الدين والتصوف من منظور أنثروبولوجي: هل هو لغز البيضة والدجاجة ؟

د. أحمد زغب: أستاذ التعليم العالي في الثقافة الشعبية جامعة وادي سوف الجزائر

المعلوم أن الدين نزل عن طريق الوحي الإلهي، على صفوة من عباده اصطفاهم وميزهم عن بقية الناس أو عن سائر أفراد مجتمعهم لتبليغ الرسالة المقدسة إليهم، ثم جاءت الطقوس التي تقرب الناس من الله، وتهدف إلى التطهر من الذنوب، التي جبل الإنسان على اقترافها مع تفاوت في كبائر الذنوب وصغائرها، ثم تطورت العلاقة بالله لتصبح حبا خالصا لوجه الله العظيم الذي يستحق تعظيم وتمجيد الإنسان الضعيف على رأي رابعة العدوية:
أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبُّ الْهَوَى وَحُبٌّ لِأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَ
فَأَمَّا الذِي هُوَ حُبُّ الْهَوَى فَشُغْلِي بِذِكْرِكَ عَمّنْ سِوَاكَ
وَأمّا الذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ فَكَشْفُكَ لِي الْحُجْبَ حَتَّى أَرَاكَ.
وهكذا ولد التصوف من رحم الدين، أو هو حالة متقدمة من حالات التدين، حين لا يكتفي المؤمن المحب للذات الإلهية، بالطقوس المقننة التي يتفق عليها الفقهاء، لأن التوتر القائم في نفسه قوي بفعل قوة العلاقة بينه وبين الذات الإلهية. وجدنا لدى المتصوفة طقوسا لا يقبلها الفقهاء الذين يكتفون بعلم الشريعة ،ومن ثم وقفوا مواقف مضادة من المتصوفة، الذين يأخذون نصيبا إضافيا من الحرية أو التحرر من قوانين الفقهاء فيتهمون بالزندقة أو البدعة بسبب ذلك وقد يتآمرون عليهم مع الحكام فتحدث الكوارث في حقهم مثلما حدث للحلاج والسهروردي.
ولما كان التصوف يتطلب حرية أكثر مما يمنحه الفقهاء، فقد رأينا محاولات عدة للتوفيق بينهما، لأن المتصوفة لا يكفون عن ممارسة طقوسهم، بل لهم قدرة كبيرة على التأثير على نفوس ووجدان العامة. فهم يحركون شغاف القلوب، ويهيجون المشاعر خصوصا باستخدامهم اللامعقول في خطابهم مثل الكرامة والروايات التي تجلب الأسماع والإعجاب معا، فقال الفقهاء – والمقولة تنسب للإمام مالك رحمه الله- من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، فرد عليهم المتصوفة بقولهم من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ثم اتفقوا على التوفيق بين الطرفين، فقالوا من تفقه وتصوف فقد تحقق.
ومازال كثير من الفقهاء في علم الشريعة يشنّون حملات شعواء على المتصوفة دون اعتبار حاجتهم المسيسة إلى الحالات التي يعيشونها، والتي لا يستطيع أن يطلع عليها أصحاب العلم الظاهر (أي :الاكتفاء بفقه الشريعة)، ومن ثم جاءت المقولة الشهيرة (( من ذاق عرف ومن لم يذق لم يعرف)).
هذا الدين من منطلق ديني، أو بعبارة أخرى الدين من داخله، اما إذا نظرنا إلى الدين باعتباره ظاهرة أنثروبولوجية، فالقول بأن الدين صادر عن الوحي الإلهي، لا يستطيع عالم الاجتماع التسليم به ؛ أولا: لأنه حل يوحي به إلينا الكسل العقلي- على حدّ تعبير د.يوسف شلحت، (نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص91) ؛ونستطيع أن نفسر به كل ما في الكون من ظواهر دون أن نتقدم قيد شعرة في معرفة أسراره وقوانينه.
ثانيا لأن بعض الديانات تخلو من الوحي والرسل ،بل وحتى الآلهة كالديانات الطوطمية. فلا بد إذن من تفسير علمي مبني على ما بين أيدينا من آثار ووقائع محسوسة.
عرّف بعض الفلاسفة الديانة بأنها نوع من الإحساس يجعلنا نسبح في بحر من الأسرار، فالفيلسوف فيورباخ يقول إنها غريزة تدفع الإنسان نحو السعادة وبرغسون يقترب منه في هذا المذهب إذ يقول بأنّ الإنسان مزود بالحدس أو الغريزة العارفة أو شعور داخلي بالحقيقة.
غير أن مشاهدة الوقائع التي يمكن تصنيفها إلى صنف: دين، والمقارنة بينها والبحث في العلامات المشتركة بينها والفارقة لها تجعلنا نقف على بعض النقاط الذي تشير بوضوح إلى الدين وهي قسمة الكون إلى قسمين :قسم طبيعي وقسم فوق طبيعي، قسم مقدس وقسم دنيوي، وإيمان الإنسان العميق بأن القسم الماوراء طبيعي يتحكم في القسم الدنيوي الطبيعيي.
إن مشاهدة الإنسان الأول للطبيعة والكون ولّد لديه هذا الإحساس العميق بالقوى الماوراء طبيعية، بسبب ضعفه وعجزه عن استيفاء حاجاته الأساسية، ومن ثم اللجوء إلى هذه القوى واسترضائها من أجل دفع ضررها وجلب نفعها.
وهكذا فإن النشأة الأولى لما يمكن ان يسمى دينا إنما كان حالة صوفية. أي إحساس قوي يعتري الإنسان بالعالم القدسي، ثم إن هذا الإحساس تحوّل بالدوام والاستمرار إلى معتقد والمعتقد عبارة عن أفكار مجردة كان لا بد من تجسيدها من أجل التعامل معها موضوعيا فكانت الأسطورة التي حولت الشعور الذاتي إلى حدث موضوعي.
ومن أجل ترسيخ الحدث الموضوعي جاءت الطقوس التي ترسخ المعتقد وتحيّنactualise الحدث المقدس الذي كان في الزمن البدئي وكانت الكائنات المقدسة تشكل الفاعلين الرئيسيين، ثم كان تقنين هذه الطقوس وترتيب وعقلنة المعتقد، ليصبح لدينا النظام الفكري والسلوكي والاجتماعي المسمى دينا. فهل ولد الدين من رحم التصوف؟.
إذا أخذنا برأي الأنثروبولوجيين فإن الدين بدأ لدى الإنسان البدائي حالة صوفية، ومن ثم فتطوره فيما بعد إلى تصوف في أعلى مراحله إنما هو عود على بدء، فالدين إذن ولد من رحم التصوف.
غير ان التصوف كان ممارسة فردية، فلكل عابد علاقته الخاصة مع المقدس التي يمارس طقوسه في إطارها ، لكن التصوف يبدأ فرديا ثم يتطور فيتحول جماعيا، ومن ثمَّ يأخذ في التقنين والتقعيد، ويرتد ليصبح دينا جماعيا أو ما يشبه النظام الكهنوتي على حد تعبير محمد أركون، هرمي ذو مراتب ودرجات له شيوخه والمقدمين والأدنى منهم ، وكل رتبة على نفوذها على أوساط الأتباع، بل أكثر من ذلك تفرض على العامة تقديم فروض الولاء والطاعة وإقامة طقوس اذكار زيارات ووعدات…..الخ.
بل أكثر من ذلك يستند إلى أسطورة مرجعية هي كرامة الولي الصالح، وللكرامة الأسطورة طقوسها التحيينية وللطقوس قوانين صريحة وضمنية يلتزم بها المريدون، وهكذا نجد أنفسها أمام فقه جديد وما يشبه الديانة الجديدة التي تتفق مع الديانة الأصلية في أهم مكوناتها الأساسية : المعتقد والأسطورة والطقوس، بالإضافة إلى التشريعات والأخلاق كمكونات ثانوية أنتجتها الحالات الصوفية التي عاشها الولي الصالح.
فهل هناك علاقة بين الحالة الصوفية التي عاشها الإنسان البدائي، والحالة التي عاشها الأنبياء في الثقافات العليا؟ يبدو أن الأمر متشابه إلى حد كبير، غير أن مجال تخصص الأنثروبولوجيا المتحرر إلى حد بعيد من الدغمائيات الدينية التقليدية، ترى أن الديانات كلها أصل واحد، حالة صوفية ، والديانات بدورها تتطور في ابعد أطوارها لتصل إلى التصوف الذي يصرّ الفقهاء أن يضعوا له قيودا وقواعد، يتفلت منها بعض كبار المتصوفة كما رأينا لدى السهروردي والحلاج بسبب الحالات الصوفية التي يعيشونها والتي لا تستجيب لها الطقوس الجماعية المقننة. ومن جديد أيهما انتج الآخر او أيهما كان الأول : البيضة أم الدجاجة.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ د. حمد
    د. حمد

    خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).

  2. الصورة الرمزية لـ د. حمد
    د. حمد

    خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).

اترك رد