التفكير العلمي ومعضلة السلطة … عبد الله قلش

د. عبد الله قلش: جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف – الجزائر

إن استقراء تاريخ البشرية ينبؤ لنا كيف عرف الانسان في بداياته الحياة الفردية، التي تتيح له الحرية في التصرف والتجرد من اي قيد في التفكير، لتتطور تلك الحياة تحت تاثير طبائع ونزعات داخلية نحو الحياة العائلية، وما يجمعها من روابط الدم ليضيق به هامش التصرف وافقه وتضعف معها قدرته ورغبته في التفكير، ثم تتطور الى الحياة الجماعية عند زيادة عدد الافراد فتنشا الحياة القبلية اين تضيق معها الحرية والقدرة الفكرية اكثر فاكثر مع زيادة سلطان الافكار الشائعة والاحكام الجاهزة والعادات والتقاليد، ويغذي هذا الاتجاه ميل النفس البشرية الى النمطية والكسل، لتتحول بعدها الى الحياة القومية وهي اشتراك مجموعة كبيرة من القبائل في خصائص معينة وانتمائها الى قومية محددة تميزها خصائص مشتركة لتتسع مع مرور الزمن الى كيان اكبر يعرف بالامة، والملاحظ ان هذه الكيانات لم تفرض قيود على حركة انتقال الاشخاص والاموال الا في حدود معينة لتتطور بعدها الى ما يعرف بالدولة التي نتجت عن اتحاد مجموعة من القوى القاهرة وهي السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاعلامية والاجتماعية التي بدات تمارس ضغوطها وسيطرتها على الجماعات وتفرض قيودها عليها واول ما تستهدفه كسبيل للاخضاع السيطرة على العقول وتعطيل فيها الرغبة والقدرة على التفكير الصحيح والموضوعي وهذا ما ادى الى تعميق معضلة البشرية ووقوعها في اسر الخرافات والبدع والتخلف ومن بعدها الصراعات والحروب من اجل ضمان مصالح تلك القوى المسيطرة.
والملاحظ ان ظهور مختلف الكيانات الاجتماعية من الاسرة الى القبيلة انتهاءا إلى الدولة كان نتيجة تطور وسائل الاتصال والتواصل بين البشر اي تطور القدرة على اخضاع اكبر عدد من البشر وعلى اوسع نطاق جغرافي، إذ كان كل كيان يظهر يلقى مقاومة من الكيان السابق فظهور الدولة مثلا حورب من طرف النظام القبلي. ولكن ما يلاحظ حاليا ان تطور وسائل الاخضاع والسيطرة واتجاهها نحو العالمية يوحي بان نظام الدولة سيزول حتما او يذوب الى كيان ونظام اكبر منه وهو العالمية إما استجابة للضرورة البشرية الكامنة في النفس، او خضوعا لواقع التطور البشري الذي تنساق البشرية في اطاره ليس طوعا بل خضوعا وانقيادا، وينتج زوال الدولة بسبب الانفجار الذي يخلفه الضغط الذي تماسه القوى المسيطرة لضمان سيطرتها وعندها يمكن للبشرية ان تتحرر من العبودية الفكرية ويحدث التوازن والعدالة الاجتماعية والمساواة بين كل الاجناس وتتحقق الحرية الكاملة لحركة وانتقال الاشخاص بين كل الاقاليم ولا يكون لأحد الحق في احتكار اقليم معين ومنع الاخرين من العيش فيه بحجة ان اسلافه كانوا السباقين اليه.
وهذا لا يعني ان اصحاب المال والنفوذ والقوة احرار بل هم ايضا خاضعين للعبودية من نوع آخر فهم خاضعين للسلطة المالية التي تفرضها عليهم ميولاتهم النفسية نحو المال، او الخضوع لرغبات واتجاهات أتباعهم كشرط لضمان استمرارية سيطرتهم. ولهذا قد سعى القران الى تحرير الانسان من هذا النوع من العبودية من خلال اقرار الزكاة والصدقة التي هي عبارة عن عطاء يمنحه الانسان دون مقابل وعن رضا نفس كتحدي لتلك القوة المسيطرة عليه واخضاعها وجعلها تحت سيطرته واعلان عبوديته لله ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كاشارة صريحة لتلك العبودية ونبذها ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ)(رواه البخاري)
ونلاحظ انانية الانسان وجشعه وتسلطه على الاخرين فكما كان في الماضي بعض الكهنة والملوك والدجالين يحتالون على الناس وينشؤون ويغذون بعض الخرافات والاشاعات والاساطير من اجل استمرار سلطتهم وقدرتهم على اخضاع وضمان استمرار كسبهم المادي (كادعاء الالوهية والرهبنة والعرافة….) مازال لحد اليوم رجال على نحوهم سواء العرافين او السحرة او من مؤسسات اعلامية ودينية وساسية ومالية تقوم على ذلك فتعمل على ترويج الخرافات والاشاعات والاكاذيب واضعاف سلطة العقل وتقوية سلطة العاطفة والانفعالات وغيرها وما يهمها سوى الربح وتعظيم الثروة وتحقيق السيطرة فينشرون ما يسمى بالابراج والحصص واللقاءات والافلام التي تقوم على الخرافة والاشاعة والتضليل وبالتالي هم يساهمون في نشر هذا النوع من التفكيرالضال لان ذلك يخدم مصالحهم، فكل وضع ومنهج تفكير او مذهب او نظام مهما كان نوعه الا ويكون اطراف معينة مستفيدة منه وبالتالي تستميت في الدفاع عنه بما اوتيت من قوة حتى تضمن استمرارية مصالحها ولهذا نجد ان كل تغيير يحدث الا ويجابه بمقاومة معينة فنلاحظ على مر التاريخ كيف كانت الانظمة الاقتصادية والسياسية والاديولوجية تستمر في الوجود وتدافع عنها اطراف معينة تستعمل كل الوسائل منها الحجج العقلية والقوة العسكرية والمالية وغيرها لان مصالحها مرتبطة بها واذا ما شعرت بزوال تلك المرحلة لا محالة تقفز على الحبل لتجد مكان لها في الوضع الجديد ربما يكون افضل من السابق، وقادة التغيير الاذكياء يعون جيدا هذا الامر ويحسبون له حسابه فيعمدون الى اغراء تلك القوى ذات المصالح والمستميتة في الدفاع عنه بمراكز افضل ضمن الوضع الجديد.
فكثير من الانتهازيين الذين ينتهزون الفرص من اجل القفز فوق المكتسبات الحضارية والعلمية والاقتصادية من اجل تحقيق مكاسب ومصالح معينة ويحدث ذلك كثيرا عند عملية التغيير التي تحدث نوعا من الخلخلة الاجتماعية والاقتصادية وضعف حالة الوعي لدى العامة فيكون من السهل استغلال تلك الاوضاع في تحقيق السيطرة والنفوذ والمكانة الاجتماعية العالية وغيرها فاولئك المحتالين الانتهازيين الذين يتميزون بالدهاء والحيلة للرقص فوق الرؤوس، ومن ثم يعودون ويحولون مكتسابات التغيير لصالحهم ويعودوا ليسيطروا من جديد ويخضعوا الناس الى سلطتهم ليحققوا مكاسب افضل وإذا لم تحدث تلك السيطرة والخضوع بواسطة القوى السابقة تتم بالقوى الجديدة التي تبهر الناس بما حققته من مكاسب وانجازات فيفتنوا بها ويعظموا افكارها واقوالها الى الدرجة ان تصبح صنم فكري لا يقبل النقد او الطعن وعلى هذا النحو تستمر الماساة والاخضاع والانسياع وكأن البشرية مجبولة على الخضوع لبعضها البعض.
وتجدر الاشارة هنا الى أن هناك خمس انواع من السلطات المتحالفة التي تسيطر وتتحكم في الناس وتعمل على اخضاعهم وابقائهم تحت سيطرتها وذلك انطلاقا من حاجاتهم ورغباتهم ويمكن ابرازها بشكل مختصرعلى النحو الآتي:
السلطة السياسية: وتقوم على الحاجة والرغبة في النفوذ والسيطرة السياسية
السلطة العسكرية: وتتحكم في الحاجة الى الامن والاستقرار
السلطة المالية: وتتحكم الحاجات والرغبات الفزيولوجية وتعظيم الثروة
السلطة الدينية او الفكرية: وتتحكم في الرغبة في تحقيق السيطرة الفكرية والأتباع
السلطة الاعلامية: وتتحكم في تحقيق الرغبة في الشهرة والظهور،
ولهذا تعمل مختلف الجهات المسيطرة على السعي لامتلاك تلك السلطات فمن خلالها يمكن التحكن في الناس واخضاعهم، وكثير من المفكرين المزيفين يقعون فريسة لتلك السلطات ( ونقصد بالمفكرين المزفين اولائك الذين يتخذون من افكارهم وعلمهم الذي اكتسبوه وسيلة لتحقيق رغباتهم من الشهرة والمال والنفوذ وتكوين الاتباع وغيرها) فتجدهم يلهفون عند ابواب تلك السلطات الخمس السابقة فتجدهم يداهنون ويمدحون كل من يملك تلك السلطات حتى يصيبه بشيء من تلك السلطة التي يمكلكها،
لكن العلماء والمفكرين الحقيقين لم ينظروا الى الحياة على اساس ارضاء الشهوات والاسراف في ذلك بل كانوا يؤثرون التفكير العلمي الصحيح وتحمل صعابه ومطباته على حساب الترف فهم يجدون متعتهم في ذلك اي في اطلاق الفكر واكتشاف الحقائق ومعرفتها وهي عندهم اعظم شهوة واحسنها على الاطلاق ولهذا هم لم يعطوا اهمية الى تلك الشهوات المادية كحب المال والسلطة والشهرة وغيرها، بل كانوا في معظم الاحيان يفضلون السجون ولم ينظروا اليها على انها اسر بل هو فضاء واسع ما دام يضمن لهم حرية التفكير ولا يمكنه ان يحد من قدرته ورغبتهم فيه، وهذا ما ينبغي على العلماء التقيد به وهو البحث عن الحقيقة العلمية المعبرة عن الواقع كما هو لا كما ينبغي ان يراها اصحاب السلطات فان خضعوا لهم فقد وضعوا في اسر العبودية بشتى انواعها الفكرية والمالية والسياسية وغيرها. فتحرير الفكرهو غاية انسانية سامية تعلوعلى كل القيم الاخرى فبها تتحقق الحرية الانسانية المطلقة التي لا يمكن تحقيقها خارد اطارها الفكري والذهني للانسان، لانها تحدث نوع من الصدامات والتعارضات.
ولهذا ركز القران في بداياته على تحرير الفكر وتفعيل العقل من اجل بحث الموجودات والتفكير في الكون باستقلالية وبناء على حقائق واقعية لا من خلال الخضوع الى آراء اشخاص مهما كانوا سواء الاباء والاجداد او مفكرين بارزين.
فالخضوع لاي تنظيم او قانون وضعي مهما كان يدعي انه ديمقراطي وناتج عن الاغلبية ما هو في حقيقته الا انعكاس لمصلحة او رأي شخص او فئة معينة تمتاز بقوة نافذة سواء ماليا او سياسيا او عسكريا او اعلاميا وحتى الذين ادعوا تحرير البشرية من اسر العبودية وزيادة حريتها ما هم في الحقيقة الا انهم ساهموا في تعميق المشكلة اكثر من حلها عندما فرضوا عليها عبودية وافكار تحت مظلة الحرة نفسها.
ومن اجل خدمة الاقلية النافذة سياسيا وماليا واعلاميا تعمل وسائل الاعلام لاخضاع العقول والسيطرة عليها لتحقيق مصلحة السلطة والسيادة المستمرة فلا يمكن ضمان دوام ذلك الا من خلال الاخضاع العقلي وتبديد القدرة والرغبة في التفكير الصحيح وكسر ادارة المقاومة والبحث والتحري، ومن ثم نجد ضعف الاهتمام بالدراسات التي تعمل على بحث طرق تصحيح الفكر وتقويته وزيادة الوعي وتقويم اعوجاجه بين الناس وتهميشها، وفي المقابل نجد تشجيع واهتمام متزايد بالدراسات النفسية والاجتماعية التي تدرس وسائل وطرق التاثير الاعلامي في الجماهير وتوجيه سلوكاتهم. وتظهر الاثار السلبية للاعلام في انه يضعف قوة التفكير من خلال الاعتماد على المواد السهلة والبرامج الهزلية واللهو وفي بعض الاحيان البرامج المضللة وتلك التي تستهدف اضعاف التفكير واثارة العواطف والانفعالات بما فيها برامج الاطفال والرسوم المتحركة التي تبنى على سلسلة الاحداث والمشاهد المتنافية مع منطق العقل والواقع وان كان الهدف يكمن في توسيع خيال الطفل الا ان ذلك التوسيع سيكون على حساب التفكير السليم وهنا يكون جوهر المعضلة، وخاصة ان الانسان يميل الى ما هو سهل ومريح ومن ذلك التلفزيون الذي اصبح الكثير من الناس يعتمد عليها في تحصيل المعرفة اكثرمن البحث عنها في الكتب والمطالعة في المجالات العلمية التي يمكن ان تؤدي الى تنمية تفكيره وتطويره.
وينبغي على الفئة الواعية والمفكرة الا تنجر الى الترويج وتتبرير الانظمة السياسية والا تعمل على اخضاع الاغلبية لها من خلال تعطيل قدرتها على التفكير، بل يجب الفصل بين القدرة وحرية الانسان في التفكير وتحقيق نفوذ وطموحات تلك القوى المسيطرة فلا ينبغي ان نخضع لها عقول الناس للتتصرف فيها وتسخرها لخدمة اغراضها الشخصية (الاسعباد الحديث)
فالنظام الذي يعتمد على سيطرته وبقائه على تجهيل الرعية واضعاف قدرتها على التفكير فهو في حقيقته يجعل لهم القابلية للخضوع واتباع اي جهة كانت سواء خارجية او داخلية لانه لا يمكنه ان يضمن استمرارية سيطرته تلك لان وسائل السيطرة لا يمكن التحكم فيها اليوم فقد اصبح المجال مفتوح من كل الجوانب لا يمكن لاحد احتكار المعلومات وتوجيهها حسب ارادته، فالاعتماد على هذا الاسلوب لم يعد مجدي في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال، مما يجعل البلد عرضة لمخاطر كبيرة كالفتن والتدخلات الاجنبية والتبعية للغير …. ولنلاحظ ان المذاهب والمدارس الفكرية والاديولوجية والعقائدية لم تعد تتحدد كما كان في الماضي على اساس المناطق الجغرافية حينما كان الاتصال بوسائل تقليدية ومحدود في اطار مكاني معين الا ما يحدث بشكل قليل من خلال السفر والتجارة وغيرها مما يحدث نوع من الاحتكاك بين المجتمعات محدثا تداخلات طفيفة، لكن اليوم اصبح الاتصال مفتوح وغير محدود وذو بعد عالمي واصبح مع ذلك كل فكر او مذهب يخترق الاخر مكانيا وزمانيا، ولم تعد المذاهب والمدارس تتشكل على اساس مكاني او زماني بل اصبحت تتشكل على اسس اخرى كالقناعات والميولات والاتجالهات والعواطف واستخدامات وسائل الاتصال عينها، وذلك ان الفرد اصبح يتصل ويتفاعل مع افراد من مختلف مناطق العالم ومن ثم فلم يعد التاثير محصور في الاطار المكاني والزماني الذي يتواجد فيه الفرد او الذي يعيش فيه بل اصبح يمكن التاثر باي فكرة من اي منطقة في العالم، عكس ما كان في السابق فهو يتصل ويتفاعل مع الافراد المحيطين به او الذين يمكن الاتصال بهم فقط وهم قلة من الذين يتواجدون في الاطار الزمي والمكاني المحدود في اطار السفر او التجارة. في ظل هذا الانفتاح يصبح الاعتماد على الاساليب القديمة في السيطرة المعتمدة على التضليل واضعاف القدرة على التفكير غير مجدية بل تحمل معها مخاطر كبيرة، تجعل من اولائك الاتباع او افراد المجتمع عرضة للتدخل الاجنبي والغزو الفكري والثقافي والفتن وغيرها ولنلاحظ ما حدث للمجتمعات العربية كيف اصبحت سهلة الانقياد والانسياق وراء الدعوات المضللة والتي عادة لم تكن مبنية على حجج منطقية لان الحكام كانوا بعتمدون على اضعاف القدرة على التفكير ومن ثم بقدر ما يكون الفرد سهل الانقياد من طرف الحاكم يكون ايضا سهل الانقياد من طرف اطراف اخرى اجنبية او داخلية ولنلاحظ كيف اصبحت الجماهير من مختلف الفئات تنساق وراء دعوات لجمعيات ونقابات وغيرها وتصبح السلطة تعمد على اسكات اولائك الذين يقودون تلك الجماهير من اجل تحقيق مصالجهم الذاتية
فالعلاقة بين السلطة والتفكير علاقة قوية ومتضادة في معظمها ومتى تحرر الانسان من سيطرة تلك القوى يصبح طليق التفكير وحر حرية تامة (ولا نقصد هنا التحرر الانسلاخ من القوانين بل عدم اخضاع الفكر لاي سلطة سواء فكرية او سياسية او غيرها) فاذا خضع الفكر تكون البشرية واقعة تحت العبودية الفكرية وافضل سبيل لتحريرها من ذلك هو خضوعها لتشريع وحكم إلاهي لا يمت بأي صلة لاي طائفة او اي شخص مهما كان وبذلك تكون البشرية حرة من الخضوع لبعضها البعض وتمارس نشاطاتها بكل نزاهة وحرية في ظل القيود الإلاهية التشريعية كما خضعت لاحكامه الكونية الطبيعية ولا احد اعترض عليها.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ عبد الله قلش
    عبد الله قلش

    الرجاء تضحيح كلمة معظلة الى كلمة معضلة

  2. الصورة الرمزية لـ عبد الله قلش
    عبد الله قلش

    الرجاء تضحيح كلمة معظلة الى كلمة معضلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: