نصيرة محمدي: أستاذة بجامعة الجزائر
تعتبر الكاتبة السورية غادة السمّان من أبرز الكتاب العرب وأغزرهم ابداعا في الشعر والقصة والرواية، وأدب الرحلات. وقراءة غادة السمّان، والوقوف عند أدبها مسألة تستدعي النظر والاهتمام بمنجزها من زوايا متعددة لأنها تجربة فريدة وخصبة قابلة للقراءات، ومفتوحة على جميع الاحتمالات. لذلك ارتأينا اختيار مجموعتين قصصيتين لغادة كنماذج لدراستها فنيا هنا: “لا بحر في بيروت” و”زمن الحب الآخر” بالاستفادة من المهج البنيوي السردي من خلال تحديد موقع الراوي والشخصيات الحكائية (علاقة الشخصيات ببعضها)، والنظام الزمني وبعض دلالات المكان.
1/ موقع السارد:
في كل النصوص يقوم السارد بوظيفة أخرى في صناعة الأحداث والمشاركة فيها بوصفه شخصية أساسية، كما أنه يأخذ موقع الأنثى، أي الراوي المؤنث، الذي يبدو من البداية تأزمه وبحثه المستمر عن الخلاص. وإذا كان النقاد قد ميّزوا ثلاث طرق لرواية المحكي بالنظر إلى وضعية السارد فإن الملاحظ على النصوص القصصية لغادة السمّان أنها تنحو نحو ما يسمى بـ (الرؤية مع) حيث يكون الراوي والشخصية في مستوى واحد من العلم بتفاصيل المادة الحكائية، فلا يتقدم أحدهما على الآخر، وفيما يلي جدول يبين وضعية السارد ودوره في النصوص القصصية.
1- مجموعة زمن الحب الآخر:
السارد طبيعته ودوره عنوان القصة
عيوش رواية الأحداث –شخصية أساسية/ ضمير المتكلم أنثى متحررة من الثقافة الليبرالية السطحية- مصطدمة بالرجل الشرقي –مثقفة- (صحفية). الحياة بدأت للتو
خديجة طالبة ثم ممثلة/ راوية (أنثى)/ ضمير؟ وشخصية أساسية-ذات منزع بورجوازي- تمقت الطبيعة الداخلية للرجل الشرقي –ممثلة على مستوى العلاقة الزوجية ببهاء. الديك
بلا اسم علم طالبة في بيروت/ كاتبة –تشعر بالغربة- راوية أساسية للأحداث –شابة جميلة- تفتقد الاحساس بأنوثتها أمام دمار بيروت /ضمير الغائب. ليل الغرباء
غالية أحمد صحفية كاتبة/ رواية للأحداث، مسيرة لها، موجهة للفكرة الأساسية فيها وهي الدفاع عن حرية الزوجة الأنثى في التعبير –تستقيل من المهنة تطلق من زوجها. آخر قصة غير بيضاء
بلا اسم علم (أنثى) أنى راوية أساسية للأحداث ومؤطرة لها –غير متزوجة تنتقد غرابة مشاعر الرجل غير الصادقة القابلة للتغير من امرأة إلى أخرى. بحثاً عن سهول القمر
بلا اسم (أنثى) راوي/ شخصية، تعيس، يبحث عن الخلاص من خطيئة رجل حطمته وتركها. تبحث عن سعادتها في معاشرة عجوز له أولاد ثلاثة لمواجهة القدر والمصير. ذبابتان
نلاحظ –كما ذكرنا آنفا- أن السارد هو أنثى وفي كل الحالات لا تخرج هذه الأنثى عن صفات أساسية هي: المثقفة، المناضلة من أجل تحرير الرجل الشرقي من أفكاره المسبقة والجامدة عن المرأة ودورها المفترض في الحياة، ليست من الطبقة الفقيرة كما أن الرجال الذين يتوجه إليهم الخطاب هم رجال من الدرجة الأولى –إن صحّ التعبير يملكون المال والنفوذ، ولكن لا يملكون الوعي الفكري، ويقفون أمام حرية الرأي والفكر، اليائسة من وضعية الرجل الشرقي، ولكنها مؤمنة بالثورة إلى حد التضحية بمصالحها وسنعود إلى تحليل هذه المعطيات بعد أن نقف على طبيعة ودور السارد في المجموعات الأخرى المشكلة لمتننا.
2- لا بحر في بيروت:
اسم السارد طبيعته ودوره عنوان القصة
سنية امرأة مثقفة شابة –تهوى رجلا متزوجا تعيسا ويذهبان في رحلة خاصة في السيارة إلى غير اتجاه، فينتهي بهما الأمر إلى الموت- الراوي هنا هو الأنثى الشخصية. نداء السفينة
بلا اسم (أنثى) الراوي امرأة لها دور الشخصية الأساسية –ذات بنية جسدية مغرية- لا تجد من يحبها لذاتها فهي لذلك تنتقد هذه النظرة المادية. لعنة اللحم الأسمر
لا اسم له هو رواية ووصف الشخصيات والاشياء والفضاء لا يشارك في الأحداث، بينما يمثل بسام الشخصية المحورية ويعلم الراوي أكثر من الشخصية كذلك متعاطف مع البطل المثقف (أستاذ الفلسفة) الذي يبحث عن المرأة /المثال. أنياب رجل وحيد
بلا اسم (أنثى) الراوي هنا شخصية أساسية تروي الأحداث وتوجهها. عالمة بمصائر الشخصيات الأخرى، تقف ضد الزواج القسري وكذلك الطلاق، لأنه سبب في وجود (الغجريات) الضائعات ولذلك تمتنع عن الزواج بمن تحب وهو متزوج. غجرية بلا مرفأ
بلا اسم الراوي لا يشارك في الأحداث، يقوم بأدواره الكلاسيكية وهي الأخبار أحيانا والوصف، بينما تمثل (ميرنا) الشخصية الأساسية وهي امرأة متزوجة تتنبأ بموت أبيها (نمر) والموضوع نقد المصير الانساني. القيد والتابوت
بلا اسم (أنثى) المرأة هي الراوي والطرف الأساسي في عملية الحكي، طالبة وذات ميول ليبرالية –تريد تعلم الحياة من الحياة وليس من الجامعة لذلك تقرر الهرب من الجامعة إلى الحب. وتكتشف أن الرجل الذي تهواه مخادع. الرجل ذو الهاتفين
بلا اسم الراوي يعلم بكل شيء، ولا يشارك في الأحداث، محايد، بينما البطل هو الدكتور الطبيب النفساني الذي يسقط في هواية متعبة هي الحب ولا يشفى منها، مثقف. هواية متعبة
بلا اسم الراوي لا يقوم بأي دور في الأحداث سوى وظيفة الوصف والتقديم، ويظهر أنه عليم بكل شيء. لا بحر في بيروت
بلا اسم الراوي يقدم ويصف الأحداث والشخصيات، البطل ديبلوماسي (سفير)، يقع في حب امرأة ولا يستطيع أن يتخلص منه. ويبكي الرقم 216
إن الغاية من هذا التمثيل هو أن نطرح مجموعة أسئلة ترتبط بطبيعة الرؤية وهي “الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها ثم من يتحدث إلى القارئ؟ هل هو المؤلف وقد استعان بضمير الغائب أو ضمير المتكلم؟ ثم ما الموقع الذي يحتله الراوي بالنسبة للأحداث، هل يقف خلفها فيدفعها إلى القارئ؟ هل يقودها أم يكون في مركزها”
وبالرغم من المقاربات المختلفة لمفهوم التبئير Focalisation فإن الملاحظ أن هناك طريقتين في الرؤية: الرؤية الخارجية الموضوعية، والرؤية الداخلية الذاتية. ففي الأولى يكون الراوي على الهامش يصف ما يظهر للعيان، ولا يحاول أن يشارك في الأحداث، أما الثانية فهي الطريقة التي يسيطر فيها الراوي على المادة القصصية ليعبر عن الداخلي والذاتي. وإذا ما تأملنا التمثيل الذي قمنا به في الجداول السابقة نلاحظ هيمنة السرد الموضوعي الذي فيه السارد عالما بكل شيء، وكأنه صوت المؤلف الضمني حتى تتناص البنية القصصية بـ(السيرة) الذاتية، وهنا نلاحظ أن جنوح النص إلى الراوي العليم يكاد يهيمن على كل قصص غادة السمّان (95%) وهو ما يجعل قدرة إيصال الرسالة (Le message) التي يقوم عليها النص سهلة إلى حدّ ما، فالكاتبة بنت مشروعا فكريا في ذهنها، ويكاد يكون واضح المعالم وقد ذكرنا بعضها من استخلاصاتنا السابقة، ثم اختارت الشكل المناسب لتبليغ ذلك، وهو الذي يقوم على سارد يحيل على مؤلف ضمني يرغب في تفجير أفكاره التنويرية الجديدة ازاء عالم رجولي مغلق ومحشو بالأفكار الشرفية البالية، كما ظهر الراوي/الشخصية ذا خاصية انثوية ميالة إلى التحرر والانعتاق غير راضية بوضعها المعنوي خاصة على مستوى علاقتها بالرجل.
وتبدو وسط عالم لا يفهم أبعاد تفكيرها، غير واع بتخلفه ورجعيته، وبالمقابل يظهر الرجل في الدرجة الثانية، بالنسبة لحضوره في النص القصصي، وهو ذو نزعة أبوية مسيطرة، يعيش الخديعة والكبت الجنسي والشره للمادة واستغلال الأنثى استغلالا جنسيا. أغلب الساردين الاناث ذوو مستوى تعليمي عال ويشغلون وظائف تدل على الاطلاع والوعي بأهمية النقد والتغيير كالصحافة والجامعة أو يمارسون “هواية” صعبة كالكتابة الأدبية. وهو ما يدل على التماس القوي بين النصوص القصصية والسيرة الذاتية.
وإذا كان الرجل يظهر كذلك فهو علامة تعاطف المؤلف الضمني أو السارد، الشخصية معه، وإذا كان لا بدّ أت نبدي وجهة نظرنا فإن التقارب الزمني في كتابة النصوص في المجموعات المختلفة أظهر مدى التشابه القوي بين النصوص في الموضوعات (Les thèmes) التي تنبني عليها كل قصة، ولكن طريقة عرضها فيها قوة أسلوبية واضحة حيث تكمن جماليتها وليس في الموضوعة في حدّ ذاتها لأنها لا تخادع أفق انتظار المتلقي. وفي كل هذا تسعى النصوص إلى بلورة مفهوم حرية الجسد واستقلال الأنثى، وضرورة تحرير الرجل كذلك من التقاليد الشرقية.
يؤسس النص القصصي في هذا المستوى لصراع بانتصار أو هزيمة وتكمن أهمية هذا الصراع في أنه تناظر موضوعاتي، إنْ على مستوى الكتابة أو الواقع السوسيولوجي والنفسي العربي، وما من شك في أننا لا يمكن أن نغفل الدور الذي قامت به الأفكار التنويرية ابّان القرن التاسع عشر خاصة على يد أحمد أمين، قاسم أمين وهدى شعراوي ثم نوال السعداوي، وفي رأينا ان أفكار غادة السمّان هي متابعة لهذا الطريق الطويل الذي بدأ من هؤلاء، وسيبقى ما دام العالم العربي ما يزال يترنح في التخلف، ثم نجد أهمية أخرى لهذا الصراع في كونه مفتوحا على لنهايات مختلفة، فبعض النصوص تنتهي لصالح المرأة، وبعضها لصالح الرجل وأحيانا تكون عديمة تأتي في شكل انتحاري على نحو قصة (نداء السفينة) حيث تموت شخصيتا الراوي/البطل والشخصية المشاركة في الأحداث. ونلاحظ أن انتصار النهاية للراوي/الأنثى، يتخذ صفات معنوية بانتصار الوعي الأنثوي الثائر على الفكر التقليدي التبعي، وفي ذلك انتصار لأفكار الكاتبة بدون شك. وهذا لا يعني أن الانتصار يأتي هكذا بسطحية ومباشرة خطية مملة بل يتخذ شكلا سرديا تتناقل فيه العناصر السردية من نمطها الكلاسيكي إلى محاولة استعمال “الفلاش باك” على نحو قصة (الحياة بدأت للتو) “الارتداد إلى الخلف السوابق” في مجموعة زمن الحب الآخر، وهذا يفتح المجال أمام البنية الزمنية المختلفة هذا فضلا عن الحوار بأشكاله المتباينة والرمز الاجتماعي• على نحو ما هو موجود في قصة (الديك) مثلا.
ان الذات التي يُناط بها دور المصارع:» تواجه مصاعب وعراقيل، كما قد تلقى تسهيلات ومساعدات، تضع كفاءاتها على المحك وتجعل من الأحداث الواقعة مجموعة متكاملة من المؤشرات الدالة على منحى الصراع بين القوى المتنازعة، وعلى النتيجة النهائية التي تبلغها منه، لا فرق أكانت هذه النتيجة تصب لمصلحة الذات نفسها أم لمصلحة طرف آخر مغاير لها « ذلك لأن الذي يهم ليس من ينتصر وإنما كيف ينتصر طرف على آخر وهو ما كنا نؤد بيانه فيما خلا من الأسطر. وإذا كان من مؤشر على هذا الصراع فإن عنصر الثقافة والوعي بالوضعية النفسية والاجتماعية للبطل/الأنثى، ومعرفته العميقة بالرجل وهو الطرف الآخر في الصراع تشكل أهم هذه المؤشرات. ان “الثورة” التي يقوم بها السارد/الأبطال والشخصيات الأساسية ليست ثورة عنف، انما هي ثورة عقلانية تجعل مساحة الحوار بين الطرفين أكبر، وهو ما حاول السرد القصصي لدى غادة السمّان بلوغه.
تعتبر اللغة المكون الأساسي للنص ومظهر تجلّيه، كما تكشف عن أبعاد تاريخية ونفسية مختلفة، والملاحظة الأولى التي يكتشفها القارئ لقصص غادة السمّان هي »أصالة« لغتها، فهي غير مجتلبة من نموذج كتابي آخر، على نحو ما كان عليه الواقع الأدبي في بداياته الأولى، حيث اعتبرت اللغة المحافظة الكلاسيكية دليل النضج والنبوغ والابداع وما خرج عنها لم يحز رضى النقاد. وفي مستويات اللغة كلها لا نجد إلا مستوى واحدا وهو اللغة العربية الفصيحة التي لا تتباين فصاحتها من شخصية إلى أخرى، بل تحتفظ بمستوى واحد. وهو مستوى يغرق في الاستعارات والمجاز بشكل لافت للنظر، حتى ليشكل علامة من علامات اللغة القصصية لدى الكاتبة، وتقول مثلا في بعض عباراتها: »العاصفة تشرنق المدينة بالمطر والظلمة وزعيق الريح، غرفتي خائفة مدفونة في أحشاء البناء، الساعة تلهث فوق الحائط وتكاد عقاربها تشير إلى الثانية عشرة. مكتبتي المتخمة تتوهج بالتحدي…« وهي لغة تنحو هذا المنحى حيث تكمن جماليتها في قدرتها على توليد المعاني واضفاء طابع التخييل على الصورة التي تود نقلها إلى القارئ بشكل يدل على أن الصورة غير مستقلة عن الشعور والحس الداخلي للكاتبة؛ وإذْ نقول هذا فإننا ننطلق من أن غالبية لغة السرد هي لغة وصفية لا حوارية بينما حدّة التخييل في الحوار الخارجي مثل هذا الحوار في قصة (الدانوب الرمادي):
– ماذا تريد مني؟
– لا شيء أبدا. بصراحة أنا هنا في شهر عسل. تزوجت من فتاة محترمة.
– ماذا تريد مني؟
– أريد ألا تسببي لي أية فضائح، فقد خفت أن تعرفي من السفارة أنني هنا، وتحصلي منها على عنواني.
– ماذا تريد مني؟
– أريد ان اقول لك أن تبتعدي عن طريقي تماما. وألا تحاولي الاحتكاك بي حتى بحجة العمل، لأنك صرت غانية سيئة السمعة.
– لنفترض أنني صرت غانية. لماذا يضايقك ذلك أنت بالذات؟
– كنت أظن أن ذلك يقربني منك …
– أنا رجل محترم تزوج من سيدة محترمة.
– كلمة »محترم« لا أدري لماذا بدت لي نكتة رائعة، محترم…
– يا سيدي المحترم.. حولت حنجرتي إلى مومس، وشاركت في تحويل مؤسسات الاعلام في بلادي إلى بيوتات للعهر.. يا سيدي المحترم المحترم.
– راقبي كلماتك…
– انكم لا ترون في »العهر« فظاعته إلا حينما يتجسد في جسد امرأة… أما عهركم في السياسة والأخلاق والممارسات كلها فإنكم تمرون دون أن يرف لكم جفن يا سيدي المحترم…
– راقبي كلماتك.
– يغلي دمكم لمرأى امرأة توسخ جسدها وذاتها كي تصير مثلكم وتنتهي إليكم، تجنون أمام جسدها المستباح، ولا تحسون بشيء أمام جسد الوطن المستباح … وطني غانية التاريخ… «
وهكذا يمكننا أن نميز مستويين في لغة فصيحة واحدة، المستوى الأول هو مستوى الوصف والسرد والثاني هو مستوى الحوار الخارجي. الأول يتجاوز الثاني على المستوى التعبيري. حيث تبذل المؤلفة جهدا واضحا في صياغة جملة وإنشاء صورة، حيث يبلغ إحساسا بجمال المكان والأشخاص والأشياء، فهو وصف لتقريب المشهد القصصي إلى القارئ وتمكينه من استلطافه جماليا، أما المستوى الثاني فهو مستوى التبليغ، حيث أن الراوي/الشخصية، أو الشخصية الأساسية أكثر ما تبلّغ خطأ بها (الايديولوجي) يكون في لحظات الحوار التي تتحول إلى شكل الجدل والمناظرة وعرض أفكار اجتماعية وفلسفية وسياسية وغير ذلك مما له علاقة بمضمون النص. تستخدم غادة الوصف.
يعرف الوصف بأنه: نقل صورة العالم الخارجي أو العالم الداخلي من خلال الألفاظ والعبارات والتشابيه، والاستعارات التي تقوم لدى الأديب مقام الألوان لدى الرسام، والنغم لدى الموسيقي« ويمكننا على ضوء هذا التعريف أن نؤكد أهمية الأسلوب القصصي في إنجاح الوصف ولذلك فيما يلي على وصف الأمكنة والأشخاص والأحداث وهي العناصر التي شملها الخطاب السردي.
وصف الأمكنة:
بعد قراءتنا للمتن اتضح لنا أن الأمكنة التي تحضر في النصوص هي:
1- البيت: يأخذ البيت أشكالا مختلفة طبعا، لكنه يخرج عن طابعه البسيط ليأخذ شكله البورجوازي الذي يحيل إلى طبقة اجتماعية راقية.
يقول الراوي/الشخصية واصفا: » على شرفة القصر أقف خائفة، جمرة شتاء شتتها بين الموانئ فما أضاءت في عتمات خوفها منارة. ولا ومض هدب سماء المدينة ترعف الضباب والمطر، رائحة الخريف، رائحتك، شممتها في كل مكان ذهبت إليه…رغم كل ما فعلت وقد تفعل…لم أحقد عليك.. لم أمقتك«
نلاحظ أن الوصف يتحول من المكان إلى استعادة أفكار لدى الراوي/الشخصية وكأنه لم يعد مغلقا على الذات، أو غير قادر على سجن الروح، أن الانتقال من المادة (القصر) إلى الروح (الحبيب) تجسيد رمزي لمشاعر الشخصية الهاربة من مخالب المادية إلى الروحانية.
وتقف جمل وصفية كثيرة على انتقاء زوايا في البيت دون غيرها، كغرفة المكتبة التي تذكرها الكاتبة أكثر من مرة تقول مثلا: » في كل ليلة يا صديقي، حينما تنزلق المدينة في أحضان الظلمة والصمت وتنام عيون أهلي في الدار، أنسل أنا من فراشي، وأتسلل بصمت اللصوص إلى غرفة المكتبة كما أتسلل الآن.. وفي كل ليلة يا صديقي أتحسس جدران الممشى في الظلمة فأحسها طويلة مخفية كدروب الأساطير، مطلية بوجوه صغيرة نافرة، تقفز فجأة أمام وجهي ثقيلة الأجفان، حادة الأنياب، فأصطدم بلا شيء، وأتعثر بالشاطر حسن وعلي بابا والساحرة، وبأبطال الحكاية التي كانت تقصها علي أمي أيام طفولتي وأود لو أصرخ كما أوّد الآن، وأمد يدي أمامي لأتأكد أن ليس ثمة أحد، كما أمدها الآن. إنني أتماسك، لن أصرخ، أريد أن اصل إلى المكتبة، وأريد أن أشعل عود البخور في الركن المعتم، وأريد أن أقبع أمام الهاتف كاهنة عذراء ساذجة أعدّت لك المعبد والبخور والضحية الحارة ولم يبق إلا أن ينبعث صوتك من سماعة الهاتف، وكأنما من كل مكان قاسيا حنونا غامضا، إلى غرفة المكتبة أصل، ببطء أرفع الباب، أنينه الخافت يرعبني، عمي المشلول لا يمكن أن يوقظه صريره، ولا صورة أمي الميّتة المصلوبة على الحائط «
وفي هذا المقطع نلاحظ كيف يتحول الوصف من المكان (المكتبة) إلى الذكرى، فالمكتبة توحي للبطلة بدلالات الطفولة والبراءة وسذاجة الحكاية (قصص الشاطر حسن وعلي بابا والساحرة) حيث أن ذلك ذهب مع ذهاب الوالدة التي تحولت إلى صور محنطة في الجدار، كما أن سعي البطلة إلى المكتبة في الليل ليس بغرض المطالعة بقدر ما هو من أجل كلمة من الحبيب، وهو ما يدل على الحالة النفسية المضطربة التي كانت عليها لحظتئذ، ومهما يكن الأمر فان »المكان « لم يعد مستقلا عن المعنى، بل أصبح دليله والطريق الموصلة إليه.
وفي قصة (أنياب رجل وحيد) يتكرر وصف غرفة المكتبة التي يحولها البطل أستاذ الفلسفة (بسام) إلى كرنفال من الأشياء بعدما يضع فيها كل شيء فتصبح كما جاء في وصفها » أشبه بالمعبد، أشبه بطفلة مقدسة مدللة لا يسمح لإنسان بالدخول إليها «(2)
غرفة لم يكن لها جدران، هناك رفوف من الأرض حتى السقف مملوءة بالكتب .. هنالك جدران من الكتب … جدران من الهذيان… هنالك أفلاطون وسقراط.. وأبيقور وزينون وكانت وديكارت وبنتشه ودوركهايم و…و…. وهنا كتبه .. جدران من الهذيان (……) العيون الصغيرة المرصوصة المستديرة تطل من الرفوف مذعورة.. (….) السرير في منتصف الغرفة كما أمر …. يفتح رزمة الأشياء التي جلبها معه ويخرج منها قطعة قماش كبيرة من المخمل الأسود الناعم، يغطي بها السرير حتى الأرض من جوانبه الأربعة، النور الأبيض على مكتبة يضيء قويا صافيا من أجل الحروف التي طالما سهر الليالي يفك طلاسمها وأسرارها. هذا النور الأبيض كان صديقه الوحيد ذا المكانة الكبيرة .. يتأمله بحقد .. يضع إلى جانبه مصباحا بشكل أفعى في فمها نور أحمر … يشعل النور الأحمر والأبيض .. يتأمل ضيق المصباح الأبيض من زحم الأفعى واللعنة الحمراء بين أنيابها.. يخيل إليه أن صديقه القديم الأبيض ينظر إليه مؤنبا مستجديا بحقد شيطاني ينتزعه من المنضدة ويرمي به من النافذة.
تسقط الغرفة في شرك النور الأحمر الباهت، بسام يتأمل الأفعى بشوق .. أيتها الآلهة لم تأخرت؟ لماذا لم ترشديني إلى التفاحة منذ زمن بعيد؟ يتحول المكان هنا إلى معادل للذات الواعية المثقفة التي أعيتها الحقيقة فلا تجدها إلا في الانزواء مع عباقرة الفكر الفلسفي، وكأن الحقيقة غير موجودة في الواقع، بقدر ما هي مبثوثة بين أسطر الكتب التي تحتويها مكتبته. وإذا ما عرفنا أن البطل عرف حقيقة الوجدان في حب الطالبة التي يدرسها وعرف حقيقة العرفان في القراءة الفكرية الفلسفية، وكأني بالكتابة تريد أن تبلغ فكرة فلسفية فحواها أن حقيقة الحياة هي في الفكر والحب وليس غير، وهكذا فإن وصف المكتبة وطريقة تأثيثها ليس إلا وسيلة لتبليغ الرسالة التي يريدها الراوي/الكاتب الضمني. •
– أمكنة السهر والتنزه:
وهي أمكان كثيرة كذلك على مستوى المتن القصصي لغادة السمّان، وهي مفتوحة على طائفة ميسورة من الناس، تشكل كذلك طبقة خاصة في المجتمع، و هي طبقة المال والثروة والعربدة، وهي خارج البيت طبعا ولكن لا يمنع أن تكون داخله وإن كان ذلك قليل الذكر.
ولنتأمل المقطع الآتي في وصف (علبة ليلية):
» الموسيقى متمردة هوجاء كحفيف ثوب غجرية، هناك جدران من الدخان الملون بأضواء باهتة وحكايا باهتة .. هنالك رؤوس لرجال متعبين مغروسة في الفضاء الغائم للقبو، وكؤوس ترتفع لحظة قبل أن ينسكب النسيان منها في هوات بلا قرار .. هنالك قامات مزينة لنساء ملونات تتأرجح بين المناضد والرؤوس كالدمى التي أتقن لفها وحشوها. وهناك آهات مثيرة الأوجاع … وكل ما في القبو يلهث كصدر كبير ضاقت أنفاسه .. كصدره، كصدر تلك المرأة التي تقف هناك تحت شلال الضوء الأحمر وتغني، وتهز جسدها أكثر مما تغني، وتتلوى وتهمهم وتئن أكثر مما تغني، كأنها تريد أن تغني “بالإيحاء” أو كأنها تريد أت تغني بشفتيها و”تعزف” بأردافها وكتفيها وظهرها .. وكان أي متفرج لم يثمل بعد يستطيع أن يكتشف أنها ماهرة في “العزف” أكثر منها في الغناء!«
بعض العبارات تحمل دلالات السخرية من الوضع مثل: أضواء باهتة، حكايا باهتة، رؤوس لرجال متعبين، القبو، نساء ملونات …إلخ. وهي تدل على قتامة المكان، ورغبة الراوي في تنفير المتلقي منه، وكأن الوصف هنا يتحول كذلك إلى دلالة واضحة وهي إدانة المجتمعين: الرجالي والنسائي معا.
فالرجال ينظرون إلى المغنية نظرة جنسية لا جمالية لجمال غنائها، والمرأة تهين ذاتها من حيث أمها تعتقد أنها تفرض ذاتها على الرجال، وهو ما يدينه الوصف بشكل خفي، لا يكاد يظهر.
وصف الأماكن المفتوحة:
ونقصد بها أزقة الشوارع، وأماكن ما في المدينة، وحتى السيارة والطائرة تصبح ملاذا لبعض الشخصيات للفرار من الواقع الحزين، والملاحظة الأساسية البارزة هي طغيان المكان المديني بوصفه نقطة البدء والمنتهى التي يقوم عليها النص القصصي عند غادة السمّان.
» كانت السيارات تركض حولي بسرعة مجنونة وصوتها ريح تصرخ، وسيارة تكاد تصدمني ورجل يشتمني … ثم بدأت أرض الشارع تتحرك بي، وغمرني امتنان كبير لها، إنها تنفذ ما عجزت عنه ساقاي، إذن فهي ترتبط ارتباطا مباشرا براسي (!) ومن المفترض أن تلتصق به. لذا تركت ساقيّ تركضان وحدهما في الشوارع ركضا مسعورا أعمى، ركض حيوان جريح طريد، لا يعرف أين جُرح، ولا من يطارده، وبدأ ما تبقى من جسدي يغوصُ تحت الاسفلت، ثم لم يبق سوى رأسي مزروعا فوقه كنبتة من نوع جديد، طحلب من الطحالب التي سوف تنبت في شوارع المدن كلها ذات يوم، لأن أحدا لن يعرف إلى اين يذهب…. وظل الشارع يركض بي. أضواء الاعلانات الملونة تمر أمامي، المخازن المضيئة تنزلق وبابا نويل يطل من واجهتها، قطع حلوى تتناثر من كيس تمزق طرفه وضربات الكعوب المدببة لأحذية السيدات، والبرد، رائحة البرد والعطور ودخان السيارات، رائحة الضجيج، طعم الألوان المتدفقة، ملمس الاصوات المتداخلة، إذن غدا ليلة راس السنة… «
»البحر يطل من بعيد هادئا وعملاقا كشاب عريض الصدر مفتوح الذراعين ينتظرها .. بإحساس يشبه لذة خيانة مبررة تتأمله .. تتسارع أنفاسها خيوط الشمس تنكب على بيروت بنهم … «
من الملاحظ –كما أشرنا سابقا- أن المكان يأخذ طابعه المديني، ويظهر متأزما موحيا بحالات الشخصيات المكتئبة، ونلمس رفضا خفيفا للأجواء المدينية لأن اللغة لا تحتفل بها عند الوصف، ومن جهة أخرى بوسعنا أن نميّز نوعين من الأماكن هنا، الأولى منها أمكنة وهمية غير محددة جغرافيا لا نكاد نعرف البلد الذي ندور فيه، ولا يوحي الوصف إلا بكونه يقع في فضاء عربي شرقي النزعة، أما الثاني فيمكن أن نطلق عليه المكان الجغرافي الواقعي الموضوعي، على نحو ما هو موجود في قصة (لا بحر في بيروت) حيث يشمل الوصف مناطق مختلفة من بيروت وما يجاورها من جبال وسهوب كقول الكاتبة:
»بيروت…
وتاها من بعيد بينما السيارة تنحدر نحوها … بيروت جنية أسطورية تنفث الضباب نحو الجبال .. تتعرى من غلالاتها، تنبسط مغرية مثيرة غامضة العُري.. تكاد تسمع لشوارعها نبضا يشبه نبضات القلب الحي … لكأن في الاسفلت، في الأزقة الغامضة، في البيوت المتدثرة بأسرارها وهجا وحرارة وحياة كما في خدي طفل تفوح من فمه رائحة اللبن والشبع والضحك..(لماذا أرتعد هكذا؟ لماذا تثيرني رائحة الحياة؟) وتقترب السيارة من بيروت (إني خائفة، أحس بالإثم ولا أدري لماذا… عن أي شيء جئت أبحث؟) «
فبيروت هنا محدّدة جغرافياً بأنها العاصمة اللبنانية، وعلى الرغم من أنّ الوصف ليس آليا ومباشرا، إذ يقترب من الحالة الشعرية أكثر من الحالة الواقعية الموضوعية، وهو أمر كثير الورود في الوصف لدى غادة السمّان، فهي تحوّل المكان إلى حالة ذاتية، عن طريقه تستبطن دواخلها وتبث مشاعرها الوطنية والأنثوية في مواطن أخرى، فلو حاولنا أن نقابل الموصوفات المكانية بما يقابلها من أوصاف حية لكان لنا هذا الجدول:
الموصوف الصفة
-أرض الشارع تتحرك (الحركة)، الركض
-المخازن المضيئة تنزلق (شدة السرعة)
-واجهات المخازن يطل منها بابا نويل – رمز الحياة
-البحر يطل هادئا وعملاقا كأنه شاب قوي
-بيروت انحدار السيارة نحوها، بما يوحى أنها في أرض منخفضة جدا أي ميتة.
جنية أسطورية تنفث الضباب…
-شوارع بيروت لها نبض القلب الانساني، كالطفل الحي
هذا للتمثيل فقط، لأننا وجدنا خلال القراءة الكاملة لمتننا أن المكان لا يبقى لدى غادة السمّان مجرد مكان، بل يتحول إلى علامة دالة، تحتاج إلى تأويل وهو ما يضفي طابعا قويا على الوصف، لأنه يملأه بالحياة والحيوية، وبعض له حركة وهذا ما يسمّيه جان ريكاردو بـ (الوصف الخلاق) إذ يتعدى دوره التزييني إلى دوره التوضيحي والتفسيري أو كأنه لا يقدم الأشياء بقدر ما يقدم ما وراءها من دلالات عميقة. وتقوم المؤلفة في موضع آخر: »لقد امتصتني المدينة الأخطبوط … شوارعها الضيقة الحزينة انغرست في أعماقي كالأذرع الجائعة، وتدفقت أنا إلى جوفها الذي يمتلئ مائعا ناريا هامدا … وإذا أنا أختلط بالصرخات والأضواء الشاحبة والخدود الذابلة .. وإذا أنا من بعض النسغ الغامض الحار الذي ينبض في كل مكان «
نلاحظ إحساسا مؤلما بأجواء المدينة، فهي اخطبوط، شوارعها ضيقة، حزينة، بالصراخ والأضواء الشاحبة، والخدود الذابلة … وهو أمر يعكس الاحساس بالمكان ولا يصوره على حقيقته الواقعية.
وهكذا تنزاح دلالات الأمكنة عن مقصدها الطبيعي لتصبح مشبعة بمعان أُخَر، تجعل منها بؤرة حياة لا بؤرة موت وانطفاء.
كما تجدر الإشارة إلى أن المكان في قصص غادة السمّان غير أحادي، بمعنى أن الأحداث تجري في فضاءات مختلفة، فهو مكان متقطع ومتغير من حدث لآخر، مما يعطي حيوية أكيدة لحركة السرد عامة.
وعلى سبيل التمثيل لا الحصر هذه الأمكنة هي الأمكنة المكونة لنص (لا بحر في بيروت) .
*نقطة انطلاق الحكي * بقية مسار الحكي
المكان بيروت المسبح العسكري في بيروت
دمشق عند الحلاّق
مدخل بيروت علبة على شاطئ بحر بيروت
بيت أختها في بيروت
العودة إلى دمشق
وهي أمكنة كثيرة لو فصلناها إلى أمكنة صغيرة وأخرى صغرى، بعضها غير مذكور لكنه من خلال الوصف المتلاحق، فعندما تتوجه البطلة إلى بحر بيروت لأخذ بعض الماء. هذا يعني أنها تقف على مكان وإزاء مكان لا يمكن وصف حدوده. ومثل ذلك يقال عن أمكنة السفر إلى بيروت، فقد نبّه الوصف إلى الأماكن التي كانت البطلة تراها من النافذة، هذا فضلا عما ذكرنا في الخطاطة السابقة.
وفي نص آخر، الحياة بدأت للتو، يمكن الوقوف على الخطاطة الآتية:
الغابة الكثيفة
• مدينة الحمامات الكازينو زمن السرد
مكان السهرة
قاعة الانتظار بالمطار
• الطائرة زمن الاستذكار
شاطئ تونس حيث الإقامة (الحمامات)
نلاحظ دائما هذه الخاصية في الأمكنة، أنها أمكنة متنقلة، مختلفة، وذات أبعاد ثقافية حيناً واجتماعية أحيانا أخرى. فيها دفق من الاحساس بالعبث ولا جدوى الحياة مع نمط من الرجال والنساء.
وصف الأشخاص:
يتركز وصف الاشخاص على الظاهري والوصف الداخلي.
الأول يشمل ما يظهر للعين وما يمكن ملاحظته في شكل الشخص من الناحية الفيزيولوجية أما الثاني فهو وصف للمشاعر والاحساسات مما لا يستطيع أحد رؤيته.
الوصف الظاهري: يتركز الوصف الظاهري في أكثر الأحيان، على ملامح الوجه ثم بقية مناطق الجسد تقول مثلا في (عذراء بيروت) تصف وسيم وهو مذيع: »وعلى الشاشة ظهر المذيع وسيم” يتحدث بهدوء ويبتسم بدقة، دون أن يدري أنه في هذه اللحظة بالذات تحتضر امرأة لأنها أحبته…. « وتقول: «ورأيت غليونه يتأرجح بين شفتيه ثم يهدأ، ثم يمتصه، ثم ينفث الدخان، وأحسستني أتقلب في فوهة غليونه، اختلط بالتبغ المحترق، أتلوى، أستسلم، أتمرد، أحاول الخروج، ولكنني مع تبغه أذوب، أتلاشى، لا ينتهي احتراقي … وعاد يولع غليونه من جديد » «عيناه ما تزالان بئري سخرية .. يخيّل إلي أن عتمتهما ازدادت اكفهرارا .. إنني أضايقه لأنني مثله .. لأنه لا يستطيع أن يسخر مني، كل منا جثة فاغرة العينين تحدق في صاحبها»
إن الذي يهمنا من هذه الأوصاف ليس تعدادها واحدة واحدة، بقدر ما نحاول معرفة دلالاتها في المعنى الإجمالي للنص. وفي أكثر ما نجد من أوصاف لملامح الرجل الخارجية خاصة (العينين) فإنهما لا يرمزان إلا لشيء ثابت وهو الخيانة والمخادعة وكل الصفات غير السوية التي يتصف بها الرجل الشرقي.
الوصف الداخلي: يتم الوصف الداخلي عبر آليتين سرديتين: الأولى هي التي يقوم بها الراوي/الشخصية بوصف ذاته من الداخل، والثانية هي أن يصف الراوي/العليم الشخصيات عموما والبطل على وجه الخصوص، ودواخل شخصيات غادة السمّان متخمة بالألم واليأس والحسرة، إنها شخصيات مأزومة، تعاني الأرق الدائم والانفصام بين ما ترغب فيه وما تعيشه، بين الفكر والمثال والممارسات اليومية، وكأني بالكاتبة تريد أن تعاين تفكك الذات العربية المنقسمة على نفسها. ومثال الشكل الأول قول البطل/الراوي في قصة الرجل ذو الهاتفين: «يمرون بي، وجوه كالجماجم المهترئة سوف أسفح لها كنوزي، وقسماتي جامدة مشدودة كزند تمثال روماني … سوف أرقص طويلا وأغرس كعب حذائي الدقيق كالخنجر في قرميد ذلك القصر الذي عرفت جدرانه معنى الفاجعة، معنى الحرب بين اللحم والأعصاب في جسد امرأة (….)»
«كطلقة نارية طائشة ما زالت أهيم في الشوارع، وبيروت عند الغروب غجرية تصارع السأم بغناء جامح الضجيج، وأنا نبع من ضجيج أحسني أهدر مع العابرين. أنسكب في سيولهم التي تجتاز الطريق، أنفجر في أبواق السيارات النزقة صراخا ممزقا مبحوثا .. أبحث عن مكتبك يا غريب لأني اخترت لك أن تكون جلادي » ومثال الشكل الثاني قول الراوي في شخصية (حازم) في قصة (بقعة ضوء على مسرح)
« كان لجسده تلك المرأة طعم الجدار الطحلبي الرطب، وقد انصرفت بسرعة أحمل التعليمات، وكدت أصفعه لما قبلني، أحسست قبلته جزءا من المهمة، وكفرت به لثانية، وحزنت من أجلنا، فقد حولتنا “مهمتنا انسانية” إلى حجارة شطرنج بلا عواطف انسانية ها قد ماتت الشهوة، وماذا بعد» ففي المقطع الأول يتحول الخارج إلى الداخل، والداخل إلى الخارج، بمعنى هناك تأثير وتأثر وحساسية جديدة لدى البطل من الواقع الذي يعيشه حتى تتحول أشياء الخارج إلى مشاجب يعلق بها كل مشاعره المحطّمة، وهذه الآلية كثيرة في قصص المؤلفة. أما المقطع الثاني فهو احساس البطل بما تعيشه دواخل الشخصية الأخرى، فعن طريق القبلة استطاعت البطلة استكناه نفسية صاحبها، الذي تحول إلى حجارة شطرنج مثلها، مادام رضيا بالدخول في لعبة الواقع المادي المعادي للعواطف الإنسانية.
وصف الأحداث والواقع:
يصعب التمثيل للوصف هنا، لأنه لا يأخذ موقعا قارا في النصوص، فهو موزع بشكل متفاوت ومختلف في تضاعيف النصوص، تبعا لطريقة السرد المتبعة من قبل المؤلفة، ففي قصة (لا بحر في بيروت) يمكننا أن نقف على وصف للأحداث والواقع الآتية وفقا لهذه التقاطيع.
1- الحركة والسير: «يسيران، يدها الساذجة قابعة في كهف يده الكبيرة…»
2- حديث البطلة عن فكرة السفر إلى أيمن باتجاه بيروت:
«وهذا الإحساس بالذات جعلها تنسى المقدمات التي كانت قد أعدتها لمفاجأتها وجعلها تهتف فجأة: أيمن»
– ماذا ….حبيبتي؟
– قررت أن أسافر؛
3- تعد الحقيبة للسفر:
«وكادت عيناها تضحكان من جديد في جدل بينما هي تعد حقيبتها الصغيرة قبل أن تنام….»
4- نظر جارها في السيارة إليها:
«جارها في السيارة بدأ باختلاس النظر إليها ….»
5- نهاية السفر إلى بيروت ونزولها في بيت أختها:
«قبلتها لما استقبلتها منذ دقائق كانت فاترة وسمجة كقدم دجاجة. اهتمام أختها كله كان منصبا على طريقتها في زم شفتيها»
6- خروجها مع أختها للسهر في (علبة ليل) والتقاؤها بسلمان.
«نظرات سلمان تتأمل جدليتها وفتا طويلا قبل أن تلتفت إلى سرب الراقصات الذي تدفق فجأة….»
7- وقوفها أمام المرآة للتأمل: «لما وقفت أمام المرآة، بحثت طويلا عن عينيها حتى وجدتهما غارقتين في بئرين من الكحل»
8- الذهاب إلى الملهى الليلي مع أختها مرة ثانية.
9- ذهابها إلى البحر لملء الزجاجة لكنها تمنع دخولها.
10- نجاحها في ملأ الزجاجة إلى أيمن.
11- عودتها إلى دمشق.
نلاحظ في هذا التقطيع كثرة الوقائع التي انصبّ عليها الوصف، ويتركز على كل ما يقوم به البطل أو الشخصيات من أفعال، كما ينسحب ذلك على الانفعالات التي تنقلها الألفاظ الدالة عليها، ومثال ذلك وصف الجندي المكلف بحراسة مدخل البحر: «تبتعد بينما يدير الجندي وجهه بقرف مدمدما: بنات اليوم المجنونات، ثم يضم بندقيته، ويروح ويجيء في حراسة البحر .. البحر للذين يحملون البطاقات» أوصاف الكاتبة تجبر المتلقي على تفكيك ما يقرأ واضفاء الدلالات التي يتصور أنها تحيل إليها، وهكذا فالمرسل إليه يمكن «أن يستجيب لعمل ما وذلك بإنتاجه هو نفسه لعمل جديد» وهذا ما تدفع إليه قصص غادة السمّان، فهي تدفع المتلقي إلى ممارسة التأويل وطرح ما يقرأ على مشرحة التحليل ولو كان يتعدى المستوى الذاتي، فمثلا (حراسة البحر) هاتان الكلمتان فقط يمكن أن يتحملا من الدلالة الاجتماعية والتاريخية والنفسية ما لا يمكن تحديد حجمها، فمن الناحية السياسية تدل العبارة على غياب الحريات الفردية والاجتماعية وسيادة الدكتاتوريات الشمولية، أما من الناحية التاريخية فإن البحر الذي يدل على الحرية والانفتاح على الأمم الأخرى، يقف أمامه الآن جندي ليرد كل من يحاول النزول إليه، وهو ما يحيل إلى التجربة التاريخية للمجتمع العربي الذي لم يفتح أنظمته لرياح التغيير الثقافي والاجتماعي، وفي كل الأحوال، فالموقف يحمل نزعة تسلطية.
– التشكيل وعلاقته بدلالات النص:
يدرس الشكل الخارجي للمؤلف ضمن بحوث الفضاء الحكائي هو «يتركز في الغلاف الأمامي الخارجي للنص الروائي» ويقسمه بعض الباحثين على مستوى السرد العربي الحديث إلى قسمين، الأول ينحو منحى واقعيا وهو الذي يشير إشارة مباشرة إلى أحداث القصة أو إلى مشهد مجسد من هذه الأحداث. وفي هذه الحالة لا يجد القارئ عناءً كبيرا في الربط بين أحداث القصص وطبيعة الرسمة الموجودة على الغلاف.
أما الشكل الثاني فهو الشكل التجريدي ويتطلب نظرة عميقة وتجربة فنية عالية لدى المتلقي لإدراك بعض دلالاته وكذا الربط بينه وبين النص. كما يمكن ضم العناوين وأسماء المؤلفين والألوان والإشارات المختلفة إلى الغلاف واعتباره وحدة ذات دلالات خبيئة تتطلب من المتلقي البحث عنها. وإذا جئنا إلى أغلفة كتب غادة السمّان نجدها ذات تشكيل متميزة. ولا غرابة في ذلك، فهي من منشوراتها، ولا بدّ أنها حرصت حرصا شخصيا على أن تخرج بهذه الأشكال لمقاصد قيمية وجمالية، ومنذ الوهلة الأولى نلاحظ أن (منشورات غادة السمّان) تتميز بأقيسة واحدة وخطوط لم تتغير منذ بداية مشوارها والذي يشد النظر أكثر هي الألوان الحادة التي تلفت النظر إليها. وهي: الأحمر والأسود. أما اللوحات فهي ذات ألوان مختلفة. اسم المؤلفة دائما يكون في الواجهة أكبر قليلا أو يوازي العنوان ومخطوطا بالأحمر القاني الذي له القدرة على جذب العين، ولا شك أن لذلك أسبابا نفسية. فوضع الاسم الأول على الغلاف وبهذا اللون المتميز دليل على أنها واثقة من نفسها وتريد أن توصل ما تريد من موقع قوة ومنافسة للرجل. أما لون العناوين فهي سوداء على الدوام ومخطوطة بالخط النسخي. واللون الأسود –ربما- يحيل إلى محمولات القصص الملأى بالأزمات والكدمات التي تعيشها المرأة والرجل العربيان. وتلتزم المؤلفة دائما بوضع صورتها –بلا ألوان- على ظهر الغلاف وفي أوضاع مختلفة. أما اللوحات فيمكننا أن نصف هنا لوحتين الأولى:
لوحة مجموعة: لا بحر في بيروت: وهو عبارة عن زاوية من حجرة لها سقف وأرضية ليست لها جدران، أي أن الجدران تتحول إلى فضاء السماء، ونجد بها الأشياء الآتية:
– سرير للنوم كبير فوقه مشط كبير يصل حدّ الجدار.
– في الأرض كأس للشراب وبودرة زينة وعود ثقاب وزراب غير منتظمة.
– خزانة للثياب تعكس مرآتها نافذة خلفية وفوقها فرشاة للزينة كبيرة.
– أما لوحة مجموعة زمن الحب الآخر فهي:
– تفاحتان خضروان واحدة كبيرة وأخرى صغيرة بها جرح بالسكين على الجانب تتقدم الكبيرة على الصغيرة وتحملان قناعين لهما فتحتان للعينين.
– خلفية اللوحة هلاك أصفر وسماء زرقاء وبعض السحب.
ففي اللوحة الأولى نلاحظ أن الأشياء الحاضرة فيها هي أشياء نسائية، لها علاقة بحياة الأنثى اليومية: النوم، الزينة، التدخين، اللباس، الأحلام، الشرب … وهي الأمور التي شكلت العالم القصصي لدى غادة السمّان في مجموعتها المذكورة. وعلى ذلك فإن هذه اللوحة «تعطي صورة عن المضمون ولكن بطريقة تجريدية، تفتح المجال أمام المتلقي كي يؤول الصورة كما يؤول النص كذلك»(1) أما اللوحة الثانية فهي –حسب اجتهادنا- ترمز إلى الجنسين الذكر والأنثى، أو الرجل والمرأة: والقناع هو رمز لما يحمله بعضهم لبعض من عواطف غير مستحبة كالخديعة والادعاء والجشع، ويمكننا القول كذلك أن التفاحة الصغيرة ذات الجرح والتي تأتي خلف الكبيرة هي المرأة في المجتمع العربي، أما الكبيرة فهي الرجل الذي يتقدمها قيميا وإن كان يوازيها انسانيا. وهو موضوع آخر من أهم الموضوعات التي تركز عليها غادة في قصصها، وتعمل على تغيير نظرة المرأة للرجل، والرجل للمرأة انطلاقا من وعي مسؤول كما تذكر هي في بعض حواراتها.
النظام الزمني:
يفرق النقاد وعلى رأسهم جيرار جينيت بين زمن السرد. وزمن القصة، فقد لا يحافظ السارد زمن الحكاية كما هو في شكله المنطقي، وإذا كان كذلك فإن ذلك يسمونه «المفارقة السردية» Anachronie narrative ويمكن أن ننظر إلى قصص غادة السمّان على هذا الأساس، أي أنها اختراق للبنية الزمنية المنطقية، ومثال هذا الاختراق كثير نكتفي بالوقوف على قصة (آخر قصة غير بيضاء) والتي تبدأ من المستقبل وليس من الحاضر إذ تبدأ هكذا:
«السيد .. رئيس التحرير المحترم،
أعتذر عن عدم الاستمرار في تقديم صفحتي الاسبوعية في مجلتكم، تحت عنوان (كلمات حزينة) لأسباب خاصة جدا، يصعب عليّ شرحها، وإذا كان لا بد من أن أكتب فليكن عنوان صفحتي “كلمات بيض”
باحترام كبير
غالية أحمد »
وهي النهاية التي من المتوقع أن تكون في ذيل النص وليس في صدره، وهكذا يبتدئ زمن السرد من الغائب، أي من اللحظة المستقبلية، ليكشف بعد ذلك الحاضر والماضي معا ثم يعود إلى اللحظة الحاضرة.
نلاحظ أن المؤلفة تعمل على تغيير القواعد، فمن اللغة التي لم تعد ايستاتيكية ثابتة، ممنطقة التركيب إلى محاولة اتباعها بمحتوى شعري دفاق. يتضح في الدلالات التي تحملها والطريقة التي تبني بها ثم كسر النظام الزمني الكلاسيكي. كم لم تعط اهتماما كبيرا لحجم توجد الشخصيات في قصصها، فعادة ما تبني القصة لديها على صوت واحد يكون هو الراوي/الشخصية ومعه أصوات أخرى لكنها غير ذات فاعلية كبيرة بالنسبة لمسار السرد، ومثل ذلك يمكن قوله عن (الأشياء)، أي العوالم المادية التي تحفل بها حيوات الشخصيات فلم تعد لها ميزة أساسية في القص، كما هو الشأن في القص الكلاسيكي، حيث تعبر عن الروح الإنسانية، وهي نظرة اتجاه السرد الجديد يقول آلان روب غرييه: «لن تكون الأشياء انعكاسا غامضا لروح البطل الغامضة، لن تكون صور آلامه أو ظل رغباته. وإذا حدث واستخدمت الأشياء للحظات كقالب للعواطف الإنسانية، فلن يكون ذلك إلا مؤقتا. غنها لنتقبل استبداد المعاني التي تطلق عليها … حتى تثبت إلى أي حدّ هي غريبة على الإنسان»
والحقيقة أن الزمن في قصص غادة السمّان ينطلق دائما من لحظة الحضور لا الغياب على النحو الآتي: (غائب) الماضي الحاضر (متكلم). ولهذا تكثر تقنية الارتداد أو (الفلاش باك) باعتباره تقنية لكسر الزمن الخطي المتواصل، وفتح قنوات التعبير لأصوات جديدة متعددة، ونلاحظ من ناحية أخرى توافقا بين بنية الزمن هذه والجانب المرجعي للشخصيات المحمّلة برسالة تحديثية للمجتمع العربي، وعلى ذلك تكون وجهتها المستقبل أو الحاضر وليس الماضي الذي يمثله الغائب.
وأنه ليس من المجازفة أن نقول بأن الشخصية المحورية في قصص الكاتبة هي شخصية إشكالية، فهي عربية من الناحية الوصفية الجسمانية والأخلاقية. ولكنها ذات ثقافة غربية، وتسعى إلى تحطيم النظام القيمي العربي المتخلف لتحمل محله القيم (الغربية) الجديدة. وهكذا فإن البطل الإشكالي هو «المثقف الذي أطل على الحضارة الغربية مباشرة، فآمن بقيمها الإنسانية، ورغب في تحديث مجتمعه ولكنه جوبه بالعداء من قبل السلطة التقليدية التي تؤيد الجهل والظلام فاعتزل وهُمِّش من قبل أن يُهشّم..» فلا يحن البطل إلى الماضي وإلى قيّمه، بل يعيش دوما لحظة الحاضر ويبني عليه رؤيته للمستقبل.
اترك رد