فَخر الدِين بَاشا نِمر الصَحراء.. مَا لَهُ ومَا عَليّهِ

د.محمـد عبدالـرحمـن عريـف: كاتب وباحــث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الحديث والمعاصر

نِمر الصَحراء فَخري بَاشا أو فَخر الدِين بَاشا (1868 – 1948). ولَقبه الإنجليز بـــ(النمر التركي)، هو آخر الأمراء العثمانيين على المدينة المنورة ما بين (1916-1919)، واشتُهر بدفاعه عنها عندما قامت قوات البدو بمحاصرتها. ولد في مدينة روسجوك العثمانية (روسه اليوم) سنة 1869م. التحق بالمدرسة الحربية في الآستانة وتخرج منها عام 1888م، وكان الأول على زملائه والتحق بدورات ملازمي الفرسان وأركان حرب. وعمل في الجيش الرابع في أزرنجان، وكان متميزًا في عمله، رُقيَّ عام 1908م إلى رتبة وكيل رئيس أركان الجيش الرابع، وشارك في حرب البلقان، وفي مطلع الحرب العالمية الأولى عين وكلاً لقائد الجيش الرابع المرابط في سورية، كان فخر الدين باشا قائد الفيلق في الجيش العثماني الرابع في الموصل برتبة عميد، عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في 1914، ثم رقي إلى رتبة لواء، واستدعي عام 1916 إلى الحجاز للدفاع عن المدينة المنورة، عندما بدأت تلوح في الأفق نذر نجاح الإنجليز في إثارة حركة مسلحة ضد الدولة العثمانية.
تولى منصب محافظ المدينة المنورة قبل بداية عصيان الشريف حسين بفترة وجيزة، فأرسله جمال باشا، قائد الجيش الرابع إلى المدينة، في 28 مايو/ آيار 1916، واستهل الشريف حسين عصيانه بتخريب الخط الحديدي الحجازي وخطوط التلغراف بالقرب من المدينة المنورة، ثم هاجم المخافر فيها ليلتي 5 و6 يونيو/ حزيران ، ولكن الإجراءات الاحترازية التي اتخذها فخر الدين باشا نجحت في تشتيت شملهم وإبعادهم عن المدينة.
ثمّ كُلِّف بالسفر إلى المدينة للوقوف على أحوالها، فوصلها والشريف حسين يُعد لثورته على الخلافة العثمانية، ورفع تقريرًا لقيادته بذلك، فثبت في المدينة المنورة قائدًا لحملة الحجاز في 17 يوليو/ تموز 1916م وأضيف إليه منصب محافظ المدينة المنورة في 28 أبريل/ نيسان 1917م، وأدار العمليات العسكرية التي قاومت قوات الشريف حسين وحلفائه حتى سقوط تركيا بيد الحلفاء وتوقيع هدنة رودس في 30 أكتوبر/ كانون الأول 1918م.
الواقع أننا أمام آخر حاكم عثماني يلي المدينة المنورة، وكان يتبعه جيش مكون من نحو سبعين ألف جندي مجهز بالأسلحة الخفيفة والمدفعية التقليدية، وإبان الثورة العربية الكبرى هجر فخري باشا جميع أهالي المدينة المنورة، فلحق بعضهم بالبدو حوال المدينة، أو بمدن حجازية كمكة وجدة وينبع وحائل، بينما لحق أغلبهم بالبلدان الإسلامية كمصر والشام والعراق وتركيا والهند واليمن، حتى خلت المدينة من السكان تمامًا، ولم يبق فيها غير الجند، وحاصر الأشراف ومن معهم من القبائل العربية المدينة المنورة لبضعة أشهر، ولعب القطار في سكة حديد الحجاز دورًا كبيرًا في نقل المدنيين إلى بلدان آمنة، وطوع موظفوا الخط الحديدي أنفسهم لهذا العمل كخدمة إنسانية بلا مقابل، بينما صدرت إلى فخري باشا الأوامر من استانبول بتسليم المدينة فرفضها واستمر في المقاومة نحو خمسة أشهر اضطر بعدها للاستسلام بضغط من زملائه وقيادته الذين تهددوه؛ فاعتقل في مصر، ثم مالطا لمدة ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى بلاده وتولى عدة مناصب سياسية وإدارية. في حين أن بعض المؤرخين يصفونه بالغباء لامتلاكه جيشًا عظيمًا لم يستغله في السيطرة على الحجاز برمته ما لو أراد.
بعد أن اشتد الحصار عليه في المدينة المنورة من قبل القوات العربية بقيادة عبد الله بن الحسين والمعسكره في بير درويش بالفريش، ذهب للفريش واستسلم إلى قوات الشريف عبد الله بن الشريف حسين المعسكرة في بئر درويش (الفريش). إن فخري باشا، وبعد استسلامه استقبله الشريف عبدالله بن الشريف حسين في بئر درويش، استقبالًا رسميًا، حرص على أن يرضى به كرامة الرجل وكبرياءه بالحفاوة البالغة والموافقة على كل شرط من شروطه دون أي نقاش.
في الحقيقة ليس كل أهالي المدينة الذين تم تهجيرهم كانوا قد عادوا إليها، إذا إن بعضهم قد فقد أو مات في دار هجرته، أو فضل البقاء هناك، أو عجز على العودة إلى بلاده، وفقد كثير من الأهالي أموالهم، أو وجدوا بيوتهم مهتوكة، فحنقوا كثيرًا على فخري باشا الذي تسبب لهم بكثير من العناء .
وكان يردد: الدفاع عن المدينة المنورة قائم حتى يحل علينا القضاء الإلهي والرضا النبوي والإرادة السلطانية قرناء الشرف. واقترح فخر الدين باشا عليها نقل 30 غرضًا هي الأمانات النبوية الشريفة إلى الأستانة؛ خوفًا من تعرض المدينة المنورة لأعمال سلب ونهب، فوافقت الحكومة على طلبه شريطة تحمله المسؤولية كاملة عن الأمر، فقام الباشا بإرسالها إلى إسطنبول تحت حماية 2000 جندي. ووفقًا للمؤرخ العراقي أورخان محمد، الذي يسرد تفاصيل تسليم المدينة للإنجليز والشريف حسين، فقد انتهت الحرب، وصدرت إلى فخر الدين الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة وتسليمها إلى قوات الحلفاء، ولكنه رفض تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته، أي أصبح عاصيًا لها.
كانت الفقرة رقم 16 من معاهدة “موندروس” الاستسلاميَّة تنص صراحة على وجوب قيام جميع الوحدات العثمانية العسكرية الموجودة في الحجاز وسوريا واليمن والعراق بالاستسلام لأقرب قائد من قواد الحلفاء، واتصل به الإنجليز باللاسلكي من بارجة حربية في البحر الأحمر يخبرونه بضرورة الاستسلام بعد أن انتهت الحرب، وتم التوقيع على معاهدة الاستسلام، فكان جوابه الرفض.
كتب إليه الصدر الأعظم أحمد عزت باشا رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقاً للمعاهدة، وأرسل رسالته مع ضابط برتبة نقيب. ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إلى الصدر الأعظم قال فيها: إن مدينة رسول الله لا تشبه أي مدينة أخرى؛ لذا فلا تكفي أوامر الصدر الأعظم في هذا الشأن، بل عليه أن يتسلم أمراً من الخليفة نفسه.
وصدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة، وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل، حيدر ملا، ولكن فخر الدين أرسل الجواب مع وزير العدل، قال فيه: إن الخليفة يُعَدُّ الآن أسيراً في يد الحلفاء؛ لذا فلا توجد له إرادة مستقلة، فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام.
ويقول أورخان: وبدأ الطعام يقل في المدينة، كما شحت الأدوية، وتفشت الأمراض بين جنود الحامية، وجمع فخر الدين باشا ضباطه للاستشارة حول هذا الظرف العصيب، يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومدى إصرارهم على الاستمرار في الدفاع عن المدينة.
ويواصل المؤرخ العراقي سرد الرواية قائلاً: اجتمعوا في الصحن الشريف، في الروضة المطهرة في صلاة الظهر، وأدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج، ثم ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني، وخطب في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه أكثر من عدد كلماته، وبكى الضباط حتى علا نحيبهم، وقال: لن نستسلم أبداً ولن نسلم مدينة الرسول لا للإنجليز ولا لحلفائهم. ويكمل: نزل من المنبر فاحتضنه الضباط وهم يبكون، اقترب من القائد العثماني أحد سكان المدينة الأصليين واحتضنه وقبَّله وقال له: “أنت مدنيّ من الآن فصاعداً.. أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد”. ويواصل: عندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا زادوا اتصالهم مع ضباطه، فكلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية ولأهل المدينة، فوافق أخيراً على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام.
وبحسب المؤرخ العراقي؛ فإن فخر الدين باشا، اشتهر بحبه الشديد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويطلق عليه (نمر الصحراء) و (النمر التركي). اعتُقِل فخر الدين باشا كأسير حرب من قبل الإنكليز، وأُرسِل إلى مالطا لمدة ثلاث سنوات. توفي فخر الدين في عام 1948 ودُفِن في مقبرة “اشييان” في منطقة “حصار روم الي” بإسطنبول… توفي في 22 نوفمبر/ كانون الثاني 1948م عن عمر يناهز 79 عاما في اسطنبول ودفن بناءً على طلبه في قلعة (روملي حصار).


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد