الحزن طاقة … حسن محمد أحمد محمد

حسن محمد أحمد محمد: جامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب – قسم علم النفس

ليست كل ما يأتي الأحزان ألم فقط ، فنحن إذا تأملنا المصائب والمحن التي تنزل بالإنسان ـ سواء على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة ـ بالألم لوجدنا أن الشعور أو الإحساس بالألم الناجم عنها يشكل طاقة إبداعية وخلاقة يمكن للإنسان استخدامها والاستفادة منها ، بحيث تتفجر من ذلك القلب الجريح براكين من الإبداع الكامن ، وتتدفق شلالات المشاعر والأحاسيس الجياشة ؛ لذلك نجد كثيراً من المبدعين يقولون : يولد الإبداع من رحم المعاناة والألم . وسنستعرض في هذه الأسطر بعضاً من نماذج الطاقة التي فجرها لنا الحزن من بين ثنايا الألم فتحولت إلى شكل الإبداع الشعري . ولا يعني هذا أن الشعراء هم المبدعون وحدهم ، فهناك من الفنون أنواعاً متعددة ومتنوعة ، غير أن اختيارنا قد وقع على إبداع قبلة الشعراء من ذوي القلوب الرقيقة والمشاعر المرهفة عند التعبير عما يجيش بخاطرهم .
نذكر في هذا المقام قصة شاعر جاهلي قديم ، وأحد أصحاب المعلقات السبع أو التسع ، وهو ابن الملك حندج بن حجر إنه الشاعر امرئ القيس الملقب بالملك الضليل لكثرة مجونه وخلاعته الذي توجه إلى قيصر الروم طلباً لمساعدته في استعادة ملك أبيه المقتول ، إلا أن القيصر قد غدر به حين أهداه حلة مسمومة وطلب إليه أن يلبسها وهو في طريقه إلى دياره ، فلما ارتداها تقرح جسده فقال في ذلك قبل أن يموت يرثي نفسه :
فبدلت قرحاً دامياً بصحة * وبدلت بالنعماء والخير أيؤسا
ولو أن نوماً يشتى لاشتريته * قليلاً كتغميض القطا حيث عرسا
فلو أنها نفس تموت صحيحة * ولكنها نفس تساقط أنفسا
يرثي امرئ القيس نفسه في هذه الأبيات وهو طريح الفراش قبل أن يموت ، فنراه وقد جلله الندم على ذهابه للقيصر ففعل به ما فعل ، في البيت الأول ، كما تراه يشتهي النوم ويشبه نفسه بطائر القطا ـ الذي نسميه السقد في السودان ـ ، وقد بلغ به الألم غايته في البيت الثالث وهو يرى جسمه يتقرح وقد تساقط منه اللحم ؛ ولأجل ذلك أطلق عليه لقب (ذو القروح) . إنها الروعة في أسمى مجاليها حين يتحول الألم إلى أبات تخلد لنا شاعراً كامرئ القيس .
وقد صور لنا الشاعر العربي (أبو الطيب المتنبئ) أحاسيسه فصرنا كأننا نراها ونلمسها مما جعلنا نتمثلها في حياتنا فكأننا قد توحدنا معه بهذا البيت :
لا تحسبوا رقصاتي بينكم طرباً * فالطير يرقص مذبوحاً من الأم
فلولا إحساس المتنبئ بالألم لما بلغنا مثل هذا البيت الرائع الذي نتمثله كلما ألم بنا حزن فكتمناه ولم نظهره وطويناه في الفؤاد.
ويتجلى لنا الإبداع في أبهى حلله وأجمل صوره في مرثية أعمى المعرة الشاعر أبو العلاء المعري حين رثى صديقاً له ، بعد أن اخترمته (اختطفته) يد المنية ، فقال رائعته التي أعتقد أن الزمن لا يستطيع أن يمحوها وإن تطاول:
غير مجد في ملتي واعتقادي * نوح باك أو ترنم شادي
أبكت تلكم الحمامة أن غنت * على فرع غصنها المياد
يرى المعري أنه لا فائدة ترجى من البكاء والنواح أو حتى الغناء بعد أن يسطو ملك الموت على أرواحنا أو أرواح أعزاء لنا ، وهو بهذا قد لخص لنا حقيقة الموت ، إنها الحقيقة التي لا تدانيها حقيقة في دنيانا هذه .
قال رجل خرجت في بغاء (أبحث) بعير لي فسقطت علة امرأة في فناء ظلها (دارها) لم أر لها شبها ، فقالت : ما أوطأك رحلنا يا عبد الله ؟ قلت : بعير لي أضللته فأنا في التماسه . فقالت : أفلا أدلك على من هو أجدى (أنفع) عليك في بعيرك منا ؟ قلت : بلى . قالت : الله ، فادعه دعاء واثق لا مختبر . قال فشغلتني والله بقولها عن وجهها . فقلت : يا هذه ، أذات بعل (زوج) أنت ؟ قالت : كان فمات يرحمه الله . فقلت : هل لك في بعل لا يعصيك ؟ فأكبت (أطرقت) على الأرض طويلاً ثم رفعت رأسها فقالت :
كنا كغصنين في الأرض غذاؤهما * ماء الجداول في روضات جنات
فاجتث خيرهما من أصل صاحبه * دهر يكر بأحزان وترحات
وكان عاهدني إن خانني زمن * أن لا يواصل أنثى بعد مثواتي
وكنت عاهدته أيضاً فشط به * ريب المنون لمقدار وميقات
فاصرف عنانك عمن ليس يصرفه * عن الوفاء خلابات التحيات
لا أعتقد أنه سيخامرك (قارئي العزيز) أدنى شك في أن هذه الأبيات قد خرجت من قلب واله بالحب ومفعم بالمشاعر والأحاسيس الجياشة والمتدفقة . إذاً فقد صدق من قال : إن الإبداع يولد من رحم المعاناة والألم . فلولا وفاة زوج هذه المرأة لما سمعنا مثل هذه الأبيات التي تنبئ نع صدق مشاعر قائلها .
وقبل أن نختم هذه الأسطر يجدر بنا أن لا ننسى مطلع قصيدة أبي البقاء الرندي :
لكل شئ إذا ما تم نقصان * فلا يقر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدته دول * من سره زمن ساءته أزمان
إن البيتين في غاية الروعة والجمال رثى بهما أبو البقاء إحدى المدن الأندلسية حين أخذها الفرنجة من العرب المسلمين ، بعد أن دبَّ الضعف والخوار في الحضارة العربية الإسلامية.
ونختم حديثنا هذا بهذه الأبيات التي تفتقت عنها عبقرية قائلها الشاعر المعروف بديك الجن ، بعد أن قتل زوجته التي كان يهيم بها عشقا وهياماً ، غير أنه قد قتلها ظلماً حين شك في سلوكها ، ولم ينفعه الندم حين علم بحقيقة ظلمه لها فقال :
قمر أنا استخرجته من دجنة * لبليتي وجلوته من خدره
فقتلته وله عليَّ كرامة * ملء الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتاً كأحسن نائم * والحزن ينحر عبرتي في نحره
ليتك تستطيع أن نتأمل الصورة الجمالية في البيت الثالث ، حيث نرى المقتول مسجى والقاتل منحن فوقه وعبراته (دموعه) تسيل لتستقر في نحر القتيل ، وبعد كل هذا يرى القاتل القتيل في أجمل صوره كأنه مستقرق في النوم .


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ مواهب ابراهيم
    مواهب ابراهيم

    السلام عليكم ورحمة الله .نعم يولد الابداع من رحم المعاناة .ولكن لم تذكر لنا اثر الحزن على نفسية الفرد، وعلى ما يعانيه ويكابده ، والجدير بالذكر أنه لم يرد الحزن في القرآن الاونهى الله عنه ..لا تحزن .

  2. الصورة الرمزية لـ مواهب ابراهيم
    مواهب ابراهيم

    السلام عليكم ورحمة الله .نعم يولد الابداع من رحم المعاناة .ولكن لم تذكر لنا اثر الحزن على نفسية الفرد، وعلى ما يعانيه ويكابده ، والجدير بالذكر أنه لم يرد الحزن في القرآن الاونهى الله عنه ..لا تحزن .

  3. الصورة الرمزية لـ باحثة دكتوراه
    باحثة دكتوراه

    مقال جد رائع .. نعم الإبداع ينبجس من بوتقة الألم والمعاناة

  4. الصورة الرمزية لـ باحثة دكتوراه
    باحثة دكتوراه

    مقال جد رائع .. نعم الإبداع ينبجس من بوتقة الألم والمعاناة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: