فريد مناصرية: باحث دكتوراه – جامعة الدكتور يحي فارس – الجزائر
مقدمة:
إن المتتبع لحركة ومسار النقد الأدبي العربي والكتابات التي عنيت بالأدب النسوي والكتابات النسوية، ليقف أمام طرق مختلفة ومتشعبة يختلف كل منها عن الآخر، ولعل هذا راجع بالأساس إلى تعدد الرؤى والمفاهيم ووجهات النظر، إذ يبدأ الإختلاف في وضع إصطلاح ومفهوم واحد موحد للأدب النسوي، ثم ينتقل الإختلاف إلى صورة المرأة و ما تحمله من دلالات تتمايز عن الآخر ممثلا في الرجل، ثم الإختلاف في طبيعة المرأة نفسها ومكانتها في الثقافة العربية والإسلامية. إذ “برزت لنا الثقافة بوجهها المذكر، حتى لكأن الثقافة رجل، فحسب ” (1).
إلى ذلك تشهد الساحة الأدبية العربية والعالمية تغيرا كبيرا في مجال الكتابة الأدبية والثقافية، ولم يعد الحديث عن المرأة وانشغالاتها حبيس الكتابة الذكورية، بل أصبح للمرأة الشأن في ذلك، فـ “كتبت” و”تفننت” و”أبدعت”، وصنعت لنفسها كيانا لغويا وثقافيا، تمايزت به عن الآخر الذي طالما اتهم بالانحياز و التضييق على المرأة خاصة في ثقافتنا العربية والإسلامية.
المرأة واللغة:
إن الباحث والمتتبع لصورة المرأة باعتبارها كيانا لغويا، ليقف أمام فريقين متقاطعين يدعي كل منهما “الأصل”، كتابات ذكورية هيمنت وأرست لعقود من الزمن لـ “التأصيل الذكوري”، وبالمقابل نجد كتابات نسوية عربية حديثة العهد، طاعنة في الهيمنة الذكورية واللغوية منها خاصة، إلى ذلك يجيبنا الناقد عبد الله الغذامي في رده على نوال السعداوي ومؤلفها “الأنثى هي الأصل” بقوله: ” وضعت نوال السعداوي كتابا حماسيا بعنوان ( الأنثى هي الأصل )، وكأنها ترد بذلك على مقولة ابن جني عن كون التذكير هو الأصل. وما نلاحظه في كتاب السعداوي أن الضمير اللغوي عندها دائما ضمير مذكر مما يجعلها تحيل إلى ذكورية الأصل اللغوي دون أن تشعر. ولنقرأ من الكتاب هذه الفقرة: ( إن القلق لا يحدث للإنسان إلا إذا أصبح واعيا بوجوده وأن هذا الوجود يمكن أن يتحطم، وأنه قد يفقد نفسه ويصبح لا شئ، وكلما كان الإنسان واعيا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه). وردت هذه الفقرة في وسط كلام عن قلق المرأة المثقفة وعن مشاكل النساء العاملات. والحديث خاص ومركز عن المرأة ومشكلة الأنوثة، ولا محل للرجل أو الذكورة في ذلك المبحث، ومع هذا فإن مؤلفة كتاب (الأنثى هي الأصل) تتحدث عن ضمير مذكر وتحيل إلى غائب مذكر في وسط الحضور المؤنث” (2).
يقدم لنا عبد الله الغذامي تبريرا يراه منطقيا في أن الأصل اللغوي هو للذكر وليس للأنثى خلاف ما تروج له كثير من الكتابات النسوية، ولكن بالمقابل نلمس في الخطاب النقدي للغذامي نوعا من التحيز والمبالغة خاصة في وسمه جميع الكتابات اللغوية النسوية بأنها ذكورية الأصل ذلك أنه لم يستثني أي كاتبة أو كتابة نسوية، وفي هذا يقول: ” … ومثلها مي زيادة التي تقف في محفل نسوي وتتحدث بوصفها امرأة تمثل الجنس المؤنث، وتخاطب مستمعات من النساء فتقول لهن:
(أيتها السيدات…..
أنا المتكلمة ولكنكن تعلمن أن ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، إنما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها)
وعلى ذلك أمثلة كثيرة منها كلمتين في تأبين (باحثة البادية) وغيرها. وجميعها في مناسبات انفرد النساء في الحضور متكلمات ومستمعات، وحل الضمير المذكر بينهن على الرغم من غيابه الحسي. ويحدث هذا عند كل الكاتبات…” (3).
إن المتطلع على آراء الغذامي وغيره من النقاد العرب الذين عنوا بقضايا الأدب النسوي والكتابات النسوية، ليجد أن معظمها محكوم بحبال الثقافتين العربية والإسلامية .
فالكتابات النقدية الذكورية التي اهتمت وعالجت الكتابات النسوية خاصة كتابات عبد الله الغذامي ركزت بالخصوص على مؤلفات ” نوال السعداوي”، ولعل ذلك راجع بالأساس إلى الموضوعات التي تناولتها السعداوي في كتاباتها كالدين والعادات والتقاليد والجنس وغيرها من المواضيع التي كان يحظر على المرأة الولوج في غياباتها أو التحدث والكتابة عنها.
كما أن النقد الموجه لنوال السعداوي تعداه إلى بني جنسها، ذلك أن كتاباتها تدخل في حرية المرأة نفسها تقول “ليلى بلخير” في مؤلفها “قضايا المرأة في زمن العولمة” : “إن اجبار المرأة على لبس الحجاب ضد حقوق الإنسان لإنه تدخل غير مشروع في حريتها الشخصية” (4).
صورة المرأة في المرآة الذكورية:
تختلف وتتعد صورة المرآة بتعدد واختلاف الثقافات والحضارات، وتتغير بتغير الأزمنة والأمكنة… فصورة المرأة في الثقافة العربية والإسلامية تختلف عنها في الثقافة الغربية، كما أن صورة المرأة قديما تختلف عنها حديثا، بل إن صورة المرأة الحداثية تختلف إختلافا وثيقا وجوهريا عن المرأة مابعد حداثية، ولعل هذا راجع بالأساس إلى عوامل تاريخية وثقافية وسوسيولوجية وسياسية ودينية، كما أن العولمة لها إسهامها وتأثيرها المباشر على العلاقة الثنائية بين الأنا والآخر (المرأة والرجل).
هذا وتحيلنا أول صورة للمرأة في تاريخ الكتابة الذكورية إلى حكايات “ألف ليلة وليلة” ، إذ يعتبرها عبد الله الغذامي صورة تاريخية، ثقافية، وحضارية.. فيقول: ” إن الوقوف على صورة المرأة من خلال شهرزاد سوف يكون وقوفا على زمن ثقافي وحضاري كامل. وهو وقوف على تاريخ معنوي واعتباري يكشف عن المرأة بوصفها نموذجا وبوصفها لغة. كما يكشف عن المخيال الثقافي العربي ومركز المرأة فيه” (5).
ولكن بالمقابل يبقى ذكر المرأة في الكتابات السردية القديمة “أداة” و”وسيلة” لإرضاء الآخر ممثلا في الرجل، والدخول إلى قلبه، وهاته الرؤية تتوافق فيها “لورا ميلفي” مع “عبد الله الغذامي” ، إذ يقول هذا الأخير: “ويظل الحكي ولغة المرأة في هذه الفترة وسائل للرجل، ومن أجل الرجل. وكما تقرر إحدى الباحثات فإن (المتعة في السرد الكلاسيكي ليست سوى متعة للرجل دون المرأة) (6).
المرأة باعتبارها صورة للموت:
إن المتتبع لصورة المرأة في الثقافة العربية القديمة، ليجد عديد الأشعار والأمثال التي تعكس صورة الموت لواقع المرأة العربية، وفي هذا يقول الغذامي ضمن مقاله المعنون بــ صورة الموت : ” من الأمثال الحية في الجزيرة العربية مثلٌ يقول: (البنت مالها إلا الستر أو القبر) والمراد بالستر الزوج …… ويشرح عبد الكريم الجيهمان هذا المثل بقوله (إن البنت لا بد لها من أحد أمرين إما أن تُزوجها وتسترها وتستر نفسك …. وإما أن تدفنها وهي حية في التراب. وبهذا تستر عورتها الستر الأبدي). ويتجانس هذا المثل مع آخر مطابق له يقول: (البنت للجوز ولا للقوز) ومعنى هذا أن البنت للزوج أو لكثيب الرمال. وهذا المثل الأخير من الأمثال الحية لدى قبيلة هذيل) (7).
المرأة باعتبارها صورة للحياة:
بالمقابل نجد المرأة في الثقافة العربية خاصة القديمة منها، تتحول إلى رمز للحياة والنماء و كل ما يبعث للحب، بل وتعداه الأمر إلى التقديس والعبودية حتى صارت لدى كثير من الناس والشعراء آلهة تعبد.. ويرجع الغذامي السر في ذلك إلى العلاقة التي تربط بين الأنا ممثلا في الرجل والآخر ممثلا في المرأة، إذ يقول: ” ولكن الصورة تتغير فيما لو لم تكن المرأة (بنتا)، أي أن نوع العلاقة بين الطرفين هو حَكَم الرؤية وضابطها. فالمرأة التي ليست من محارم الرجل تصبح مصدرا لنوع مختلف من النظر قد يبلغ حدا كبيرا من التقديس كأن تكون إلهة يعبدها الرجل ويذل بين يديها مثل الأصنام الثلاثة اللات والعزى ومناة التي عبدتها قبيلة هذيل (صاحبة المثل). وقد تصل المرأة عند العربي إلى منزلة قيادية سامية كأن تكون ملكة مثل الزباء وبلقيس، أو تكون مصدرا حيا للبهجة الإنسانية الصافية مثل نساء العرب المشهورات بما منحنه للرجل من حب خالد، ومنهن عبلة وعزة وبثينة وليلى..” (8).
نستشفي من كلام الغذامي أن الموجه والمحدد لصورة المرأة عند الرجل هي طبيعة العلاقة التي تجمعه بها، فكلما كانت المرأة في صورة محرم ممثلة في البنت مثلا، كانت صورة الموت أقرب.. والعكس، كلما كانت المرأة من غير ذي محرم كانت في الغالب الأعم رمزا للحياة وبعثها من جديد.
خـــــاتمـة:
يمكننا أن نجمل ما تقدم من آراء وأفكار عن صورة المرأة في ميزان النقد العربي ممثلا في كتابات عبد الله الغذامي، والتي هي في الحقيقة متوافقة مع كثير من آراء النقاد العرب، بل وحتى الناقدات العربيات ورؤيتهن لواقع وصورة المرأة في الثقافة العربية الإسلامية…
• ترتبط صورة المرأة في الثقافة العربية القديمة بـ: الحياة والموت والجسد والمتعة والغريزة والسيدة والمحبوبة والمعبودة… الخ من الصور التي تعكس طبيعة العلاقة التي تجمعها بالآخر (الرجل).
• كما تعتبر اللغة “عربية” كانت أو” أجنبية” حدا فاصلا في منح الرجل صفة “الأصل” و “المرأة” الفرع ، وفي هذا يستشهد كثير من النقاد على أحقية الرجل.
• إلى ذلك إختلفت صورة وطبيعة المرأة في عالمنا المعاصر وغدت المرأة تكتب وتبدع وتصنع لنفسها عالمها الذي يميزها عن الآخر، بل وتعداها الأمر إلى صياغة نظريات واستراتيجيات خاصة بها، وساعدها في ذلك التنوع الثقافي والحضاري للشعوب، وظهور عديد الفلسفات و المناهج والآليات مابعد حداثية (التفكيكية، النقد الثقافي، النقد النسوي …) التي فككت وهدمت الحواجز الفاصلة بين الأنا والآخر، وبحثت وحفرت في كثير من الأنساق المضمرة التي هي وليدة عوامل إجتماعية وسياسية ومؤسساتية، فعملت على تفكيكها وتقويضها حتى يكون للآخر نفس الحق في الكتابة والتعبير والإبداع.
الإحالات:
(1): “ثقافة الوهم” – مقاربات حول المرأة والجسد واللغة -، عبد الله محمد الغذامي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص103.
(2): “المرأة واللغة”، عبد الله محمد الغذامي، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء، 2006، ص: 18-19.
(3): “المرجع نفسه”، ص: 19.
(4): “قضايا المرأة في زمن العولمة”، ليلى محمد بلخير، دار الهدى للطباعة والنشر، الجزائر، 2006، ص49.
(5): “المرأة واللغة”، مرجع سابق، ص: 57.
(6): المرجع نفسه، ص75.
(7): “الكتابة ضد الكتابة”، عبد الله محمد الغذامي، دار الآداب، ط1، بيروت، 1991، ص: 18.
(8): المرجع نفسه، ص23.
اترك رد