يونس العزوزي: باحث في الدراسات الإسلامية – المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الامين، وعلى آله وصحبه اجمعين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
وبعد،
يحظى المتعلم في المنظومة التربوية ببلادنا بأهمية خاصة، باعتباره محور الرحى الذي تدور حوله مختلف الانشطة التربوية بالمؤسسات التعليمية، وقد خصته الوثائق التربوية الرسمية بعناية واهتمام فائقين ضمن مقتضياتها الرئيسية، وفي هذا الصدد فقد نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين في فقرته السادسة على جعل المتعلم في قلب الاهتمام والتفكير والفعل، وجعلت الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015 . 2030 قضية الارتقاء بالفرد والمجتمع من الركائز الاساسية للمدرسة الجديدة ، ولن يتأتى هذا الا بالتفكير العملي الجاد في كيفية بناء شخصية المتعلم بناء متوازنا سويا ، يحقق الانسجام والتكامل بين جوانب شخصيته الثلاثة (المعرفية والمهارية السلوكية والوجدانية الانفعالية)، في علاقتها ببناء وترسيخ القيم الاصيلة لديه، حتى يكون فاعلا في مجتمعه ، قادرا على الدفاع عن حقوقه ووطنه واثبات هويته، متكيفا مع اكراهات حاضره، ومستعدا لتحديات مستقبله.
وسأحاول مناقشة هذا الموضوع من خلال التطرق للنقط التالية:
عناصر التكامل في شخصية المتعلم وتقاطعها مع التربية على القيم.
سبل التنزيل الفعلي الناجح للتربية على القيم بالمؤسسات التعليمية ببلادنا.
وأختم باستنتاجات وتوصيات.
تهدف المدرسة المغربية من خلال تنويع انشطتها الى تأهيل المتعلم لبناء شخصيته، بناء متوازنا وسويا ومتكاملا من الناحية المعرفية والمهارية والانفعالية، وهي وظيفة على الخطورة بمكان باعتبار موضوعها الانسان المتعلم .
والتكامل حسب المعجم الوسيط من تكامل يتكامل تكاملا فهو متكامل، وتكاملت الاشياء كمل بعضها البعض، بحيث لم تحتج الى ما يكملها من خارجها، وتكامل الشخصية يفيد التنسيق المنسجم بين جوانب الشخصية المختلفة وتوافقها مع بيئتها. واما التكامل في موضوعنا فيحيل الى الانسجام بين الجوانب المعرفية والمهارية السلوكية والوجدانية الانفعالية ، واهمية ذلك في بناء وترسيخ القيم الانسانية الدينية والخلقية.
وبالرجوع الى مفاهيم علم النفس النمو وعلم النفس الطفل وعلم النفس المعرفي، وخاصة منها ما ورد في كتاب سيكولوجية الطفل للدكتور احمد اوزي، نجد ان شخصية المتعلم من المواضيع التي نالت حظا وافرا في الدراسات والابحاث في تداخلها مع مواضيع اخرى كالذكاءات المتعددة والسيكولوجية المعرفية وغيرها، هذه الدراسات تكاد تجمع على ان شخصية المتعلم تتركب من جوانب ثلاثة هي: الجانب المعرفي، والجانب المهاري السلوكي والجانب الوجداني الانفعالي ، وان أي تغليب لجانب على الآخر ينتج عنه حتما تشوه وقصور في شخصية المتعلم، ولعل من اهم توصيات المشتغلين بالحقل التربوي نجد ضرورة الاهتمام بهذه الجوانب الثلاثة في تكاملها وانسجامها ، بهدف بناء شخصية متوازنة سوية، قادرة على التكيف مع محيطها الداخلي والخارجي .
وقد اشار الدكتور خالد الصمدي في كتابه “القيم الإسلامية في المنظومة التربوية” عند تطرقه لاستراتيجية تقويم القيم في الفصل الثالث الى ان الانفعال المتوازن المقرون بامتلاك المتعلم لمفاهيم ومعارف صحيحة من خلال “مروره بخبرات تربوية تعليمية متعددة تقوم دليلا على مستوى تطور منظومة القيم لديه” ص94، كما في كتابه “دليل تنمية القدرة على تدبير الاختلاف” عند الحديث عن علاقة القيم بالمهارات السلوكية، وعن الانفعال المتوازن وعلاقته بالمعرفة الصحيحة، ص69-73.
من هنا تظهر العلاقة القائمة بين جوانب شخصية المتعلم الثلاثة، واهميتها في ترسيخ القيم لديه، باعتبار ان كل جانب يظهر في الجانب الآخر، فالقيمة تتطور لدى المتعلم في الجانب المعرفي كما في الجانب المهاري كما في الجانب الانفعالي، باعتبار السلوكات الانفعالية السوية من المؤشرات الدالة على امتلاك معرفة صحيحة وعلى تطور القيمة، خاصة عندما تكون هذه المؤشرات متكررة وفي مواقف مختلفة.
ان الارتباط الوثيق بين الجانب المعرفي والقيمي يجد تأصيلا له في النماذج المتقابلة في القرآن الكريم، خاصة النموذج الذي يربط القيم بالمعرفة، وهو ما يبحث عنه العالم حاليا، من قبيل آدم عليه السلام وابليس، او قابيل وهابيل، او قارون وذو القرنين وغيرها من الامثلة، فالقرآن الكريم يربط بين العلم والخبرة، ويصل بين المعرفة والقيم، فالله عز وجل خلق آدم عليه السلام وزوده بالمعرفة والقيم معا، وقد كان لهذا الموضوع في كتاب تنمية القدرة على تدبير الاختلاف حظا وافرا من خلال تطرقه لجدلية المعرفة والقيم.
واما عن التنزيل الفعلي للتربية على القيم بالمؤسسات التعليمية ببلادنا، ومن خلال اشتغالي بالحقل التعليمي لمدة طويلة ، وما راكمته من تجارب على مستوى تنزيل الانشطة الصفية والمندمجة والموازية بالمؤسسات التعليمية، فسأحاول من خلال هذا العرض ان اضع تخطيطا عمليا قابلا للتنفيذ لتنزيل التربية على القيم ، يهدف الى الارتقاء بالمتعلم عبر سلم المراقي الستة لتطور القيمة ، انطلاقا من مرتبة الانتباه وصولا به الى مرحلة نقل القيمة كغاية كبرى.
وقبل الخوض في هذا الطرح، اسوق تعريفا للقيم كما عرفها الدكتور خالد الصمدي في احدى تدويناته على صفحته الخاصة بالفايسبوك وهي: “منظومة متكاملة من المثل العليا والقناعات المشتركة المستندة الى رؤية كونية لتفسير الوجود والانسان، تتشكل لدى مجموعة بشرية معينة بإرادة حرة واعية لتتخذ منها معايير وقواعد راسخة تحدد الاختيارات والتوجهات الحضارية الكبرى المميزة لها، فتوجه بمفاهيم وتصورات افرادها وسلوكاتهم وانفعالاتهم واتجاهاتهم وحكمهم على الاشياء والتصرفات وتقييمها،…”
ينبني الشق الرئيسي لهذه المقاربة على الاشتغال ببيداغوجيا المشروع، باعتبارها توجها واختيارا اثبت نجاعته واهميته في مختلف جوانب حياة الانسان عبر العالم، واساسه الانطلاق من مشروع المتعلم الشخصي، مرورا بمشروع القسم ثم مشروع المؤسسة.
1) مشروع المتعلم: ويشكل اللبنة الاساسية لبناء مشروع المؤسسة ، باعتبار عدد المتعلمين بالقسم الواحد بعدد المشاريع المرتبطة بتطوير القيم لديهم، كل حسب القيمة التي يحتاج الى تنميتها وترسيخها لديه، ويتطلب هذا اختيار طرق التدريس المناسبة والوسائل التعليمية المساعدة والانشطة التعلمية الصفية الملائمة.
2) مشروع القسم: من خلال بناء مصفوفة للقيم المركزية حسب حاجات المتعلمين اليها ، حيث يتم بناء مشروع القسم كامتداد لمشروع المتعلم ، خدمة لتكوين الفرد وتعديل سلوكه ومشاركته ضمن جماعة القسم.
3) مشروع المؤسسة: ويمثل الاطار العملي والآلية المنهجية لتنزيل أنشطة المؤسسة في مجال التربية على القيم كما في مجال الارتقاء بجودة التعلمات، في افق اعداد نموذج لمدرسة مغربية حاملة للقيم.
ولتفعيل الاشتغال بالمشروع، يتم التركيز على مجموعة من الخطوات، تتوقف نجاعتها على براعة مدبريها وروادها، سواء تعلق الامر بالإدارة التربوية او الأساتذة او التلاميذ او باقي الفاعلين التربويين بالمؤسسة وهي:
مرحلة التداعي الفردي الحر: بالتعبير الحر عن القيم التي تحظى باهتمام كبير لدى كل فرد على حدة.
مرحلة بناء الخريطة المعرفية الجماعية المرتبطة بالقيم، خاصة وأن القيمة تأخذ اهميتها وحضورها من حاجة الجماعة الانسانية اليها.
مرحلة الاشتغال على مؤشرات تطور القيمة ، مع الحرص على رصد اكبر عدد ممكن من المؤشرات، وتنويعها لتكون معرفية ومهارية وانفعالية.
مرحلة تصنيف هذه المؤشرات حسب الفئة العمرية المستهدفة (ابتدائي، اعدادي، ثانوي)، ثم حسب المواد الدراسية، باختيار الأنشطة المناسبة لكل مادة دراسية على حدة ، ثم حسب الدوائر الاربع للقيمة ، باعتبار القيم الفردية ثم الجماعية ثم الوطنية ثم الكونية، ثم اخيرا حسب المراقي الست لتطور القيمة ، للانتقال بالمتعلم من مرحلة الانتباه الى مرحلة نقل القيمة للآخر.
مرحلة تنفيذ الانشطة ورصد المؤشرات المعرفية والمهارية والانفعالية الدالة على تطور القيمة، ثم مرحلة التعزيز والدعم والتغذية الراجعة.
ويبقى المجال المناسب لتفعيل هذه المقاربة هو مجال الانشطة ، باعتبار النشاط يهدف الى اكساب المتعلم العديد من المهارات والسلوكات ، وترسيخ المفاهيم والقيم.
واما الشق الثاني لهذه الرؤية فيتقاسمه جانبان مهمان من جوانب الحياة المدرسية، يتعلق الجانب الاول بإرساء وتفعيل الاندية التربوية بالمؤسسة، خاصة منها نادي التربية على القيم، ونادي المواطنة وحقوق الانسان ، ونادي المسرح المدرسي، ونادي القرآن الكريم والسيرة النبوية ، ونادي البيئة وغيرها من الاندية، في افق العمل على جعل المتعلم عنصرا فاعلا ومتفاعلا داخل الفصل الدراسي وخارجه. وينبني الجانب الثاني من الشق التطبيقي لتنزيل التربية على القيم على تخليد الايام الوطنية والدولية ذات الصلة بموضوع القيم وكذا تفعيل المذكرات التنظيمية، والانفتاح على مكونات المحيط الخارجي للمؤسسة (جمعيات، مقاولات، وسائل الاعلام…)، اضافة الى العمل على ترسيخ مبدأ القدوة الحسنة ( المدير القدوة، الاستاذ القدوة، الحارس القدوة…).
ولتنزيل هذه الرؤية تنزيلا صحيحا ، يبقى التنسيق الافقي بين كافة الفاعلين والمتدخلين في الشأن التعليمي بالمؤسسات التعليمية اساسيا في انجاز الانشطة المبرمجة، حتى يعزف الجميع على وتر واحد، ويتفاعل المتعلم مع القيم المستهدفة بما ييسر له امتلاك مكارم الاخلاق.
ومن خلال هذا البسط المتواضع للموضوع، يمكن تسجيل مجموعة من الاستنتاجات:
المتعلم هو جوهر العملية التربوية التكوينية برمتها.
التكامل والانسجام في شخصية المتعلم رهين باستحضار الجوانب المعرفية والمهارية والانفعالية في بنائها.
أي تغليب لجانب على حساب الآخر يؤدي حتما الى تشوه وقصور في شخصيته.
جدلية المعرفة والقيم تجد تأصيلا لها في القرآن الكريم.
الاشتغال بالمشروع (مشروع المتعلم، مشروع القسم، مشروع المؤسسة)،من انجع السبل لتنزيل أنشطة المؤسسة بصفة عامة والمرتبطة بالتربية على القيم بصفة خاصة.
القيم هي الموجه الرئيسي للتربية ، وهما وجهان لعملة واحدة.
وبناء على هذه الاستنتاجات، يمكن رفع بعض التوصيات على شكل مقترحات للاشتغال عليها، لعلها ترى النور بالمؤسسات التعليمية، او يتم ترسيخها وتدعيمها في مؤسسات قد تكون نالت شرف السبق في هذا الميدان كالتالي:
ارساء نادي التربية على القيم بكافة المؤسسات التعليمية ببلادنا.
اصدار دليل عملي لأنشطة نادي القيم بالمؤسسات التعليمية.
بناء مصفوفة للقيم بكل المؤسسات التعليمية، وتحديد الأولويات كل حسب حاجته.
التنسيق الافقي بين كل الفاعلين والمتدخلين في الحقل التربوي في مجال التربية على القيم.
استثمار كل الامكانات المتاحة لتنزيل مشروع التربية على القيم (وسائل تعليمية، طرائق التدريس، انشطة تعلمية، انشطة مندمجة، انشطة موازية…).
إحداث نظام للتحفيز في مجال القيم، كخلق جوائز التميز لأندية القيم وللمؤسسات الرائدة في هذا المجال.
اترك رد