جدلية المُثل والمِثال! … كريم النافعي

كريم النافعي: باحث ماجستير الفكر الإسلامي والحضارة بالمغرب – كلية أصول الدين تطوان

إن المرحلة الحالية للمجتمع الإسلامي تشهد تداخلا بين طغيان عالم الأشياء وعالم الأشخاص، على حساب عالم الأفكار”المُثل”!
وهذه المسألة جلية ظاهرة للعيان، فلا يصحّ أن يختلف عليها اثنان أو ينتطح عليها عنزان كما يقال!
وفي هذا المقال سأحاول أن أبيّن أبرز النتائج الضارة التي يترتب عليها طغيان عالم الأشخاص “المِثال” على حساب عالم الأفكار ” المُثل”!
بادئ ذي بدء نودّ أن نَحسمَ أولاً مع مسألة في غاية الأهمية؛ وهي أنه لم يعرف التاريخ الإسلامي- ولن يعرف- تحول المُثل إلى مِثال بشكل مطلق، لأن ذلك في غير مقدور البشر الذين يدخلون تحت قاعدة “كل بنى آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون” !
فالطمع في تحويل المُثل “الدين” إلى مِثال “تدين” طمع في محال!؛ لأنّ الدين هداية ربانية كاملة، والتدين كسب بشري ناقص!.
لكن ليس كل الناس يملكون مستوى من التجريد يمكنهم من التفريق بين المبدإ وحامله، بين الدين والتدين، بين المُثل والمِثال..وهنا يدخل داء” التجسيد” و”الاستصنام” فتصبح المبادئ ” المُثل ” مجسّدة في أشخاص”المِثال” فيتولّد عن داء التجسيد-هذا- طغيان لعالم الأشخاص”الِمثال” على حساب عالم الأفكار” المُثل” ويتمّ الخلط بين الأمرين!؛ مما يترتّب عليه فساد عريض، وأمراض معضلة مزمنة معدية، سنتناول -بشكل سريع- أخطر “الجراثيم” المتولّدة من بؤرة هذا المرض العضال!.
1. الإساءة للمُثل “الدين”.
إن الخلط بين المُثل” الدين” والمِثال” التدين” يؤدي إلى الإساءة للإسلام أكثر مما يخدمه!، لذا فالتفريق الحاسم بين الدين والتدين هو حماية لقيم الدين” المُثل” المعصومة نفسها، من أن تتحول، أو تلتبس بمفاهيم بشرية، يجري عليها الهوى والتعصّب، والخطأ والصواب!.
ونغتم المناسبة-والمناسبة شرط في الكلام- بتوجيه رسالة سريعة إلى بعض الفتية المتعالمين الذين يسعون إلى الطعن في الإسلام، وذلك من خلال الاستناد إلى أخطاء تاريخية وقع فيها بعض “الأشخاص=الغير معصومين” الذين كانوا يسعون جاهدين إلى تطبيق “الإسلام=بمبادئه العليا” !.
فنقول لهؤلاء أنّه من أراد التحدث عن الإسلام فعليه أن يحضر لنا المتحدث الرسمي باسم الإسلام، وهو النص الشرعي، ولا ممثل للإسلام على الحقيقة سوى النص، يقول أبو حامد الغزالي (المستصفى،ص99) : “اعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده. والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى”!.
فمعلومٌ أن تاريخ المسلمين” المِثال لتطبيق المُثل ” ليس دليلاً تشريعيًا في الإسلام، وليس حجةً ملزمة للمسلمين الآتين في المراحل التاريخية اللاحقة، وإنما النص الشرعي هو الحجة على التاريخ، فنحن المسلمين نجعل النص الشرعي حكمًا على التاريخ وليس العكس!.
ومن ثم نحسم هذا الأمر بشكل قاطع، فنقول: إنّ الموقف الإسلامي-من أي شيء- لا يُعرف إلا من النص الشرعي حصرًا!.
2-على الصعيد العلمي:
يمكن القول بأنّ الالتباس، والخلط، بين المُثل والمِثال، بين قيم الدين المعصومة، وفهم الناس (التدين)، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، ولّد جوا من “العنف الفكري”، وكرّس الكثير من الأخطاء، وحال دون طلاقة الفكر، في الاجتهاد، والنقد، والتصويب، والتقويم، والمراجعة، ظنا ووهما أن نقد الاجتهاد، أو نقد فهوم الأشخاص، أو نقد بعض صور التدين، والممارسة، هو نقد لقيم الدين نفسه!، وأصبحت الفكرة الشائعة عند الكثير: أن نقد بعض فهوم وممارسات الأشخاص -الذين تجسّدَت فيهم مبادئ الدين بشكل كبير-، هو نقد لما يحملون من مُثل وقيم ومبادئ معصومة، وأن هذا النقد قد يصل صاحبه إلى الكفر!، حيث الزعم بأن الذي ينتقد حملة ” المُثل =الدين”، يلزم منه نقد ” المُثل نفسها”، والذي ينتقد المُثل “الدين”، يلزم منه الكفر بمنزله!.
وهذا الضرب من الاستدلال، لا يخفى تهافته وبطلانه، إذ لولا داء” التجسيد” و”الاستصنام” والخلط بين المِثال والمُثل، لما صدر هذا الكلام من رجل عاقل! ،
ولوا نطلق المقدسون للأشخاص اليوم من القاعدة التي انطلق منها جهابذة الأمة قديما وفهموا معاني الكلمات الخالدة لأئمتنا الذين علَّمونا أن نُفكّر ولا نقلّد وأن نتّبع الدليل ” المُثل” لا الأشخاص”المِثال” ، و نعرف الرجال بالحقّ لا الحق بالرجال! ،لابتعدوا عن تقديس الأشخاص، فهاهو إمامنا مالك يقول بشكل صريح مليح : “ما وافق مذهبي من الكتاب والسنة فخذوا به وما لا فاضربوا به عرض الحائط، وقال أيضا رضي الله عنه: كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم”، كما أن الإمام الشافعي أصّل لقاعدة تمنع تقديس الأشخاص وذلك بقوله رحمه الله : “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.!
3.على الصعيد الأخلاقي:
عندما يتجسّدُ المبدأ “المقدس” في شخصٍ ما “غير معصوم ولا مقدس” ، هناك خطر مزدوج: فسائر أخطاء الشخص وانحرافاته عن “المبدأ” ينعكس ضررها على “المبدأ نفسه” بالإساءة إليه، والظن أن الخطأ والخلل منبثق عن المبدأ” لا عن “الشخص، المِثال” كما بينا آنفا!.
والخطر الآخر على المجتمع الذي أصيب بداء “التجسيد” والاستصنام” للشخص على حساب المبدأ، حيث يحصرون أفكارهم عند سقوط الشخص “المِثال الأعلى” إلى البحث عن تعويض إحباطهم بالبحث عن مِثال أعلى آخر”شخص آخر”، ليجسّدوا فيها المبدأ، وبهذا لن نتمكّن أبدا من التقدّم، لأنّ مشكلتنا الحقيقية منبثقة من عالم الأفكار” المُثل”، لا من عالم الأشخاص”المِثال” على -حدّ تعبير مالك ابن نبي رحمه الله.
4.على الصعيد السياسي:
هذا المرض العضال، يظهر خطره بشكل جلي على المستوى السياسي، فبالإمكان أن نحصي عدداً لا بأس به من الكوارث التي كان ممكنا تجنب وقوعها لو لم تقع في داء “التجسيد” و”الاستصنام” للمثال “الأشخاص” بالمُثل” الأفكار”!
ولن نبالغ إن قلنا بأنّ من أبرز أسباب “فشل” الربيع العربي ناتج بالأساس عن هذا المرض العضال الذي نحن بصدد التحذير من خطره؛ ألا وهو تجسيد فكر الثورة “مبادئها” على الأشخاص ضد الأشخاص! ، حيث نادت الجماهير الغاضبة” الشعب يريد إسقاط الرئيس” ولم تقل أبداً أنّ الشعب يريد إسقاط “النظام=الفكر الحاكم المهيمن على مفاصل الدولة !” وإن نادت به أحيانا ، فإنّما يحمل على العام الذي يراد به الخاص “إسقاط النظام=إسقاط الرئيس”!
لقد كان الربيع العربي بمَبادئه” عيش+حرية+عدالة اجتماعية” من أكثر الأفكار العظيمة التي ارتعد لها النظام الدولي قبل بعض النُظم العربية الظالمة الجائرة!.
ولكن-للأسف- أريد لهذه الثورة “بمَبادئها” العظيمة أن تتجسّد في مجموعة من الأشخاص أو الجماعات والأحزاب السياسية؛ فتحول الربيع العربي إلى خريف –باكر!- من خلال استفادة الثورة المضادة من هذا الاتجاه المرضي لتجسيد الأفكار “المبادئ” في جماعة أو حزب؛ فسقطت الثورة “بمَبادئها” من خلا سقوط الجماعة أو الحزب الذي تجسّدت فيه تلك المَبادئ!
وتزيد الحسرة والأسف عندما نرى هذا الاتجاه المصاب بداء “التجسيد” يمنع المعافى منه من استخراج العبر من فشل ثورة الربيع العربي، وذلك بتجسيد أسباب الفشل فورا في شخص أو جماعة تكون”نحساً” بدلاً من التفكير مليا وجدياً بالدروس التي يمكن أن نستخرجها منها، لتفاديها مستقبلاً!.
فمثلا عندما وقع الانقلاب العسكري في مصر على يد السيسي، والذي سجّل فشلا أليما وضربة قاضية لثورة الربيع العربي، رأينا أغلب الإسلاميين والمثقفين يعزون فشل الثورة في مصر إلى السيسي مدبّر الانقلاب، وذلك بدلاً من البحث عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء فشل الثورة؛ بطريقة أعمق وأكثر فائدة للأمة الإسلامية.
في حين كان واضحاً أن الانقلاب سيقع بالسيسي أو بدونه؛ لأن الثورة المصرية –كأخواتها من ثورات الربيع العربي- لم تكن تتوفّر لها فكرة مضادة له بل بالعكس من ذلك، كانت هناك العوامل المشجعة جميعا!.
إنّ الذين يحملون الثورة المضادة-وحدها- سبب فشل الربيع العربي، دون الحديث عن القابلية للثورة المضادة!، كالذين يحملون الاستعمار”الاستخراب” وحده سبب تخلّف الدول المستعمرة!، متناسين الحديث عن القابلية للاستعمار المتجسّدة في فكر شعوبهم، وقد بيّن المفكر مالك ابن نبي ضحالة هذا التفكير الذري وخطره على الفكر الإسلامي العربي!.
هذا وقد اكتفينا بذكر أبرز الأسباب المتجسّدة عن هذا المرض العضال، سالكين منهج الاختصار، بما يناسب حجم هذا المقال، وإلا فالموضوع يستحقّ أن يخصّص له كتاب بأكمله!.
ها قد أبزنا الداء، أما عن العلاج الذي نقترحه لاستئصال شأفة هذا المرض العضال؛
فالأمر يحاتج إلى التغيير الجذري في -العقول المكوّنَة- وذلك من خلال تكوينها على تغليب عالم الأفكار “المبادئ” على عالم الأشياء والأشخاص، وبالتمييز الواضح بين المُثل والِمثال، بين المبدإ وحامله، بين الدين والتدين..!
فتفتح أبواب التقييم الصحيح للماضي “المِثال” ، بعلم وعدل وإنصاف، لنسترشد إلى سلامة البناء في المستقبل.
هذا والله أعلم.
وإنّما الموفق من وفقه الله تعالى.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد