د.أحمد زغب: أستاذ التعليم العالي بجامعة الوادي الجزائر
حاولت بعض المدارس العقلانية أن تنزع من الدين عجائبيته، فأنكر المعتزلة مثلا معجزات الرسول (ص) المادية، كنبع الماء من بين يديه صلى الله عليه وسلم، وإطعامه جيشا كاملا بطعام شخص واحد، وانشقاق القمر، كما أنكر الكثير كرامات الأولياء وقالوا لو جازت لاشتبهت بالمعجزة.
والغريب أن الكافرين بموسى أنكروا عجائبية الدين وأثبتوا عجائبية السحر،بينما يرى الباحثون أن الدين والسحر كلاهما يعتمد على وسيط غيبي بين العلة والنتيجة، وعلى ذلك درج كثير من الأقوام الذين واجهوا أنبياءهم بالإنكار، وقد عبر القرآن عن ذلك الإنكار أبلغ تعبير في قوله: (( وكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر او مجنون)) الذاريات آية52
والسؤال الملح ّ لماذا يعتمد الدين على العجائبية في التبليغ عن الله؟ ولماذا كانت العجائبية مقترنة بالسحر والجنون عند أكثر الناس، بينما لا يُعتَرَف بها للدين؟ الذي كثيرا ما يسوقها على صحة دعواه الإلهية.
وعندما نتناول عجائبية الدين فأول ما يتبادر إلى أذهاننا : المعجزة والكرامة، فما الذي جعلنا نصطلح عليهما بهذا المصطلح الأدبي ، الذي أفرد له الباحثون مصنفات خاصة لعل أشهرهم تودوروفTodorov فما الذي جعلنا نصنف الكرامة والمعجزة ضمن العجائبي، فما هو العجائبي أولا؟
عرض تودوروف في كتابه مدخل إلى الأدب العجائبي (ص45) عددا من التعريفات منها: منها تعريف كاستكس وتعريف لويس فاكس وتفسير روجيه كايوا فقد عرف الأول العجائبي بقوله:(( يتميز العجائبي بتدخل عنيف للسر الخفي في حياتنا الواقعية)) واما فاكس فقد عرفه:((إنما العجائبي كله قطيعة او تصدع للنظام المعترف به، واقتحام من اللامقبول لصميم الشرعية اليومية التي لا تتبدل))وأخيرا اخترنا تعريف كايوا:(( يحب العجائبي أن يقدم لنا بشرا مثلنا فيما يقطنون العالم الذي توجد فيه ، إذا هم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير)).
فهذه التعريفات تعتبر العجائبي سرا خفيا لامقبول مستغلقا عن التفسير يقتحم حياتنا الواقعية بعنف. فيحدث تصدعا في النظام المعترف به.
ومجمل هذه التعريفات تقترح أن هناك عالمين : عالم واقعي طبيعي وعالم متخيل غير طبيعي، والعجائبي هو لحظة التردد بين تفسير الحدث في إطار القوانين الطبيعية المعروفة أي انتمائه إلى العالم الواقعي، او التسليم بأنه يمكن ان يخضع لقوانين أخرى غير القوانين الطبيعية المعروفة أي انتمائهم إلى العالم المتخيّل.
والعجائبية كإنبات الرطب في الشتاء لمريم، وإجراء النهر لها ،وازورار الشمس عن أهل الكهف ، وما وقع لسارة من حملها بإسحق في سن اليأس، وإحضار الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقس في طرفة عين، وتكلم الغلام عيسى عليه السلام في المهد ،وعصا موسى التي تحولت إلى ثعبان مبين و شقت البحر وتلقفت كل ما ألقاه السحرة من عجائب سحرت أعين الناس. والمعجزات كثيرة في كل الأديان وفي الإسلام خاصة ولا يتسع لها المجال.
أما الكرامات فأمرها شبيه بالمعجزات في خرقها لقوانين الطبيعية، من ذلك طي المسافات مثل ما رأيناه معجزة لسيدنا سلميان، ومسخ الكائنات، وإحضار الشيء في غير موضعه…الخ.
ومن علماء الدين ما يجعلون المعجزة والكرامة بمنزلة واحدة، فابن عطاء السكندري يرى ((أن كل كرامة لولي فهي معجزة لذلك النبي الذي هو الولي متبع له، وأعلم أن الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى لأوليائه من الإيمان واليقين مما انت مصدق به ومثبت له أعظم مما استغربته وأنكرته عليه من اطلاع على الغيب أو طيران في الهواء أو مشي على الماء )) (لطائف المنن ص48).
أما محمد راتب النابلسي فميز بين المعجزة والكرامة والضلالة مع أن هذه الأشياء الثلاثة فيها خرق للعادات والنظام العام. لكن المعجزة للنبي الذي جاء للناس يضع لهم شريعة تحد من شهواتهم وتقنن حياتهم فمن الطبيعي أن ينكروا عليه ذلك ويكذبوه، لهذا فالله يجري على يديه خرقا للقوانين الذي لا يستطيع أن يخرقها إلا الله، حتى يقنع الناس أنه رسول من عند الله.
فالمعجزة طابعها جماهيري يتحدى بها الرسول المكذبين ودرجتها عالية، أما خرق العادات على يد غير الأنبياء، فاسمها كرامة وهي للولي وليست للنبي وليست جماهيرية وليست للنشر ولا للتحدي، وهي إعلام من الله لهذا الولي إني أحبك يا فلان ، ودليل محبتي لك أني كرمتك بهذه الكرامة. وهي ليست بمستوى المعجزة، ولا يجوز له أن يتكلم بها بل يستحي منها كما تستحي المرأة بدم حيضها.
أما أنا (والكلام للنابلسي وهو يعني المسلم عموما)، فلست مكلفا ولست مجبرا أن أصدق كرامة الولي، إلا إذا ورد فيها نص ثابت ثبوتا قطعيا، ككرامة أهل الكهف وكرامة مريم وهي ليست نبية، وما سوى ذلك فلست مدعوا للتصديق به.
أما غير المستقيمين فكل ما يصنعون ، وقد يبدو خرقا للعادات، إنما هو ضلالات، وضرب مثلا لذلك سحرة فرعون يأتون بأنابيب ويملؤونها بالزئبق فتتحرك بالحرارة ، يراها الناس تتحرك ويصيبهم العجب، ولكن عندما تحولت عصا موسى إلى ثعبان حقيقي أدرك السحرة أنها حقيقة ليست ضلالة كضلالاتهم فخروا ساجدين.
وهكذا نستفيد أن كلا من المعجزة والكرامة أمر عجائبي لأنه يخرق قوانين الطبيعة، وينطبق عليه تعريف تودوروف.
بقيت الإجابة عن السؤال الذي طرحناه أولا ، لماذا يعتمد الدين على خوارق العادات، أي على الأحداث التي تتجاوز قوى العقل التفسيرية.
بالعود على البدء، أو ربما تشير العبارة إلى كتاب مرسيا إلياد Mercia Eliade أسطورة العود الأبديLe mythe de l’éternel retour أن الدين في البداية كان لحظة إشراق حدسية عبرت عن عجز العقل عن إدراك الحقائق الكونية، ولوذه بما وراء الطبيعة والعالم المقدس، يرى إلياد أنّ الشيء أو الفعل يكسب قيمته ويصير بالتالي (حقيقيا) لأنه يشترك على نحو أو آخر في حقيقة تعلو عليه، فالشيء :الحجر مثلا، لا يتميز عن بقية الأحجار إلا لأن روحا قدسية سكنته، بسبب صورته الرمزية أو بسبب أصله، نزوله من السماء مثلا، كما ان الأفعال البشرية لا يكمن معناها في حالتها المادية ، إنما في كونها تكرارا لفعل الأرواح القدسية أو إعادة لنموذج أسطوري(ص17/18)
ولعل ما يثبت قدسية الحدث جفوته لمنطق العقل، لأن الإلهي القدسي يضع نفسه فوق العقل لأنه خالق الكون والوجود فلا يعقل أن يخضع له، ومن ثم فالذي يدل على القدسية قدسية الفعل أو الكلمة ، الإثبات أنها مرتبطة بالعالم الماورائي. ومن هنا يكتسب قيمته لدى الإنسان التقليدي.
أما إنكار العقل للحدث العجائبي (معجزة- كرامة) فهو أمر طبيعي طالما الفعل يضع نفسه مبدئيا فوق العقل، وهكذا نجد محاولات لعقلنة الكثير من الأحداث المقدسة، بينما تتأبّى عن العقلنة. كقولهم إن ما كان غريبا أسطوريا (من فعل الآلهة ) أصبح اليوم من فعل الإنسان بفضل العلوم والتكنولوجيا، كطي المسافات بالطيران أو الأجهزة المرئية …الخ ، أو تبرير بعض المعجزات التي حكى عنها الدين بإثباتها علميا ، وذلك نظرا لأن الإنسان يبحث دوما عن مبررات أفعاله وطقوسه ومعتقداته من خارج العالم الديني أي من خارج الأسطورة بينما الأسطورة لا تفسر إلا من داخلها، أي أن تعتقد بالقدسي أولا ثم تفسر الأمر الغريب الذي خرج عن العادي والمألوف من داخل القدسي، فتلتبس الأعمال السحرية التي تعتمد على التضليل بالأعمال الإعجازية التي هي من تأييد الحضرة القدسية فهنا يبدأ التشكيك ومحاولة التفسير.
وبالعودة إلى عصا موسى ،وجدنا فرعون ينكر أن العصا تحدث الخارق العجيب بسبب إله موسى الذي خلق الطبيعة والكون وهو الوحيد الذي يستطيع خرق قوانينه بقوانين أخرى لا يملك الإنسان إزاءها إلا ان يقول : سبحان الله!! تعجبا من الحدث واعترافا بالقوة الخارقة التي صنعته.
ومع ذلك فقد اعترفوا بعجائبية السحر، ووضعوا المعجزة ، بمثابة الجنون لأن العقل يختفي أو على الأقل أو يعجز عن الفاعلية في الحالتين، ولوعدنا إلى السحر لوجدناه يشترك مع الدين في شيء هام ، وهو إيجاد وسيط بين السبب والنتيجة، والسحر إما يعتمد على القوة السارية في الكون مثلما رأى فراس السواح (دين الإنسان ،ص312) وفي هذه الحالة يكون شبيها بالدين أو بالأحرى دينا بدائيا يعتمد على قوة غفلة غير مشخصة ، هي نفسها التي شخصتها الأديان فيما بعد وسمتها بأسماء الآلهة، وإما يعتمد على الشعوذة أو الخداع والتضليل مثلما أشار النابلسي.
أما في الحالة الأولى فهي قوة دينية تلك التي تسقط المطر وتنبت الزرع …الخ ، باستخدام الطقوس السحرية التي كان الإنسان البدائي يعتقد انها – أي الطقوس- هي السبب المباشر قبل أن يكتشف أن قوى ماورائية ، وراء تلك الأحداث المصيرية بالنسبة لحياته.
وأما في الحالة الثانية، فهي أي الأحداث خاضعة لأسباب خفية فإذا عُلمت زالت عن الحدث العجائبي عجائبيته، كالأنابيب المملوءة بالزئبق لدى سحرة فرعون.
يبقى الحديث عن الكرامة، والتي أقر المتصوفة أنها أقل من المعجزة، وانها غير مقرونة بالتحدي، وأن على الولي الصالح أن يسترها كما يستر عورته. ولكن كيف عرفت على نطاق واسع، مثل عصا سيدي علي بن خزان ، فأس بابا مرزوق ،واستئناس الشيخ عبد القادر الجيلاني للذئاب والسباع ورمي سيدي الحاج علي بن عيسى الينبعي بالعرجون.
هل أن الولي هو الذي لم يسترها واستعرضها على الملأ ليثبت لهم أنه ولي صالح مستوجب للاحترام، أم أن كل هذه الكرامات شاعت من قبل الصدفة، ولو ان الصدفة نفسها مفهوم معرض للنقاش في أدبيات الخطاب الديني فكل شيء مقدر تقديرا.
وما قاله باحثوا الأديان (فراس السواح مثلا دين الإنسان ص47) من أن المعتقد الديني فكر مجرد في حاجة إلى الأسطورة لتشخصه وتجعله في متناول الأفهام ، يقرّه الدارسون لفكرة الكرامة بأن لها دلالة أرقى من مجرد الإشارة إلى أن فلان ولي صالح، إنما تدل على فكرة مجردة ، لا تعبر عنها اللغة في مستواها الوضعي، فكان لابد ان تحدث الكرامة لتعبر بالتصوير والتشخيص الذي هو قريب من أفهام العامة والخاصة على السواء.
يرى علي زيعور في كتابه الكرامة الصوفية الأسطورة والحلم (ص 30) أن الكرامة في جانب منها تمثل مبادئ صوفية، وتحاول تجسيد ما هو مجرد، فإن دعت إلى قيم العدل مثلا لجأت إلى التمثيل بالصورة والاستعارة والحكاية لمبدأ صوفي أو قيمة أخلاقية أو واجب ديني.
كما أن الكرامة في جانب منها نتاج لا واع، وهي لا تخضع لمقولات المنطق كمقولتي الزمان والمكان ولا تظهر كحقيقة صاغتها التجربة وتحكم فيها العقل وقادها الفكر الواضح والمعالجة الواقعية والواقعية.
وما دامت الكرامة تعبر عن قيم تجسدها تجسيدا، فاستئناس الشيخ عبد القادر للأسود والذئاب تشير بوضوح إلى قيمة قهر الوساوس الشريرة والانتصار على الشياطين واستئناسهم فلم يعودوا أعداء للإنسان كما هي طبيعتهم ، يعضد ذلك الحديث الذي رواه مسلم : ما منكم من أحد إلا وكل به قرين من الجن وقرين من الملائكة، قالوا وإياك يا رسول لله؟ قال وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير.
أما عصا سيدي علي بن خزان فتحقق قدرة الله على الإعمار، فقال حاول هذا الولي الصالح العمل على إعمار البلاد وكان في كل مرة يخفق لأنه اعتمد على قدراته الذاتية، لكنه لما تولى قافلا إلى الشرق هتف له هاتف أن ارجع إلى الغرب فألقى عصاه فسقطت على بعد عشرين كيلومترا أو أكثر في مكان لا يصلح في ظاهره للغرس والتعمير، وحين وصلها وجد الماء ينبجس من تحتها ، عندئذ أدرك أن الغرس والتعمير يتم بقدرة الله وليس بملاءمة الظروف الطبيعية.
وأما عرجون سيدي الحاج علي بن عيسى الينبعي ، فتشير بوضوح إلى الطاقة العجيبة الكامنة وراء حب المؤمن لأخيه، وكرامة سيدي الحاج علي يعرفها العامة من أهل الطريقة التجانية ويروونها مشافهة، لكن شيوخهم وعلماءهم ذكروها في كتبهم ،منهم أحمد سكيرج في كتابه كشف الحجاب، وابن المطماطية في كتابه سفينة السكينة.
فقط سقط عرجون تمر بين يدي الشيخ (يعني الشيخ التجاني) فقال لأصحابه إنه من عند ذلك البهلول،(يعني الحاج علي) وانتهره الشيخ بعد ذلك حين لقيه ، فقال اعذرني يا سيدي فقد كنت في حائط والخدام يجنون التمر أعجبني ذلك العرجون فتمنيت أن يصل إلى دارك كما هو فحملني ذلك على أن رميت به وقلت سرجتي تنزل بين يدي سيدي فزجره الشيخ (كشف الحجاب ،ص 127/126).
نلاحظ ان الشيخ التجاني زجر الحاج علي الينبعي بسبب هذه الحركة ، التي جسدت حبه لشيخه، بحركة عجائبية طوت مسافة نحو ألفي كيلومتر،(من تماسين قرب تقرت إلى فاس شرق العاصمة الرباط ب300كلم) وكأنما هي – يصورها في الخبر الذي ساقه الشيخ سكيرج – حركة انفعالية: بانفعال الحب والشوق والتبجيل.
وبعد ان رأينا دلالة الكرامة بعدد من الأمثلة، نبحث عن وظائفها في المجتمع التقليدي، فالكرامة مرتبطة بالمجتمع من جهة ، وبعوامل ذاتية خاصة بالمتصوف من جهة أخرى. ففيما يتعلق بذات المتصوف، فهي – أي الكرامة – تبرر اغتراب المتصوف عن مجتمعه، وتعكس الرغبة داخل الصوفي لرأب الصدع والتمزق النفسي داخله فهو يرفض تاريخيته (زيعور ص34)ويندمج في عالم مثالي ثائر على الواقع الطبيعي.
كما أن الكرامة ’’ صورة لعالم مثالي وسلطة مثالية والمجتمع الأكمل، ولشتى الفضائل والقيم العليا التي كان يتخيلها الإنسان ويتمناها. فهنا نقرأ عالم المثل عالم الجنة، كما رسمته مخيلة في واقع تاريخي(….)وهي أيضا طريقة لمعالجة الواقع ورسم المستقبل الأمثل وتعبير عن مبادئ وميول ،وكانت خدمة للفرد والمجتمع وتعويضا وإسقاطات وعاملا من عوامل اللحمة والتمييز في الشخصية العربية، وحاملا من أشهر حمالات تلك الشخصية وأخيرا لعبت الكرامة دور الغطاء الفكري والردود عن مشكلات وجودية ومعرفية، وقيمية مرتبطة بالإنسان العربي. كما أنها تثبت النفوس على الدين وتؤكد طقوسه وتعزز – مدعمة بالأمثلة- معجزات أنبيائه، وتوضح مراميه وصور عالمه الثاني. ونلمح أيضا الخدمات الجلية التي أدّتها الكرامة في تعزيز المعنويات في المجالات الاجتماعية التي تستلزم التضحية‘‘ (زيعور ص35).
وبغض النظر عن إمكانية حدوثها فنستطيع مشاهدة الطقوس التي تعيد تحيين الكرامة باعتبارها تشبه الحدث الأسطوري عند أتباع ذلك الشيخ الولي الصالح، بواسطة طقوس التحيينactualisation التي نجدها في الوعدة السنوية .
يمكن ببساطة أن ننظر إلى الطقوس المحينة للكرامة التي تقابل الأسطورة في الدين من منظور اجتماعي محض ، فالطقوس نظام تواصلي بين الأفراد وبين الفرد والمجتمع ، يدرج الفرد في مجتمعه وتقوي الوعي الجمعي.
فالإنسان يتواصل مع مجتمعه ، ينخرط ضمن المؤسسات الاجتماعية، فكلما كان احترام الفرد للمعايير الاجتماعية ، التي رسختها فكرة الكرامة واحترام الفرد لطقوسها والإيمان بها، كانت المكانة التي تبوؤها في كنف مجتمعه أفضل، ومن اهم هذه المعايير احترام الطقوس الجماعية وإقامتها، فحضور الوعدة والزردة والزيارة والمساهمة فيها وتقديم فروض الولاء ، بمثابة حضور المناسبات المجتمعية كالزواج والتهنئة والمشاركة ، ولو بالحضور، يحسّن نظرة المجتمع لهذا الفرد، وعدم حضوره او حتى استهانته بالحفلات الطقوسية الجماعية، سواء اكانت طقوس مظهرها ديني أو اجتماعي (زواج وفاة…الخ) يسيء إلى مكانة هذا الفرد في كنف المجتمع الذي ينتمي إليه، فهي إذن بمثابة المؤسسة الاجتماعية التي تفرض قوانينها على الأفراد بحيث تعاقب الفرد الذي يتجاوز تلك القوانين ،مهما كانت درجة العقوبة.
هذا عن الفرد، اما عن المجتمع ، فالطقوس تسهم في تجييش الذهن الجمعي mentalité collective وشحن رمزي برموز القداسة، وتقوية وعيها الجمعي، وتدعم انتماء الأفراد إلى المنظومة الأخلاقية والقيمية ، وتتولد حالة من الغليان والحماس الجماعي بفضل انخراط الجميع في الطقوس(منصف المحواشي: الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول. مجلة إنسانيات 2010ع49).
وهكذا فمهما كانت عجائبية الدين تقع خارج نطاق العقل ، أو فوق مستوى العقل من حيث مجافاتها لقوانين الطبيعة ، فبالإمكان عقلنتها داخل إطار النظام الاجتماعي.
اترك رد