الأكشاك العلمية

“يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”، أو “يوجد في الأنهار ما لا يوجد في الأبحار”، مثلٌ سائرٌ من الأمثلة التي اشتهرت على ألسنة وفي كتابات كثيرٍ من الكتاب والمثقّفين والبحثة المعاصرين، قيل في سببه أقوال، لا يهمّنا سردها بقدر ما يهمنا ما فيه من حكمة بليغة لمن يستصغر الأشياء وفيها نفعٌ كبيرٌ وخيرٌ عميمٌ، أو أن الحكمة والعلم والفائدة ليست في كبر السن؛ فقد يوجد عند الأصاغر ما يُفتقد عند الأكابر.

ينطبق هذا المثل على ما يُعرف بالأكشاك العلمية، وهي عبارة عن حوانيت أو دكاكين صغيرة لبيع الكتب أشبه بالمكتبات لكنها أصغر منها مساحة وأقلّ منها حجما، مصنوعة من صفائح حديدية لا طاقة فيها ولا نافذة غير باب يلج منه البائع إلى كشكه، مُستعرضا على أرضية واجهته عناوين مختلفة ترضي الزبون وتشبع شغفه ونهمه.

والعجيب الغريب أن القارئ قد يجد في هذه الأكشاك غايته ويقضي أَرَبَهُ من الكتب ما لا يجده في مكتبات فخمة وضخمة. وقِسْ على ذلك الباعة المتجوّلون أو حتى باعة الأرصفة الذين يتخذون من أرصفة الطرقات أو ساحات الشوارع محالاّ لبيع كتبهم، مشهدٌ يُذكّرنا بما كان يُعرف قديما بأسواق الورّاقين التي كانت تعجّ ببائعي الكتب وعارضيها، وأيضا بالنسّاخين (ناسخي الكتب قبل ظهور آلات الطباعة).

قانونا، يُعتبر البائع المتجول وبائع الأرصفة وصاحب الكشك تاجرا، يلتزم بما يلتزم به التاجر وفق مُتطلّبات وشروط وأحكام القانون التجاري، وأنعم به من تاجر يشتغل في نشر الكتب النافعة، ويُسهم في تعميم النفع وإفادة المجتمع بما يُشبع نهمهم ويقضي أَرَبَهُم.

يُذكّرني حال بعض تجار الكتب بحال صاحب مكتبة أعرفه (…) دمثُ الخلق لين الجانب مع زبائنه وروّاد مكتبته، رأى فيما يرى النائم ما يُفيد أنه سيشتغل في مجال العلم ليس بطلبه وتدريسه، ولكن في نشره وتعميمه بيعا وشراء، فكان تأويل المنام كما وقع. الشاهد أن هذا التاجر الشاب – وأمثاله كُثُر – لم يجعل الربح المادي الفاني همّه وأولويته ولكن الدار الآخرة مُنيته وبُغيته، وقد تيقّن أن الآخرة الباقية خير له من الدنيا الفانية، كما قال الله جلّ وعلا: (ولَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، فكان أن فتح الله جلّ في العُلا عليه بابا واسعا من الرزق الطيب.

أتذكّر أيضا “أبو علي” صاحب كشك الثقافة العربية بوسط عمان عاصمة الأردن الذي يملك ثقافة واسعة عن أهم وآخر الإصدارت، بل وينصحك بقراءة بعضها مُشيرا عليك بذلك بقوله: “إنه كتاب قويّ”، ولا أعتقد أنّ من زار الأردن لم يمرّ بهذا الكشك. أو كشك الأخ “حسان” القريب من ساحة الأمم المتحدة بالدار البيضاء بدولة المغرب الشقيق، فإن الباحث والمثقف يجد نهمه ويقضي حاجته من العلم والثقافة، وبأسعارٍ مقبولة ومعقولة…فضلا عن المكتبات التي تشتهر بها منطقة الحبوس (الأوقاف).

ولم يُرَ لنهمة الرجل مثل إدامة النظر في الكتب؛ فهو أنفع له في الحفظ ورياضة الذهن.

كتبه: د/ عبد المنعم نعيمي.

كلية الحقوق- جامعة الجزائر 1.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد