د. عبد الله الجباري – باحث في العلوم الشرعية (المغرب)
يعد العلامة القاضي أبو بكر بن العربي المعافري من كبار علماء الأندلس في عصره، في التفسير والفقه والأصول، وله مصنفات دالة على علو كعبه في هذه العلوم، وألمعيته في مباحثها وقضاياها، ولست في معرض سرد أمارات نبوغه في هذه المعارف، وعلامات تفوقه فيها، لطول ذلك من جهة، ولشهرته من جهة ثانية، إلا أنني أورد في هذا المقام، إشارات عاجلة، وإلماعات مقتضبة، تدل على ذلك، وتحيل إليه.
ابن العربي الفقيه:
لم يكن ابن العربي المعافري فقيها كسائر الفقهاء وعامتهم، ممن يكرر صدى فقهاء المذهب، ويبقى أسير أقوالهم، ولا ينفك عن منهج أغلب أعلامه الذين يقتصرون في مصنفاتهم على : (قال ابن القاسم، وخالفه أشهب، واستظهر أصبغ، ورجح ابن وهب، …)، بل كان يبحث عن الدليل، وقد يوافق ما رآه غيره، وقد يستنبط منه ما لم يسبقه إليه أحد، كما كان كثير التفريع من الأدلة، ومما يرغبني فيه وفي مصنفاته، إنصافُه وعدم تعصبه، فتراه يقدم رأي المذاهب الأخرى على رأي مذهبه، وتلك منقبة له فاق فيها كثيرا من معاصريه ونظرائه، من ذلك :
1 – حكى في مسألة الرهن، أقوال الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وذكر قولي الإمام مالك المختلفَين، برواية ابن القاسم وأشهب، ثم قال : “والخبر عام، إلا أن أصحابنا يرون أن يخصوا ما يغاب عليه من عمومه بالقياس، ولا قياس، فإنهم عولوا على أن الرهن متردد بين الأمانة والمضمون، فوجب أن يوفر عليه حكم الشبهين، ولهذا، لو صحّ، إنما يكون ذلك الفرق بين أحوال الرهن، لا بين أعيانه، ومذهب الشافعي أظهر“[1].
2 – قال في مسألة بيع الكلب : “واختلف أصحابنا في بيعه، هل هو محرم أو مكروه، وصرح بالمنع مالك في مواضع، والصحيح في الدليل جواز البيع، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي : لا يجوز بيعه”[2]. وهو ترجيح واضح جلي لرأي أبي حنيفة رحمه الله.
3 – اتفق العلماء على السجدة الأولى من سورة الحج، واختلفوا في الثانية الموافقة لقوله تعالى : “يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم …”[3]، واستقر عمل المالكية على منعها والقول بكراهتها، وهو ما قرره الشيخ خليل في مختصره بقوله : “ولا ثانيةَ الحجِّ”، وخالف ابن العربي مذهبه، وقال بأرجحية السجدة الثانية في السورة، وقال : “والصحيح، أنها منها، للحديث المتقدم، ومثاله يكفي في الترغيب”[4].
هذه نماذج ثلاثة، تجلي عدم تعصب ابن العربي، وقدرته على الانفتاح على غيره من المذاهب، أضف إلى ذلك، مواقفه من السنة، وعدم تركها موافقةً للمذهب، أو تلبيةً لرغبة شخصية، أو بناء على احتمال ما، مثل رأيه في تقديم الخطبة على صلاة العيد، الذي ابتدعه مروان أمير المدينة، وعلله بقوله : “إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فخطبنا قبل الصلاة”، فقال ابن العربي معلّقا ومعقّبا : “هذا تغيير السنة بالنظر والقياس، وذلك باطل بإجماع الأمة”[5]. وقال أبو حنيفة ببدعية الخروج للاستسقاء، رغم الورود في السنة، وتعلق باستسقائه صلى الله عليه وسلم في المسجد، قال ابن العربي : “أما أن أبا حنيفة له تعلق بأنه قد استسقى في المسجد، ولو كان سنةً، لما كان إلا ببروزٍ أبداً، كالعيد، قلنا : استسقاؤه في المسجد، يحتمل أن يكون قبل خروجه وخطبته وصلاته، ويحتمل أن يكون بعده، فلا تُترك السنة بالاحتمال، ويحتمل أن يكون ذلك دعاء مطلقا في المسجد، فيكون هذا خروجا مطلقا للسنة”[6].
اترك رد