجنوب، ومساعدة الدول النامية لتحقيق تنمية شاملة ومستقلة. كما ستسعى الصين إلى الاحتكام إلى الحوار والتشاور خلال النزاعات التجارية. وفي هذا الإطار ستعمل على التنسيق مع مختلف الاقتصادات الكبرى لتحقيق السلم الاقتصادي. كما ستكون أكثر إيجابية خلال إدارة الشؤون الدولية، عن طريق المساهمة في تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، والمساهمة في تحرير التجارة وتشجيع الاستثمار، ومناهضة كل أشكال الحمائية التي تضر بالتجارة الدولية، حيث أكد في هذا الصدد، الرئيس الصيني ” شي جين بينغ” أنه : ” لن يتطور العالم على المدى الطويل على أساس أن عدد من البلدان تزداد ثراء بينما تكون المجموعة الأخرى من البلدان فقيرة ومتأخرة لمدة طويلة. ولا ينمي العالم بشكل أفضل إلا بنمو جميع الدول تنمية مشتركة. إن تصرفات إيذاء الدول الأخرى للتنمية الذاتية ليست أخلاقية ومستدامة”.
لقد انخرطت الدبلوماسية الصينية خلال الآونة الأخيرة، في التسويق للحلم الصيني. وقد انطلقت من المبادئ المؤطرة لعلاقات الصين الخارجية، ومبادئ التعايش السلمي التي سنتها الصين في تعاملاتها مع الوحدات الدولية، للتعريف بهذا الحلم، حيث اتخذت الدبلوماسية الصينية من هذا الأخير، موجها لخطابها الجديد، ومحددا لسلوكها الخارجي. ومنذ تولي الرئيس ” شي جيم بينغ” الحكم، أصبح الحلم الصيني من الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية الصينية.
ويعد حلم الشعب الصيني، في نظر الدبلوماسية الصينية، هو جزء لا يتجزأ من الحلم العالمي. كما يعتبر مساهمة صينية في تنمية وتقدم العالم، وبعث طاقة إيجابية في سبيل ازدهار جميع الشعوب. وتعقد الصين أمالا على إقامة شراكة وتحالف مع الدول الكبرى، لتحقيق الحلم العالمي، من خلال إقامة علاقات إيجابية ووثيقة بين الطرفين، بما يخدم الجميع بشكل متوازن. وتهدف الصين من خلال هذه الشراكة، تحقيق بيئة دولية سليمة، خالية من النزاعات والحروب، يكون الهم الشاغل بالنسبة للجميع، هو تحقيق أحلام مختلف الشعوب. غير أن هناك اختلاف بين الحلم الصيني والأمريكي والأوربي والروسي…، بناء على تاريخ كل من هذه الأحلام، والقيم التي تتأسس عليها، والأهداف التي سطرتها. وهذا ما يطرح تنافسا بين هذه الأحلام، الشيء الذي يستدعي التفاعل الإيجابي بينها، لأجل خلق بيئة دولية سليمة، ينعم فيها الجميع بالأمن والاستقرار. ولن يتحقق هذا، إلا من خلال توازن واستقرار العلاقات بين القوى الكبرى.
وفي إطار سعي الصين المساهمة في خلق البيئة الدولية السلمية، والتنسيق مع القوى الكبرى، قام الرئيس الصيني ” شي جين بينغ”، مباشرة بعد توليه الحكم بزيارة روسيا، وتوقيع إعلان مشترك حول تعزيز العلاقات الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، إضافة إلى عدد من الاتفاقيات التي أطلق عليها ” عقود القرن”، والتي شملت مختلف الميادين. كما عبرت الصين عن رغبتها، في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتحقيق اندماجية أكبر بين الاقتصادين الصيني والأمريكي، في إطار من المنافسة الإيجابية وتعميق التعاون بينهما. في نفس السياق، تسعى الصين بجدية إلى تطبيق ” الخطة الاستراتيجية للتعاون بين الصين وأوربا حتى عام 2020″، بهدف تعزيز التعاون بين الطرفين، في شتى المجالات .
اتخذت الصين من العامل الاقتصادي، وسيلة هادفة لتحقيق الرخاء والازدهار العالمي. ولعل التاريخ يعيد نفسه، من خلال عودة طريق الحرير إلى الواجهة مرة أخرى، لكن هذه المرة في شكل تكتلات اقتصادية، ساهمت الصين في تدعيمها، خاصة في قارة آسيا. ونذكر هنا، خطة إقامة ” المنطقة الاقتصادية على طريق الحرير”، التي طرحها الرئيس ” شي جين بينغ”، عند زيارته لآسيا الوسطى. كما عبر الرئيس الصيني، خلال زيارته لأندونيسيا، عن استعداد بلاده، لإقامة ” طريق الحرير البحري” مع دول الآسيان، خلال القرن الواحد والعشرين. وسارت الصين على نفس المنوال مع دولة الهند، التي سيتم معها بناء ” الممر الاقتصادي الذي يربط بين بنغلاديش والصين والهند وميانمار”.
في إطار تنفيذ ” الاستراتيجية الجديدة لطريق الحرير” أو مايطلق عليه “مبادرة الحزام مع الطريق” ، سعت الدبلوماسية الصينية إلى التحلي بمفاهيم الأخوة والصداقة والجوار والمنفعة المتبادلة، بغرض تصحيح الصورة النمطية التي ألصقت بها، ومفادها أن الصين تسعى إلى التوسع والازدهار على حساب الآخرين. كما تروم في علاقاتها بالدول المجاورة، إلى التمسك بالأخلاق وتحقيق المصالح المتبادلة، وتعميق الوعي بالمصير المشترك. في سبيل خلق فضاء ملائم للمبادلات التجارية، وتحقيق المصالح الاقتصادية المشتركة، في إطار من التعاون المتكافئ، في أفق تحقيق ازدهار جميع شعوب المنطقة.
تدخل علاقات الصين بدول الجوار، في إطار سياسة انفتاح الصين على الدول النامية، التي انتهجتها منذ تأسيس الجمهورية عام 1949. حيث تبادلت الصين الدعم والتأييد مع البلدان النامية ودول العالم الثالث، إبان فترة مناهضة الاستعمار. فكانت نقطة بداية الصداقة الصينية مع هذه البلدان، في إطار احترام مبادئ التعايش السلمي، والتزام الصين بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول. في هذا السياق، وخلال زيارته لإفريقيا، طرح الرئيس ” شي جين بينغ”، قضية التعاون بين الصين وإفريقيا، على أساس المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة. وقد تم التوقيع على أكثر من 40 اتفاقية تعاون بين الطرفين، بهدف تنمية البلدان الإفريقية، وتحسين معيشة شعوبها. وقد اقترح الرئيس الصيني على إفريقيا، نصيحة تهدف إلى تكريس “الحقائق والألفة والصدق”. كما سلكت الصين نفس المنهج مع دول منطقة بحر الكاريبي، من خلال التوقيع على مجموعة من اتفاقيات تعاون، شملت مختلف المجالات. وتعتبر البلدان النامية بالنسبة للصين، سندا قويا لها، سواء في الماضي أو الحاضر. بل تعلن الصين أنها تتعلم من هذه البلدان ومن تجاربها، في إطار من ” التعلم المتبادل”. في مقابل مساعدة الصين للبلدان النامية، دون فرض شروط مسبقة عليها، ولعل هذا ما يفند فرضية، كون الصين تمارس ” الاستعمار الجديد” على هذه الدول.
غالبا ما تعبر الصين عن مسؤولياتها تجاه جميع شعوب العالم، بصفتها عضو دائم بالأمم المتحدة، وكونها تجمع خمس ساكنة الكرة الأرضية. وفي هذا الإطار، تسعى الصين إلى المساهمة بشكل كبير في التنمية البشرية، وإعطاء شحنات إيجابية لتحقيق السلام العالمي. وتلتزم بالمشاركة مستقبلا في حل المشاكل الإقليمية والدولية، في إطار شمولي يمس جميع شعوب العالم. وتدافع عن إقامة نظام دولي جديد، أساسه التنمية الإنسانية، وذلك من خلال إنجازات إصلاحات كبرى، على رأسها إصلاح النظام المالي الدولي، وحل مشاكل التغيرات المناخية، وإيجاد حلول توافقية وسلمية لجميع النزاعات الإقليمية والدولية. كما تسعى الصين إلى لعب دور إيجابي في إقامة نظم سياسية واقتصادية دولية عادلة. وفي هذا الصدد، تدعو الصين البلدان الكبرى، إلى تحمل مسؤولياتها العظيمة تجاه شعوب العالم. وتدعوها إلى التنسيق الجماعي، في سبيل تحقيق العدالة الإنسانية وتنمية الكرة الأرضية، بهدف تحقيق الحلم العالمي .
خاتمــــة:
عموما يمكن القول أن استراتيجية «الحلم الصيني» هي مرحلة حاسمة ضمن سيرورة الصعود الصيني، وذلك في سياق الإنجازات والمشاريع الإصلاحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي حققها الزعماء الصينيون السابقون. خاصة بعد سياسة “الإصلاح والانفتاح” مع الزعيم دينغ سياو بينغ في أواخر السبعينات، ثم مع مشروع ” المجتمع المزدهر باعتدال” مع الرئيس جيان زيمينغ، ومرورا بالعمل على تحقيق ” المجتمع المتناغم” مع الرئيس هو جينتاو، وأخيرا الوصول إلى المشروع الصيني الكبير مع الرئيس الحالي شي جين بنيغ ” الحلم الصيني”، والذي هو عبارة عن تلخيص التجارب السابقة وتكييفها مع واقع الصين ومكانتها في البيئة الدولية.
لكن بالرغم من الزخم الأكاديمي والإعلامي الذي حضي به مفهوم “الحلم الصيني”، فإنه لايزال في طور البناء النظري، فهو لم يتبلور بعد بشكل كامل سواء على المستوى السياسة الداخلية أو الخارجية. ويمكن القول كذلك أن مفهوم “الحلم الصيني” لا يزال مبهم وغير واضح المعالم، ولعل هذا الغموض هو سر جاذبيته لكونه متعدد التأويلات والتفسيرات.
اترك رد