مصطفى بوهبوه: باحث دكتواره: تخصص مناهج العلوم في الحضارة الإسلامية وتجديد التراث (المغرب)
نحاول أن نجيب عن هذا السؤال الآتي: هل يسمح الإسلام بالجدل الديني مع المسيحيين؟
جاء القرآن الكريم بموقف صريح من هذا الجدل، وهو المنع، إذ يقول الله تعالى:(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، ويقول الله تعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) . والطريقة (التي هي أحسن) مذكورة في قوله تعالى:(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) .
وأما موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وحي من الله، فيمثل الموقف الأمثل تجاه أي نداء إلى الجدل والخصومة مع أهل الأديان الأخرى، ويتمثل هذا الموقف لما قدم وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجادلوه حول حقيقة عيسى عليه السلام، حاولوا أن يثبتوا ألوهيته. فلم يسمح لهم بالجدل حول هذا الموضوع لظهور وجهة نظر المسلمين الصريحة في شأن عيسى عليه السلام، واكتفى بدعوتهم إلى المباهلة. عملا بقوله تعالى: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) .
وفي هذا السياق يقول أبو البقاء في كتابه “الرد على النصارى”: “والمتأمل لطبيعة النفس البشرية يدرك السبب في تحذير القرآن المسلمين من الخوض في المجادلات الدينية، ذلك أن قضية الإيمان هي بطبيعتها قضية شخصية، والموقف الذي يتخذه أي منا حيال أي معتقد هو موقف روحي نفسي أكثر منه عقلي، فالذي تروق له نفسيا. مبادئ دين أي كان، أو تعجبه عقيدة مهما يجد نفسه منقادا إلى اعتقادها، دون حاجة إلى سند عقلي صارم، بل إنه يعتنقها حتى وإن تعارضت مع مبادئ العقل البسيطة، والذي لا يجد في عقيدة ما لا يلاءم طبيعته، فإنه لا يستطع الإيمان بها، وإن أحاطت به الأدلة العقلية الدامغة من كل جانب. بل إنه يرفضها وإن دلت على صحتها المعجزات” .
ولعل هذا الذي ذكره أبو البقاء، يتوافق مع قوله تعالى:(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت تابع قبلتهم) ، ومن أجل هذا وضع القرآن الكريم هذا المبدأ: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ، وفي إطار هذا المبدأ تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الإلهي:( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) .
ولقد استمر المسلمون على هذا النهج طوال الفترة التي سبقت الفتوح والتي أعقبته مباشرة؛ وبعد ذلك انجروا في جدال مرير مع أهل الكتاب. وقد علل بعض من تصدى لجدال النصارى النهي عن الجدل مع أهل الكتاب الوارد في القرآن الكريم بأن النهي لم يتجه إلا إلى المسلمين الأوائل، وذلك قبل أن تتسع رقعة الإسلام ويشتد ساعده، أما بعد ذلك فقد أصبح الجدل معهم مسموحا به بل اعتبره البعض جهادا في سبيل الله .
ومن الواضح أن انسياق المسلمين نحو الجدل كان بفعل الظروف، فلم يكن أمامهم سوى هذا الاختيار، ومعلوم أن الرقعة التي انتشر فيها الإسلام بفعل الفتح كانت نسبة أهل الكتاب فيها كبيرة، ممن يدينون بالنصرانية أو اليهودية، وليس غريبا أن يحدث احتكاك متعدد الصور والجوانب بين المسلمين، وتلك الديانات، خصوصا على الجانب الفكري والعقدي، وكان من الضروري أن ينكبّ كل فريق لينصر عقيدته ويبين مميزاتها ومحاسنها.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن دين الإسلام ما انفك يدعو أهل الكتاب إلى الدخول في دين الله، الأمر الذي أصر على من آثر منهم البقاء على دينه أن يبرر رفضه للدين الجديد. فعند انتشار الإسلام وجدت الجماعات غير المسلمة ـ خصوصا النصرانية ـ نفسها أمام خيارين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية، فالذين فضلوا البقاء على دينهم ودفع الجزية وجدوا أنفسهم من جديد مضطرين للإجابة عن هذا السؤال: لماذا يختاروا الإسلام؟ فكان عليهم أن يشرحوا موقفهم ويبرروه، وكان شرحهم وتبريرهم مشتملا بالضرورة على نقد الإسلام . يتبين ذلك من عدة مواقف وكتابات لرؤساء النصارى الدينيين، فقد لجأ يوحنا الدمشقي ـ دفاعا عن بقائه على دين النصرانية ـ إلى توجيه عدة انتقادات إلى الإسلام، أهمها قوله:”أن المسلمين قبلوا القرآن دون شاهد على صحته” أي أن محمد عليه السلام لم يأتي بمعجزة. بعد هذا اضطر المسلمون إلى دفع هذه الاتهامات، فانكبوا على دراسة الكتاب المقدس بحثا عن ما يمكّنهم من أن يكيلوا لخصومهم الصاع صاعين، وهكذا دارت عجلة الجدل بين المسلمين والنصارى، ولم تتوقف حتى يومنا هذا.
اترك رد