ملخص:
هناك علاقة متداخلة بين حقل اللّغويات وحقل تحليل الخطاب قديما وحديثا، ولعلّ من أبرز تجلّيات هذا التّداخل هو تلك الحقول البحثية ذات الاهتمامات المزدوجة بين ما هو لغوي وما هو نقدي؛ بحيث تكون علما لغويّا من جهة يتفرّع عنه منهج من مناهج النّقد وتحليل الخطاب الأدبي من جهة أخرى. ومن نماذج ذلك حديثا علم الأسلوب، أمّا قديما فنجد علم البلاغة الذي قَدَّم للنّقد الأدبي آليات كثيرة للتّحليل والدّراسة، إلّا أنّ هذا العلم لا يخلو من قصور في بعض جوانبه، خصوصا فيما يتعلق باقتصاره على مستوى الجملة، لذلك جاءت دعوات الباحثين اليوم في البلاغة إلى تجديدها من خلال إضافة المعطى النّصي إليها مستفيدين من نتائج لسانيات النّص، ومن هؤلاء الباحثين نجد جميل عبد المجيد الذي حاول أن يمنح لمفهوم البديع ومفهوم النّظم البلاغيين بعدا نصيّا، وهو ما جعلني أرغب في قراءة تجربته تلك على أن أكتفي بنظرية النّظم فقط، في كتابه: “بلاغة النّص”.
البلاغة الجديدة:
يشهد النّقد العربي الحديث والمعاصر حركة تدعو إلى تجديد البلاغة العربية، وكسر القوالب التّعليمية المتوارثة عن تقنين السّكاكي والقزويني، والخروج بالدّرس البلاغي إلى أفاق جديدة تنطلق من الوعي بالتّراث البلاغي لتبحث من خلاله عن معطيات جديدة تنأى عن جفاف المادة البلاغية، مستلهمة رؤاها من الدّرس النقدي الغربي. فظهر ما يسمّى بالبلاغة الجديدة ( la nouvelle rhétorique) واتّخذ روافد عدّة منها الأسلوبيّة (stylistique) التي اعتبرها روادها الوريث الشّرعي” للبلاغة القديمة يقول عبد السلام المسدي:”وإذا تبيّنا مسلمات الباحثين والمنظّرين وجدناها تقرّر أنّ الأسلوبية وليدة البلاغة، ووريثتها المباشرة، معنى ذلك إن الأسلوبية قامت كبديل عن البلاغة” . وهو الرأي الذي عارضه محمد العمري بقوله:”وقد اعتبر بعض الباحثين الى حين، أنّ الأسلوبية يمكن أن تقدم بديلا حديثا للبلاغة غير أنّ الأسلوبية ما إن حاولت تثبيت كرسيها على الدّكة التي كانت تستقرّ فيها البلاغة باطمئنان حتى اهتزّ من تحتها رمال على جانبه لانكسار إحدى قوائمه المتمثلة في البعد التداولي” . ثم لبس مصطلح البلاغة الجديدة مفهوم الحجاج مع موجة المد الغربي وتيارات التّداول التي هبت رياحها على السّاحة النّقدية العربية المعاصرة، فرفع مجموعة من الباحثين أعلام الحجاج والخطاب كدلالة عن البلاغة الجديدة من أمثال محمد العمري وعبد الله صولة وغيرهم.
كما اعتبرت لسانيات النّص امتدادا معاصرا للبلاغة يقول فاين ديك (Van.Djik) “إن البلاغة هي السابقة التاريخية لعلم النّص إذا أخذنا في الاعتبار توجهها العام المتمثّل في وصف النصوص وتحديد وظائفها المتعدّدة لكننا نؤثر مصطلح علم النص لأنّ كلمة بلاغة ترتبط حاليا بأشكال أسلوبية خاصة، كما ترتبط بوظائف الاتصال العام ووسائل الإقناع”.
وعليه فالبلاغة الجديدة ما عادت تعني الأسلوبيّة، ولا اقتصرت على الحجاج، ولا تجلّت في لسانيات النّص، إنّما أصبحت بلاغات متعدّدة. يقول محمد مشبال:”إنّ المنجزات الشّكلانية والدّراسات الأسلوبية لا يمكن أن تحلّ محل البلاغة بل تعتبر داخلة في دائرة البلاغات المتشكّلة على مدى تاريخ الإنسانية” . على أن لا تضارب ولا تنافر بين تلك التّيارات بل إنّ التآلف بينها يساهم في بناء بلاغة جديدة تمدّ آفاقا نقدية خطابية وتداولية وتخيلية وتوسع حدودها، والدّليل ما ظهر الآن من بلاغات الرواية والمسرح والسنما والصورة…وكل أشكال التّواصل الإنساني.
* مشروع تجديد البلاغة العربيّة للباحث “جميل عبد المجيد” من خلال كتابه بلاغة النّص مدخل نظري ودراسة تطبيقيّة في ضوء لسانيات النّص:
توطئة: لسانيات النّص
ظهرت لسانيات النّص في الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي كتطوّر للّسانيات العامة التي أسسها دوسوسير (F.DE.SAUSSURE) مع مجموعة من المفكرين من أمثال: فان ديك (Van.Djik) و كومير (W.Kummer)، وهارويغ ( Harweg) ، وبيتوفي (Petofi).. وإن كانت اللّسانيات العامّة لم تخرج عن دراسة عناصر الجملة في مستويات صوتيّة وفنولوجيّة وصرفيّة وتركيبيّة ودلاليّة، فإنّ لسانيات النّص قد أقامت صرحها على دراسة النّص كوحدة كلّيّة، متجاوزة تحليل الجملة إلى النّص أو الخطاب،”وقد اتّخذت اللسانيات النّصية هدفا رئيسيا ترمي الوصول إليه؛ وهو الوصف والتحليل والدّراسة اللّغوية للأبنية النصيّة، وتحليل المظاهر المتنوّعة لأشكال التواصل النّصي” . وهي بذلك-كما قيل- قد أخرجت علوم اللّسان من مأزق الالتصاق بداخل البنية والعجز عن الخروج بالظّاهرة النّصية من حدود التركيب.
ويعرف كوليش ريبال (Gulish Raible) لسانيات النّص بقوله” نقصد بنحو النّص مجموعة من الأعمال اللسانية التي تملك كقاسم مشترك خاصيّة تجعلها تجسّد موضوع دراستها في المتواليات الخطابية ذات الأبعاد التي تتجاوز حدود الجملة” . ولا تبحث لسانيات النّص في الجملة الواحدة منفردة إنّما باعتبارها جملا مترابطة ظاهريّا وباطنيّا، وتدرس ما يجعل النّص نسيجا منتظما ومنسجما ومتّسقا، فهي تتجاوز الجملة لتدرس النّص كخطاب في بُعده التّواصلي. يقول فان ديك (Van.Djik):” إنّ كل خطاب مرتبط على وجه الاطّراد بالفعل التواصلي” . فالنّص لم يعد بنية لغوية تتعالق داخليا فقط، ولا مجموعة من جمل ذات ترابط لغوي فقط إنّما هو تفاعل تواصلي بين مخاطب ومخاطب ذا بعد تداولي.
” ويُعَدّ الأمريكي (هاريس 1952م) أوّل من استخدم التحليل النّصي الشّامل من خلال دراسته الموسومة بـتحليل الخطاب (Discours Analysis)، وهو بحث قيم بدأت معه بوادر الاهتمام بالنّص، والنّص وسياقه الاجتماعي، وقدّم في بحثه أول تحليل منهجي لنصوص بعينها” . وقد ترجم إلى الفرنسية سنة 1969.
تبحث لسانيات النّص في انبناء النّص وتأويله، والبحث فيه عن آليات الاتساق والانسجام والتّناص والسيّاق والترّكيب والتّوليد والتّحويل والتّشاكل والبناء النّصي والبنية الدّلالية العامّة وهي بذلك تبحث في “كيفية تحويله من جملة نووية صغرى إلى خطاب نص مسهب وممطط” .
وتعود الإرهاصات الأولى للسانيات النّص إلى فلاديمير بروبV.Propp سنة 1928 في كتابه “الحكايات الروسية العجيبة”، حيث أنّه أوّل من قسّم النّص إلى مقاطع ومتواليّات سرديّة،”حيث قدّم أوّل دراسة لسانية تحليلية لمقاطع الحكاية بغية تحديد المقاطع السردية وتبيان عواملها وشخوصها النّحوية بمعنى أنّه اهتم بالتنظيم المقطعي” .
في اشتغالها على خطاب النّص اهتمت لسانيات النّص بالحقول الدلالية والمعجمية داخل السّياق النّصي مستندة على الإحصاء والمعطيات الكميّة فيه، وركزت على النّصوص والخطابات السياسية بإحصاء الكلمات المتكررة، ونسبة توارها في النّص. كما اعتمدت التّمييز بين الكلمات الحرفية والإيحائية. واعتبرت النّص جملة كبرى تخضع لما تخضع له الجملة الصغرى. واشتغلت على تجاوز حدود الجملة وفق رؤية تأويليّة فلسفيّة إلى النّص أو الخطاب. ويتجلّى ذلك بوضوح في كتاب بول ريكور (Paul Ricoeur) من النّص إلى الفعل : محاولة هرميونيطيقية، وفق قاعدة أنّ النّص جملة كبرى. وقد ركّز مخائيل باختين (Bakhtine) ومجموعة من البنويين من أمثال رومان جاكبسون(Jacobson) و بنيفست (Benvist) وغيرهم على مقاربة الملفوظ والذّات المتكلمة وارتباطها بمحيطها الاجتماعي.
كما اشتغلت لسانيات النّص في بعدها التّداولي على تأثير الخطاب في المتلقي وتغيير أفعاله ومعتقداته أو مواقفه السّلوكية، فالنّص الأدبي ليس مجرد تبادل للأخبار. وعليه اعتمدت نظرية الأفعال الكلامية التي تقوم على ثلاث مراكز :فعل القول-الذات الدالة- الفعل الناتج عن القول.
كما لم تغفل لسانيات النّص العناية بانبناء النّص وتناسقه وانسجامه ضمنيا ومعنويا، مستعينة بمبادئ نعوم تشومسكي ( الكفاية النصية والبنية العميقة النصية)
و تعتمد دراسة النّص من خلال تجاوز الجملة مبدأ المحايثة،وتقوم على مقاربته من خلال ثلاث مستويات:المستوى الظاهري – مستوى العمق.
أما ما يعرف بالسوسيولسانيات أو اللسانيات الاجتماعية أو علم الاجتماع اللغوي..فهي مقاربة لسانيّة نصيّة تدرس الكلام في علاقته بالمجتمع ضمن إطاره التّواصلي .وتدرس علاقة اللغة بالفئات العمريّة وكذا علاقتها بالممارسات الاجتماعيّة كما تهتمّ باللغة الأم وموت اللغات واللهجات….
كما تتوسل لسانيات النّص علاج النّص على أسس رقميّة، لمعرفة كيفية توالد النّصوص عمقا وسطحا مستفيدة من نظرية الذكاء الاصطناعي .
كانت هذه لمحة مختصر عن لسانيات النص نشأتها واهم مقارباتها للنص، ومن خلالها يمكن التوغل في نظرة الباحث جميل عبد المجيد لفهم زاوية النظر التي اعتمدها الباحث لرصد فكرة تطوير البلاغة العربية وفق مقاربات لسانيات النص في النموذج التطبيقي، وإثبات فكرة الانتقال من البلاغة من حدود الجملة الى انفتاح النص.
بلاغة النص مدخل نظري ودراسة تطبيقية (جميل عبد المجيد)
جميل عبد المجيد من مواليد 1957 بالعراق، باحث في النّقد الحديث تحصل على جائزة الدولة في الآداب لعام 2001 في مصر، وله مؤلفات عديدة منها : ”البديع بين البلاغة الغربية واللسانيات النصية ”1998 و”بلاغة النص ” 1999 و”البلاغة والاتصال ”2000 و”مقدمة في شعرية الإعلان ”2001 و”المهارات الأساسية في اللغة العربية ”2006 و”البيان في تعليم اللغة العربية لغير الناطفين بها ”2006 و ”نحو تحليل أدبي ثقافي.. دراسة في قصيدة النثر”، وقد اشترك في مؤتمرات ثقافية في مصر والأردن والمغرب والكويت والإمارات.
. قدّم الباحث جميل عبد المجيد كتابه “بلاغة النّص مدخل نظري ودراسة تطبيقيّة” ليكون نموذجا تطبيقيا لمشروعه البلاغي، مبيّنا من خلاله أبعاد التّصور البلاغي الجديد القائم على مقاربات لسانيّات النّص. فهو يدعو إلى تجاوز أسوار الجملة إلى النّص، ويختبر في الوقت نفسه درجة نجاحه التنظري من خلال تطبيق إجراءات مشروعه على قصيدتين: الأولى للمفضلية الأولى للشاعر تأبط شرا يختبر فيها آليات جديدة للبديع، والثانية للطفيل الغنوي يحلّلها انطلاقا من نظرية النّظم، محاولا تطويرها وجعلها تمتدّ من نظم الجملة إلى الفقرة الأدبية، ثم إلى القطعة الكاملة من الشعر أو النثر .
يطرح جميل عبد المجيد مشروعه في ضوء دعوة أمين الخولي من قبله إلى تجديد الدّرس البلاغي- هذه الدعوة التي ظهرت في الثلاثينيات من القرن الماضي- حيث يرى انّه لابد من الانتقال بالبلاغة العربية من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص، أي إلى الفقرة الأدبية ثم القطعة الكاملة من شعر ونثر وفق اعتبار النّص كلا متماسكا وهيكلا متواصل الأجزاء، من خلال تقسيمه إلى متواليات انطلاقا من النّص الصغير Microtexte إلى النّص الكبير Macrotexte . ثم البحث عن كيفية انبناء النّص، وإنتاجه، وفهمه وتأويليه باستعمال آليات لسانيّة مختلفة واستكشاف مواطن الاتّساق والانسجام والتثبت، في دراسة كلية لبعده التّواصلي الخطابي والتّداولي، بتوسل آليات تحليل وتفكيك النّصوص وتشريحيها بنيويا وتوليديا وتداوليا..
مشروع جميل عبد المجيد لتجديد البلاغة العربية يشاركه فيه مجموعة من الباحثين العرب المعاصرين من امثال: مصطفى الصاوي الجويني “البلاغة العربية تأصيل وتجديد”، وسلامة موسى في كتابه البلاغة العصرية واللغة العربية”، ومصطفى الصاوي الجويني في كتابه “البلاغة العربية تأصيل وتجديد”..وغيرهم.
يعد أمين الخولي أقدم دعاة هذا التيار، من خلال كتابيه مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير(1961) وفن القول(1947)- على ان دعوة امين الخولي الى تجديد البلاغة كانت تستهدف تغيير المناهج البلاغية القديمة وغربلتها من التّعقيدات الفلسفية التي بنيت عليها، والبحث عن بلاغة ميسرة تساير تطورات العصر، وتتناول الفنون الجديدة للادب كالفن القصصي، وكذا الدعوة الى اتصال البلاغة بعلم النفس، ولم تكن دعوته ذات صلة بلسانيات النص أو غيرها من المدارس الغربية الحديثة- وقد قال بضرورة “مجاوزة البحث البلاغي المستوى الذي وقف عند(مستوى الجملة) ، الى مستوى وراء الجملة في الفقرة والنص” حتى قيل أنّ رؤياه كانت سابقة للسانيات النّص في المدرسة الغربية على اعتبار زمن المنشأ التاريخي؛ فهذه الأخيرة تبلورت آلياتها في منتصف الستينايات وأوائل السبعينيات كما سبق ذكره. على أن الأمر ههنا لا يتعلق بأسبقية الرؤى انّما يتعلق ببعث الروح في تابوت البلاغة العربية “المحنطة في قوالب وحدود منطقية، وشروح واستطرادات فلسفية” خاصة ونحن في زمن انفتاح الأدب العربي على الآداب الغربية وإفادته منها وظهور فنون أدبية لم تكن تعرفها البلاغة العربية القديمة، ” فلن يجدينا أن نقيس هذه الفنون الأدبية الحديثة بمقاييس مجلوبة لا تلائم طبيعة اللغة التي نعبر بها ، بل لابدّ من نظرة جديدة واسعة تجعل البلاغة العربية صالحة لأداء وظيفتها في مجال الأدب الحديث” .
المدخل النّظري والتّصورات في مشروع جميل عبد المجيد:
يتّخذ جميل عبد المجيد في تصور مشروعه من نظرية النظم مركز بناء، فتجده يعرضها في كتابه ويحللها مستشهدا بأمثلة من القران الكريم ومن الشّعر الذي استشهد به صاحب الدلائل والأسرار الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله تعالى، شارحا لفكرة التأليف بين اللفظ والمعنى، مؤكدا انحصار الدّرس البلاغي القديم دون أسوار الجملة لا يتخطاها إلى ما بعدها؛ فالبلاغة القديمة كانت في أقصى مداها تنظر إلى البيت والبيتين لا تتعداهما، يقول أمين الخولي:”تبدأ البلاغة على آخر نظام لها، بالبحث في المفردات وخصائصها وهو علم المعاني، ثم البحث في المركبات ودلالتها وهو علم البيان، ثم تحسين ثانوي وهو علم البديع. وفي هذا كله لم يتعدّ البحث دائرة الجملة رأوها نظرية القضية كما سمعنا، فالبحث في المعاني هو بحث في طرفي الجملة-المسند والمسند اليه- وتوابعهما…ونجد أبحاث البيان لا تتجاوز دائرة الجملة أيضا، إلاّ أن تكون جملا متماسكة في أداء معنى واحد كتشبه مركب أو مجاز كذلك وهي جمل في منزلة الجملة الواحدة…أما وراء بحث الجملة فلا تجد شيئا” .
ويرجع الخولي سبب انحصار الدّرس البلاغي في الجملة إلى تأثّر البلاغيين بالفلاسفة، فالجملة لديهم تقابل القضية لدى المناطقة. ومن ثمة كانت دعوة الخولي إلى العمل على تطوير الدّرس البلاغي وإخراجه من جمود الدّرس التراثي. و”مسالة الانتقال بالبلاغة العربية من (بلاغة الجملة) إلى(بلاغة النّص) إنما هي مشروع جيل أو أجيال، يستلزم تحقيقه تضافر الجهود وتكاملها وتتابعها” .
نظرية النظم من نظم الجملة إلى نظم النّص في رؤية جميل عبد المجيد:
يجمع النّقاد على أنّ الدّرس البلاغي التّراثي قد توقف عند نظرية النظم للإمام عبد القاهر الجرجاني(ت 471هـ) التي مثلت نضوج الفكر البلاغي القديم، فقد انتهى بعد صراعات داخل المؤسسة النقدية حول ثنائيات اللفظ والمعنى حين أثبت الإمام عبد القاهر الجرجاني استحالة انفصال أحدهما على الأخر مؤسسا بذلك نظرية نقدية تقوم على أساس الترّكيب والتّأليف. يقول” ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل، ولا هي منا بسبيل وإنّما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتّأليف والتّركيب” فالوظيفة الإخبارية للغة لا يحققها اللفظ معزولا عن التركيب وفق علاقات جامعة. و”ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النّطق بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل” فالنظم لا يتحقق باستقلال اللفظ عن المعنى إانما هو التأليف والتركيب وتعالق الكلام بعضه ببعض بواسطة قرائن سياقية ومقامية محققة وظائف تداولية.
ويبدو أن نظرية النظم لدى الإمام عبد القاهر الجرجاني قد شدت فكر الباحث جميل عبد المجيد فراح يبسطها شرحا وافيا لينتقل منها إلى توسيع تصوره، فهو يرى أنّ نظرية النّظم عند الجرجاني رغم قيمتها البلاغية لم تتعدّ نظم الجملة، يقول: “بيد أننا يجب أن ندرك أن النّظم الذي يقيمه عبد القاهر الجرجاني إنّما (هو نظم الجملة) وليس (نظم النّص) ” فحسب نظرته إن كشف العلاقات النّحوية كان مرتبطا بالجملة الواحدة أو البيت الواحد ولم يتعدها إلى النّص ككتلة كُليّة ” ويرجع هذا فيم ارى – إلى أداة النّظم التي قال بها عبد القاهر الجرجاني وهي (النحو)، فالنحو-فيما قدمه النحاة العرب (نحو الجملة)” . ويطمح إلى تأصيل فكرته القائلة ب”اتخاذ النّص كله وحدة للتّحليل اللّغوي ، بوصف النّص وحدة واحدة تتعالق أجزاؤها وتتفاعل فيما بينها لتنتج دلالة كُليّة للنّص” . ويرى أنّ لهذا الترابط نوعان:
ترابط رأسي:
وهو ترابط بين أبيات متتالية داخل كل جزء من أجزاء النص.
ترابط أفقي:
هو ترابط بين أبيات بعضها ينتمي إلى جزء من أجزاء النص غير الجزء الذي ينتمي اليه البعض الآخر المرتبط بها، كأن يرتبط مثلا البيت الثاني في الجزء الأول بالبيت الأخير في الجزء الرابع.
ولإثبات هذا التّرابط لا تكتفي الدّراسة بالاعتماد على معاني النّحو وحدها بل تستفيد من غيره من الظّواهر اللّغوية خاصّة الصّور البيانية، كما لا تهمل السياق الثّقافي للنّص “ويكون هذا السياق أداة فاعلة في إضاءة النّص وسبر أغواره، وهذه مسالة تقتضي معايشة النّص والتّفاعل معه وقراءته قراءة متحررة من فكرة الدّلالات الثّابتة للظواهر اللغوية” .
يضع الباحث جميل عبد المجيد مثالا تطبيقيا يحلّل من خلاله قصيدة جاهلية للشاعر الطفيل الغنوي “تحليلا “يأمل في الكشف عن الرّوابط بين أجزاء النّص التي قد تبدو مفككة وهذه مسألة أدقّ من المسائل المتعلقة بالشعر الجاهلي” .
إجراءات التحليل:
1- إثبات النص مجزوء إلى محاور دلالية: يشمل التحليل جانبين أساسيين:
*الجانب الأول:
يدرس الصورة البيانية ضوء المعاني النحوية المستخدمة فيها لقياس مدى فاعلية هذه المعاني في فهم مراد الصورة وجمالياتها.كما تدرس الصورة في ضوء بقية الصور الواردة في النص لتبين مدى فاعلية الصور في تفسير بعضها البعض ، وفي تحقيق الترابط بين أجزاء النّص وفي الدّلالة على الدّلالة الكليّة للنّص.
*الجانب الثاني:
يدرس المعاني النّحوية المستخدمة في النّص ومدى فاعليتها في تحقيق التّرابط الأفقي والرأسي للنّص، وفي دلالتها على الدلالة الكليّة للنّص مع الاستعانة بمقاربة إحصائية.
الدراسة التطبيقية (النظم):
يتخذ جميل عبد المجيد قصيدة الطفيل الغنوي نموذجا تطبيقيا لمشروعه.
إجراءات التحليل النظمي:
1- إثبات النّصمجزءً إلى محاور دلالية
2- اعتماد التحليل الجانب البياني والنحوي
*يقسم الباحث قصيدة الطفيل الغنوي المتكونة من ثلاثة وثلاثين بيتا إلى أربعة محاور:
– المحور الاول : الضاعنة من 1-12
– المحور الثاني : السحاب من 13-16
– المحور الثالث: الابل من 17-27
– المحور الرابع: البطولة من 28-33
التحليل:
أولا : الصّورة البيانيّة
يحصي الباحث ستة عشر صورة فنية موزعة على المحاور الأربعة.
المحور الأول : تتصور الظاعنة في ثماني صور لتوحي بمعان أبرزها الخصوبة أو الاستعداد للخصوبة تحقق الترابط الأفقي.
الظاعنة الفسيل المكمم
الظاعنة برق مغيم
خد الظاعنة مجرى الدمع
بدانة الظاعنة ريا المخدم
الظاعنة شمس
رفاهية الظاعنة رقود الضحى
سلامة الظاعنة ميسان ليل
الخصوبة في الأبيات تحقق الترابط الأفقي في المحور الأول
المحور الثاني:
السحاب ارفاض حنتم
السحاب الناقة
السحاب – الظاعنة – الناقة تحقق دلالة الخصوبة والماء .كما تحقق الترابط الأفقي في المحور
الخصوبة
قاسم مشترك ارتباط متوقع
الخصوبة
المحور الثالث:
الإبل عذارى قريش
أمن الإبل لم تسمع نبوح مقامة – لم تر نارا
الإبل سحاب
يقع الترابط في هذا المحور بين الإبل والظاعنة في إطار جامع هو الخصوبة
المحور الرابع:
الفتى الفرس
الفرس رداة
ارتباط الفرس بفكرتي الجهد والكرم
يتحقق الترابط الراسي بين الأبيات من خلال ارتباط الخصوبة بالفتى واهب الحياة.
ثانيا المعاني النحوية:
المعاني النّحوية المستخدمة في النّص كثيرة ذات فاعلية واضحة في تشكّل المعنى، محققا تارة الترابط الرّأسي بين الأبيات وتارة التّرابط الأفقي، ومن أبرز المعاني النحوية المستخدمة في النّص: الحال والصفة فهما من أكثر المعاني النّحوية استخداما في النّص، فقد استعملت الحال سبعا وعشرين مرة ، واستعملت الصفة خمسا وثلاثين مرة. وكلها تتعالق لتحقق الترابط الأفقي والراسي لأبيات القصيدة.
ويوظف الباحث البعد الإحصائي ليرجح من خلاله صحة الدلائل التي يستنبطها التحليل والتي يتوضّح من خلالها تعادل فاعلية الخصوبة بين كل من الظاعنة والشّاعر في منح الحياة.
خاتمة:
كانت المداخلة قراءة لمشروع الباحث جميل عبد أنّ الباحث المجيد حول تجديد الدرس البلاغي وتطويره بالاستعانة بلسانيات النّص (في مجال النظم)، ويلاحظ أنّ الباحث من خلال سعيه لتجديد البلاغة لم يقف موقف القطيعة مع البحث التراثي والارتماء في الحداثة الغربية، ولا اتخذ موقف تقديس للتراث إنما اعتبر التراث منصة ينطلق منها لحداثة بلاغية تخرج الدّرس البلاغي من قوقعة القديم والانفتاح على رؤى تمنح البلاغة روحا جديدة مستعينا بلسانيات النص؛ حيث يدعو المشروع إلى الخروج بالدّرس البلاغي من أسوار الجملة إلى النّص بتوظيف نظرية النّظم لعبد القاهر الجرجاني وتطويرها والاستفادة منها في تأسيس مقولة التّعالق النّصي.
لقد حاول الباحث إثبات فكرة نظم النّص تطبيقا على قصيدة واحدة هي للطفيل الغنوي ؛ حيث أكّد من خلال تحليلها تماسك النّص الجاهلي وترابطه بتتبّع تعالق الصّور البيانيّة، وترابط متعلقات المعاني النّحوية. غير أنّه اكتفى بالتّطبيق على نص واحد ورأى من خلاله إمكانية تعميم مشروعه على نصوص الشّعر الجاهلي.
وإن كان مشروع الباحث يستند على اللسانيات النصية إلا أنّه لم يتوسّع في توظّيف كبرى مقارباتها في تحليل النّص.
كما يمكن اعتبار مشروع الباحث جميل عبد المجيد فرعا من فروع البلاغة الجديدة ، إذ لا يمكن قصر البلاغة الجديدة على لسانيات النص إنما هي بلاغات متعددة .
تيسمسيلت في 14 يناير2018
الكلمات المفتاحية: التعالق النصي- الترابط الرأسي- الترابط الافقي-
الاسم : سامية تلي
الهاتف: 0669240677
البريد الإلكتروني: [email protected]
الدولة: الجزائر
موجز السيرة العلمية: تلي سامية من مواليد17/10/1976 متحصلة على
-شهادة الباكالوريا جوان 1996
-شهادة الليسانس جوان2000
-شهادة الماستر جوان2015
التدرج: السنة الاولى دكتوراه
اترك رد