الرقص على أنغام الموت: مقاربة تأويلية لحضور الموت وتشكله في رواية “بداية ونهاية”

ياسين الشعري: باحث في النقد – المغرب

يمكن قراءة رواية (بداية ونهاية) من زوايا متعددة، ومقاربتها من مداخل شتى، على غرار مختلف الأنواع الأدبية الأخرى، إذ لا يمكن لأي قارئ أن يستأثر بمعانيها المضمرة الخفية ودلالات رموزها، ويدعي الإحاطة بكل ما تحفل به من إمكانات فنية، والقوالب التي صيغت وفقا لها.. إن غناها الدلالي يفرض علينا مقاربة تحمل على عاتقها مهمة سبر أغوار معانيها، والبحث عما يكتنفها من غموض، وعن رموزها وعما هو مضمر وخفي… ولما كانت المقاربة التأويلية هي الكفيلة باستبيان كل ذلك؛ فإن اتكالنا عليها في هذا البحث يأتي لأجل تعميق فهمنا للرواية، وانتشال معانيها من الأعماق في محاولة لإظهارها على السطح، بارزة واضحة…
تنهض رواية “بداية ونهاية” لنجيب محفوظ على أسئلة للواقع الذي لا تكاد تفارقه، فهي جد مخلصة في الاستناد إليه، وتعتد به مرجعية لها، تستمد منه أحداثَها ووقائعَها… دون أن يعنيَ هذا أن السؤالَ الذي تطرحه هو مصيرُ شخصياتِها ونماذجُها السلبيةُ والإيجابيةُ فقط، وإنما هي تطرح إشكالا مؤرقا يتعلق بمصير الإنسان ككل، في ظل واقعٍ اجتماعيٍّ مأزوم، ونظامٍ سياسي مهزوز… ويالتالي يمكن القول إنها تطمع إلى نقد هذا الواقع طمعها إلى تصويره ومحاكاته…
رواية “بداية ونهاية” رواية تثير جماعا من الأسئلة المتعلقة بمصير الإنسان في هذه الحياة، وتخص أيضا الوجود الفردي وقد فرضت عليه الأسرة والمجتمع مجموعة من القيود، وتحفل بالصراع مع الفقر ومصائب الدهر، بعد أن اكتوى أبطال الرواية بفاجعة موت الأب، على حين فجأة، وذاقوا مرارة حتميتها، فحاولوا تجاوز الصعاب والعقبات، لاستشراف واقع مجهول، ومستقبل لا يلوح في الأرجاء إلا ممزوجا بالمرارة…
تعد قضية الموت جوهر الرواية وبؤرتها الكبرى، إذ شكلت تجربة مؤرقة للكائن البشري رغم حتميتها… كما تشكلت الرواية وفقا لها ، حيث تبدأ بالموت وتنتهي بالموت، تُضفي عليها مسحةً درامية، تجعلها تشبه ملحمة مأساوية، فتغدو بدايتها كنهايتها، ووسَطُها مهادا للخلاص، كأنها تصور مراحل الإنسان منذ بدايته إلى نهايته، كان ميتا ثم صار حيا، ثم يُطْبِقُ عليه المَوتُ من جديد، يدور في فلكه، كما يدور في حلقةٍ مفرغةٍ. إن الموتَ في الرواية حجابٌ تتوارى خلفَه معانيَ ودلالاتٌ موحيةٌ، تستأثر بالذهن البشري ــ وعلامةٌ فارقةُ فيها، إنها بدايةُ الأحداث، كما أنها نهايتُها…
أخذت موضوعات فكرة الموت حيّزاً كبيراً في الرواية سواءً فيما يتعلق بالرهبة من الموت أو الشك فيه، أو مشكلةِ كيفية الحياة، في ضوء الحقيقة المرّة، القائلة: إن هذا التغيير من الحياة إلى الموت هو أمر حتمي، ولا مفر منه، أو باعتبار الموت خلاصا للإنسان من واقعه المرير، ومنقذا إياه من الشقاوة والضنك.
ويؤدي الموت في الرواية وظيفة تحويل الأحداث وتعقيدها، مما يعني أنه يؤدي هنا وظيفة فنية، إذ يمكن اعتباره حيلة فنية، لجأ إليها نجيب محفوظ ليضمن للرواية طابعها الدرامي، وتساعدَه على إحداث تحولات في سيْر أحداث الرواية، وفي إحداث تغيرات داخلية في نفسية أبطالها، تنعكس بعد ذلك ـ سلبا أو إيجابا ـ على مستوى السلوك والتصورات. وقد مثل هذا الموت ـ بالنسبة للعائلة ـ تحولا كبيرا في حياتها، فموت الأب هو الحدث المركزي الذي انبنت عليه تحولات الرواية كلُّها وتعقيداتُها وأفكارُها، فلو لم يكن هذا الموتُ لكانت الروايةُ بأكملها في حكم اللاوجود. إن الرواية على طولها لا تخلو من تجسيد وظيفة التحويل، فهي قد بثَّتْ في نفسية الأبطال الطموحَ لأجل تجاوز واقعهم المرير وفقرهم المدقع، ولم يكن لهم ذلك إلا بتضحية بعض الأفراد لأجل آخرين، فهذه نفيسة، الأخت الدميمة، تُضَحِّي بنفسها، فتصبح خياطة لتساعد أهلها، وهذا الأخ حسين يُضَحِّي بمستقبله، فيغادرُ المدرسة، ويبحث عن وظيفة لكي يحقق حلم أخيه الأصغر… ويلاحظ أن التحويل الذي قام الموت بتجسيده، بكل تمفصلاته، داخل بداية ونهاية؛ اتخذ جانبين أحدهما إيجابي: يتمثل في طموح تلك العائلة الذي يزداد يوما بعد يوم، لتجاوز حاضرها، واستشراف واقع جديد، والآخر سلبي، هذا الأخير زاد من عقدة الرواية، التي لا تنفك ولا تنفرج إلا لتزداد تعقيدا، فكلما حسبت أن الأوضاع ستستقر تتعقد من جديد، لتكون النهاية هي انتحار نفيسة وأخيها حسنين.
وإذا كان الموت قد تجسد في الرواية في صورته الحقيقية المعروفة؛ أي بكونه حتمية لا بد منها، وظاهرة إنسانية، فإنه في مقابل ذلك تجسد في صورته الرمزية، فالموت يتجلى أيضا في الدمامة، كما تقول نُفيسة معلقة على قبحها: ” أبي يقول لي إن الخفة أنفس من الجمال، ثم بلغت الثالثة والعشرين بين الإشفاق والرجاء، وبموته مات الرجاء، لماذا خُلقت هكذا دميمة؟ لماذا لم أُخلق كإخوتي الذكور؟ [….] إني ميتة كأبي، وهو في باب نصر وأنا في شبرا”1، فالموت عندها يتجسد في صورة القبح، هذه العقدة التي تجعلها قابعة في بيت أبيها دون عريس، ثم إن هذا القبح سيدفعها إلى الرذيلة، ما دام الشباب ينفرون منها لقبحها فالأولى بهم أن يقتربوا منها لجسدها… وبإقدامها على ذلك سيموت فيها شرفها، ستموت من جديد موتا رمزيا، إلى أن تموت في الأخير موتا حقيقيا وما أبشعه من موت!. كما تجلت صورة الموت هذه أيضا في موت مشاعر الحب، لاسيما عند حسنين، الذي كان يحب بهية، ولكن ما إن صار ضابطا حتى نفر منها، وتخلى عنها…
ترجح الموقف من الموت في الرواية بين القبول والرفض، بين الإيمان والشك، بين من اعتقاده راسخ، وبين من يظل شاكا متسائلا عن كنه الموت، يقول حسنين: ” هل الموت هو النهاية؟ ألا يبقى من أبي إلا التراب ولا شيء وراء هذا؟”2، تساؤله هذا جعله إلى العدمية أقرب، لاسيما إذا علمنا أن الصورة التي قدمته بها الرواية هي صورة شاب مهزوز إيمانه، ولكن ما يلبث أن يستدرك أمره فيقول: “معاذ الله. لن يكون هذا، إن كلام الله لا يُكَذَّب”3، ثم يزداد فيما بعد إنكارا وسخطا على الموت، فيتساءل من جديد: “لماذا أخذ [الله] والدنا؟ ولماذا يعلن حكمته على حساب أمثالنا من الضحايا؟”4. هذا الترجح بين التردد في قبول الموت ورفضه هو الذي ميز شخصية حسنين، بخلاف الأخ حسين، الذي تقدمه لنا الرواية في صورة الراضي بقضاء الله وقدره…
لقد قدمت لنا الرواية في بدايتها الموت بالنسبة لحسنين بمثابة لغز محير، يصعب تصديقه، إذ يظل موت أبيه هاجسا يقلقه، وأمرا لا يمكن تصديقه، يقول: “لا أصدق أنه مات، لا أستطيع أن أصدق. ما هذا الموت؟ لا أستطيع أن أصدقه […] أيموت الإنسان وهو يأكل ويضحك؟ لا أصدق، لا أستطيع أن أصدق”5، ويصور لنا نجيب محفوظ حالة حسنين تجاه الموت في غاية من الدقة والإبداع، يقول: ” وكان حسنين يبكي في جو من الخوف والذهول والإنكار. وقف حيال الموت محتجا ثائرا، ولكن في نفس الوقت خائفا يائسا”6، هذا الموقف ينجلي أيضا في حواره مع أخيه حسين الذي خاطبه بدعابة7:
“ــ هلما نثر عليها… دعنا نهتف لتسقط الأقدار، كما هتفنا ليسقط هور”.
فما كان من جوابه إلا أن تساءل:
“ألم تفدنا ليسقط هور؟”،
كأنه يريد أن يثور على الموت كما ثار على هور، ولكن الأخ حسين سيتدخل ليبدد أفكاره قائلا:
” هيهات أن تفيدنا الأخرى”.
إن الموقف من الموت سيتغير من بداية الرواية إلى نهايتها، سيصير الموت رديفا للراحة ووسيلة للخلاص، لذلك سيدفع حسنين أخته للانتحار، إنقاذا لشرفه، بعدما علم بإقدامها على الغواية والفساد. لقد فضلت أخته الموت غرقا في النيل، واستقبلته بشجاعة، كما أنها كانت تستقبل الزوج الحبيب الذي قضت زهرة عمرها في البحث عنه في دروب الأمل، مبررة ذلك بقولها: “إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموت”8، وسينتهي المطاف بحسنين أيضا إلى أن يختار الموت على الحياة، سالكا مسلك أخته، ناشدا الخلاص من عذاب الضمير ومن عذابات المجتمع، فلا منقذ له إلا الموت…
لقد أقدما الأخوين على وضع حد لحياتهما متصورَّيْن أنه لا منقذ لهما من عذاب الحياة وهمومها إلا أمواج النيل، التي صارت في الرواية مرادفة للخلاص وللراحة، ففيها مثوى لكل بائس شريد، وفيها الراحة التي كانا ينشدانها في الحياة ولم يجداها… إن نهر النيل يأخذ هنا معنى رمزيا، ويصبح له حمولة دلالية مغايرة لتلك التي يحظى بها عادة، فإذا كان النيل قد اقترن عبر التاريخ بالخصب والحياة ـ على غرار باقي الأنهار والوديان ـ فإنه في مختتم الرواية سيصير مرادفا للموت، ورمزا من الرموز الدالة عليه. وسيصير الماء الذي هو سر الحـياة، فاقدا لهذه القيمة ـ قيمة الإحياء، ويكتسب قيمة أخرى هي قيمة الإماتة. هذه المفارقة الدلالية التي حظي بها النيل/ الماء هنا قد تكون لأجل التأكيد على أن القيم الإنسانية نفسها تغيرت، فكيف لا تتغير دلالة النيل والماءِ من الحياة إلى الموت، ومن الخصب إلى القحط؟؟؟
بعد هذه الجولة مع حضور الموت في رواية “بداية ونهاية” يمكننا القول: إن الرواية طرحت قضية الموت حلا لكل تأزمات الواقع واختناقاته وتوتراته، وطرحت القطيعة مع الحياة لأجل حصول الراحة الأبدية، فيكون الانتحار في الختام بمثابة عودة إلى الحالة الأولى التي وُجد عليها الإنسان، وهي حالة الموت، ولذلك وجد ـ حسنين ونفيسة ـ خلاصهما في أعماق مياه النيل، نفيسة اختارت الموت لترتاح من شهواتها ونزواتها، ولتُنقذَ نفسها من نظرة المجتمع لها، وحسنين اختار الموت لأنه لم يجد ما كان يحلم به، ولأن ما بناه أصبح ينظر إليه كقلعة لم تقاوم ضربات الأعداء، فانهارت دفعة واحدة. كما أوحت لنا بفكرة أن قرار وضع حد للحياة ـ على الرغم من كونه فعلا محرما شرعا ــ ليس إلا فلسفة في الحياة، والحياة تتطلب أحيانا أن يضع الإنسان قطيعة معها، ليرتاح من مرارتها التي لا تنتهي، وليترك الفرصة للآخرين كي يعيشوا في السلام…
إن الموت في الرواية لم يكن إلا موتا للحضارة العربية بقيمها وأخلاقها واعتقاداتها، وموتا لشيم العربي ونخوته وشرفه… ويمكننا أن ندعي أن الموت ليس موتا نهائيا، وإنما هو تلك المرحلة التي تسبق البعث والانبعاث، فيكون الموت الذي ورد في الرواية ليسا موتا حقيقيا، وإنما هو انفصال عن مرحلة تاريخية ودخول في مرحلة أخرى، ألم تستيقظ العنقاء بعد موتها؟ فهل يستيقظ العربي من رقاده الطويل؟
من يدري فقد تحدث المعجزة؟

الهوامش:
1 نجيب محفوظ، بداية ونهاية، دار مصر للطباعة، د.ت، ص 70 ـ 71.
2 نفسه، ص 11.
3 نفسه، ص 12.
4 نفسه، ص
5 نفسه، ص 6.
6 نفسه، ص 7.
7 نفسه، ص 30.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد