د. أحمد الفراك: أستاذ فلسفة الأخلاق بكلية أصول الدين/ جامعة عبد المالك السعدي، المغرب
كان جمهور الباحثين والمثقفين بالمغرب والعالم العربي على موعد مع محاضرة جديدة ومتميزة للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، نظمها مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني، يوم السبت 27 يناير 2018 بالرباط، في موضوع فلسفي تفاعلي مع قضايا الانسان اليوم، وخاصة قضايا الانسان المتسيِّد المستكبر الذي طغى في الأرض واستضعف أهلها بسلطته ومكره، فتحت عنوان “الأسس الائتمانية للمرابطة المقدسية”، وأمام جمهور غفير من العلماء والمثقفين والباحثين، قدم الدكتور طه عرضا خصصه لقضية فلسطين وما تحمله من أبعاد إنسانية وفلسفية لها امتداداتها الثقافية والسياسية والاقتصادية على حاضر ومستقبل الأمة المسلمة والإنسانية.
لقد كشف طه عبد الرحمن وبطريقته الخاصة خطورة الإيذاء الذي يلحقه الكيان الإسرائيلي بالمقدسات الحسية والمعنوية بأرض فلسطين وإنسان فلسطين، بل بإله الناس أجمعين، في مقابل إيذاء الأمة لنفسها من داخلها جراء تطبيعها بل تضييعها للقداسة والأرض والروح والحياء، معتبرا أن النظر الائتماني يوجب رد الإيذاء الإسرائيلي للفلسطينيين إلى أصله الذي هو إيذاء الإله وإيذاء الإنسان في نفس الوقت، وذلك بسلب الفطرة وقلب القيم. فباحتلالهم الأرض وإحلالهم فيها وقع الإسرائليون في منازعة الإله في صفة “المالِك” التي ينفرد بها جل جلاله، “احتلال الإرث الفطري أي الحلول، تجلى في درجتين، إحداهما قلب القيم، الذي يؤدي إلى اختلال علاقة الفلسطينيين بالزمان وبالتالي بالمكان، والثاني سَلبُ الفطرة، والذي يؤدي إلى التطبيع، وحقيقته أنه تضييع للطبيعة وتضييع للروح، وتضييع للقداسة، وتضييع للحياء.
هذا الواقع البئيس لا يوجب في نظر فيلسوف الأخلاق استسلاما وخنوعا ولا حماسة وعنفا أعمى وإنما يوجب القيام بمرابطة مقدسية روحية في مواجهة التطبيع وإزالة روح الاحتلال، و”المرابطة المقدسية إنما هي تجديد قداسة الأرض التي دنسها الإحلال الإسرائيلي، وتجديد أصالة الفطرة التي ضيعها الحلول الإسرائيلي” وتستوي هذا المرابطة في ثلاثة مستويات كالآتي:
المستوى الأول: وذلك برفع المالكية الإسرائيلية عن أرض فلسطين، ومقاومة تجليات كل من الإرادة الإسرائيلية ومظاهر التطبيع والخيانة عند الأفراد والحكام العرب والمسلمين. وخاصة بفشو ظاهرة التطبيع في صفوف المثقفين العرب، من كتاب وباحثين وفنانين ومقاولين وغيرهم…
المستوى الثاني: بترسيخ ثقافة الائتمان عند الإنسان، وتقديم الوفاء للواجب المقدس على استيفاء الحق في التملك، في عصر يتصارع فيه الناس على حب التملك وجشع الاستحواذ.
المستوى الثالث: ويتجلى في حفظ مبدأ الأمانة للائتمان على الأرض لا تملكها، وخاصة في عالم أوشك اليوم أن يصير “عالم ما بعد الأمانة”، لما تخلى أهله عن التخلق بأخلاق الاستئمان التي تورث الاطمئنان والأمان عند الإنسان.
ويقع اللوم في نظر الفيلسوف المغربي بخصوص الواقع المرذول الذي وقعت فيه الأمة المسلمة اليوم على الأمة في مجموعها أفرادا محكومين وحكاما قائدين، وخاصة منهم الأفراد المثقفين الذين تخلوا عن وظيفتهم الفكرية والاجتماعية، والحكام الظالمين الذين ينفذون مخططات الكيان الإسرائيلي في وأد المقاومة الفلسطينية من جهة وهم يستعبدون شعوبهم ويخضعونهم للتطبيع بالإكراه من جهة ثانية، أي أن الحاكم العربي واقع في “ظلمين: ظلم تعبيد الحاكم نفسه للإسرائيليين وظلم تعبيد الشعب لهم، إذ إن الأمانة التي في ذمته هي حفظ العدل، وهو لم يعدل مع شعبه ولا عدل مع نفسه”، حتى فقد روحه ولم يبق منه سوى صورته، بل تلبست روحه روحا إسرائيلية وسكنتها.
ولا خروج ولا عروج من واقع الخيانة الذي تعيشه الأمة اليوم إلا بمرابطة مقدسية مُقاوِمة بوصفها “حالة إيمانية تهدف إلى حفظ الأمانة الإلهية في تلك الأرض المقدسة”، فتدفع ضرر التطبيع والتضييع الذي يطمس الفطرة، قبل أن تدفع ضرر الاحتلال والإحلال الذي يُدنس الأرض. وبناء عليه تجب توعية الحكام -باعتبار مسؤوليتهم على شعوبهم- بخطر التطبيع على حكمهم وأرضهم، وتوعية الشعوب الـمُكرهة على التطبيع بضرر الغفلة عن الروح الائتمانية المقدسية في الحياة التي تحفظ أمانه الله وتصون قداسة الأرض. وواجب المقاومة الروحية الشاملة لا يخص أرض فلسطين وحدها بل يعم الأرض قاطبة، ولا يخص إنسان فلسطين وحده، بل يشرك الناس جميعا في رباط مقدسي ائتماني شامل ومتواصل، إلى أن ترد مِلكية الأرض المحتلة إلى روحها وهي القداسة، وترد ذاتية الفطرة المحتلة إلى روحها وهي الأصالة.
اترك رد