خير أمة أخرجت من التاريخ في انتظار الدخول إلى الأسطورة من جديد … أحمد زغب

د. أحمد زغب: أستاذ التعليم العالي في الثقافة الشعبية – جامعة وادي سوف الجزائر

يعتقد اليهود أنهم شعب الله المختار، بينما يعتقد المسيحيون أنهم ملح الأرض، أما نحن المسلمين فنردد كثيرا الآية الكريمة ((كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (آل عمران 109) ونؤولها ونفهمها بأننا مفضلون على سائر البشر.
ظاهرة أنثروبولوجية:
والذي يعرفه دارسو الأنثروبولوجيا أن كل الشعوب البدائية تعتقد أنها مركز العالم، فالأثنومركزية كما يراها Claude Levi-strauss ظاهرة طبيعية تنتج عن العلاقات المباشرة وغير المباشرة بين الجماعات البشرية (مقالات في الإناسة ص167) فالشعوب تسمى نفسها دائما بأسماء مادحة لنفسها ومستبعدة لغيرها، فكلمة ’’عرب‘‘ تعني أنهم يبينون عن افكارهم وغيرهم عجم أي لا يبينون، وكذلك الحال بالنسبة للسلاف فهم القوم الذي يحسنون الكلام وغيرهم لا يحسنه، والجرمان تعني الرجال الرماح، والشركس تعني الإنسان الكامل، والأمازيغ تعني الرجال الشجعان وكلمة الأكراد تعني الأبطال…وهكذا.
وهذه الرؤية المركزية ، خصيصة إنسانية لم تتخلص منها حتى الشعوب المتحضرة ،فكثير من رواد الفكر والفلسفة مثل جان جاك روسو عابوا على الأوروبيين، هذه المركزية الأثنية أي اعتبار ثقافتهم معيارا تقيم به الثقافات المغايرة؛ كما انتقد مونتسكيو ومونتيني وأخيرا كلود ليفي ستروس مركزية الغرب تجاه الشعوب الأخرى.
المركزية الإسلامية:
ونحن المسلمين لا نشذ عن القاعدة العامة إذ اعتبرنا أنفسنا أو ثقافتنا هي النموذج الأسمى، فقد قسم المسلمون الثقافات تقسيما جغرافيا إلى قسمين دار الإسلام ودار الكفر، ففي كتاب ابن حوقل المسالك والممالك ’’الأرض كرة تقع ديار العرب في قلبها تماما ،وفي المحيط الضيق للإطار المائي حول الأرض، بالكاد تظهر من ناحيتي المشرق والمغرب ممالك الكفار، وتم تضخيم متعمد للصورة خاص فقط بدار الإسلام ‘‘ بل ويفاخر بجهله بدار الكفر (عبد الله إبراهيم المركزية الإسلامية ص344).
وتوسع ابن حوقل، في كتابه المسالك والممالك، في التفاصيل عن دار الإسلام ، لكنه تجاهل دار الكفر المحصورة بين المركز : دار الإسلام ، وبين مياه مظلمة، ثم أخذ هذا التقسيم الجغرافي كما يرى عبد الله إبراهيم منحى ثقافيا ، وكذلك فعل المقريزي في كتابه التقاسيم في معرفة الأقاليم ،فلن يكلف نفسه عناء البحث في دار الكفر، فلا شيء يرتجى منه خارج دار الإسلام .
بدأ ابن حوقل بديار العرب ، ففيها مكة فهي المركز المشع، مهبط الوحي وبها الكعبة المشرفة، فديار العرب في قلب الدائرة فهي المركز المشع على الأطراف، ثم يبدأ في التوسع إلى الأقاليم الإسلامية ومعياره الأساسي انتظام الممالك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة.
وأما سوى ذلك من ديار الكفر ، فلا تنطبق عليها معاييره ومن ثم تتأسس على تصوره لها نظرة مشوبة بالتبخيس (عبد الله إبراهيم ص345).وكذلك فعل المقريزي وابن خرداذبة وأبو الفداء.
أما أصحاب الرحلات، فعلى الرغم من انهم تجاوزوا التقسيم الجغرافي للأنا والآخر ، فإنهم لم يتجاوزوا النسق المركزي، فالخطاب الرحلي كما توصل بعض الباحثين يتمحور حول ثنائية الأنا نسق ثقافة الرحالة ،والآخر المرتحل إليه، و منظومة الأنا هي الأصل الذي تقاس عليه منظومة الآخر المرتحل إليه. تبرز من خلال القطبية الثنائية سمة النسبية التي تسم غالبا المواقف التي يبديها الرحالة، من خلال خطابه، أو التي يذكرها عن ردود فعل الطرف الآخر تجاه مواقفه التي يقابل بها ممارسات الرحالة. تتشكل صورة الآخر من خلال الخطاب الرحلي في قالب من الطرافة والفكاهة التي تميل إلى التهكم والتشويه، في مقابل جدية وصرامة ونفعية المواقف التي يبديها الرحالة.(جوادي المسعود ،الرؤية المركزية في الخطابات الرحلية،ص323).
ويوضح العلماء المسلمون كالمقريزي وأبو الفداء وغيرهما ، سبب هذه المركزية او على الأقل سبب الرؤية المتعالية للذات، إلى الدين والوحي الإلهي، مكة هي مركز الأرض بها الكعبة اليها يتوجه المسلمون في كل بقاع الأرض، وبها مهبط الوحي، بالإضافة إلى اللغة العربية لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة …الخ.
ومعنى هذا انه كلما كانت أعمال الإنسان أشد ارتباطا بالقوى الماورائية، أو العالم المقدس او المولى عز وجل ، كانت اولى بالتبجيل وكان ما سواها أولى بالاستبعاد والتهميش. ولهذا السبب أيضا كان هناك ميل من المؤرخين المسلمين إلى العجائبية والأسطورية في تاريخ التأسيس للحضارة الإسلامية في عصر الرسول (ص) والصحابة. وهذا سعيا منها إلى مثالية الثقافة الإسلامية لعلاقتها بما فوق قدرات الإنسان العقلية وخصوصا الميل إلى الأسطورة والعجائبية التي تضع نفسها مبدئيا فوق مستوى العقل الإنساني.
النزعة المثالية الأسطورية:
وقد لا حظ كثير من الدارسين مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد حين قال في كتابه مفهوم النص دراسة في علوم القرآن (ص86) : (( إن السيرة النبوية تقوم في كثير من مروياتها بالربط بين أحداث الواقع وبين النص، ولذلك نعجب من تجاهل علماء القرآن لمرويات السيرة، سواء في مجال التفسير، أو في مجال أسباب النزول رغم اعتمادهم في علومهم على مرويات لا تعلو كثيرا على مرويات السيرة من حيث طرق التحمل والداء)).
لذلك رأوا أن عصر التأسيس ينزع إلى التاريخية الزمنية، ولا ينزع إلى الأسطرة والعجائبية إلا في أقل من القليل ، فالسيرة كانت أكثر واقعية وتاريخية في سرد الأحداث من التفسير الذي نزع إلى الأسطرة والمعجزة وعجائبيتها، ومن هؤلاء نذكر الدكتورة ناجية بوعجيلة التي جاءت في رسالتها للدكتوراه: ثنائية السائد والمهمش في الفكر الإسلامي، والتي صدرت عن المؤسسة العربية للتحديث الفكري ودار المدى، دمشق 2004 .
ومع ذلك ولأغراض سياسية وإيديولوجية ، كان المؤرخون وكتاب التفسير (الطبرى مثلا) يستبعدون الروايات التي ترجح الوقائع التاريخية، والواقعية الزمنية ويفضلون الروايات الأسطورية، سعيا منهم لإضفاء المثالية على عصر التأسيس، وإقصاء الروايات المخالفة.
وهكذا جعل المسلمون التأسيس الإسلامي فوق التاريخ وفوق الزمان وفوق المكان، وأخذ المجتمع الإسلامي بعد ذلك يقاوم التاريخ ويكرس الأسطورة، وهكذا جاء الخطاب العربي الإسلامي خطابا مناقضا للتاريخ ويقع خارج المعطيات التاريخية الزمنية كما رأى محمد أركون، فالوعي التاريخي ضامر عندنا كما يقول وإيقاظه صعب والوعي الأسطوري اللاتاريخي يحتل الساحة كليا وعلى المستويات كافة (أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص235) وعلى الرغم مما ألم بالأمة عبر تاريخها الطويل من انتكاسات، فنحن ما زلنا نردد المقولة المنسوبة إلى الإمام مالك بن أنس: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به اولها، وليتنا نفسر المقولة بأن الأوائل صلح حالهم بالعمل والفهم السليم للنصوص المقدسة المرتبط بظروف عصرهم ونوعية الثقافة التي عاشوها وحاجياتهم الأساسية من ذلك الفهم .
بينما ينبغي أن ننظر إلى فهمهم بالبعد المناسب، ونفهمه وفق حاجياتنا والسياق الثقافي والسياسي والاقتصادي، واحترام التعدد الإيديولوجي والمذهبي، دون إهمال البعد الإبستيمي المشترك، أي خضوع كل التفريعات المذهبية والإيديولوجية للمعطى المشترك وهو الوحي الإلهي المتعالي الذي يتجاوز التاريخ والمجتمع والبشر.
الظروف السياسية للنكوص الحضاري:
وهكذا وربما بسبب النكسة الكبرى للتيارات السياسية المعاصرة التي أفرزها استقلال الشعوب العربية عن الاستعمار الغربي، أخذ صوت المقولة السابقة يتعالى واخذت الإيديولوجية التي تنظر إلى الدين كله على أساس نقطة صغيرة منه وهي الشريعة، وتطالب بأن تطبيق الشريعة سيعيدنا إلى الزمن الأسطوري المثالي زمن الصحابة وانتصاراتهم وامتدادهم عبر الأراضي الشاسعة، بل إن شيوخ الدين يحاولون في كل مناسبة ترسيخ أن الشريعة منزلة – على حالها التي هي عليه الآن – من السماء، متجاهلين أن في الثقافات الإسلامية المتعددة إيديولوجيا شرائع إسلامية متعددة، هذه شريعة السنة وهذه للشيعة وأخرى للمعتزلة والصوفية والحنابلة والقائمة تطول.
كما تعتمد التيارات المسماة إسلامية آلية الإقصاء بالتكفير، لكل من انتقدها أو حتى تحفظ على فكرة المقولة التي يروجون لها وهي ان الشريعة الإسلامية كما يتصورونها ، صالحة لكل زمان ومكان وفيها يكمن الحل السحري لكل أزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية.
بينما لا يغرب عن المسلمين أن التشريعات الواردة في النص القرآني في نصوص صريحة لا تحتمل التأويل أقل من القليل، كآيات المواريث مثلا، ومعظم التشريعات مستنبط استنباطا من قبل اجتهادات الصحابة والفقهاء حسب مقتضيات الحاجة المجتمعية والسياقات الثقافية لذلك العصر.
والويل لك لو قلت إن الشريعة كما صاغها فقهاء القرن السابع والثامن للميلاد لم تعد تصلح للقرن الواحد والعشرين، فقد صاغوها انطلاقا من حاجاتهم في سياقات اجتماعية واقتصادية بعيدة تماما عن عصرنا. فالتكفير يأتي سريعا، والحث على الإقصاء واعتبارك من المستشرقين الأعداء والمتأثرين بأقوالهم، وهم يحاولون ترسيخ في نفوس العامة ان الشريعة إلهية وهي من وضع الله ولا سبيل إلى مناقشتها او التعقيب على أحكامها ويستعملون الآيات الكريمة (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))(سورة المائدة الآية 44).
وهكذا جاءت التيارات الفكرية الدينية لتضرب عرض الحائط كل ما أفرزه العقل الإنساني ، من فكر، ولتشل الفعالية العقلية للإنسان ، وتستبدل بها الاحكام الإلهية المزعومة فالله أدرى بما يصلح لخلقه، ومن ثم ليس للإنسان ان يفكر فالأحكام جاهزة والنظام الاقتصادي والاجتماعي الإسلامي جاهز ،والقوانين الإلهية جاهزة للتطبيق لنخرج من الأزمة ، لكن اعداء الأمة ، والحكام الذي نصبوهم هم الذين يناوئون ويعترضون على تطبيق النظام الإسلامي.
فالمعركة قائمة بالقوة إن لم تكن قائمة بالفعل بين قوى الكفر وقوى الإيمان ونحن في انتظار ان تتحقق الأسطورة من جديد .ويحل الإيمان محل الكفر. ونرد كل فشل في التنمية والنهوض إلى غياب المدد الإلهي .
التطلع إلى حبل النجاة:
وفي ظل التأزم الشديد في علاقتنا مع الغرب لا سيما بعد اغتصاب فلسطين واحتلال العراق وتدمير سوريا، تتسابق الجماعات الجهادية التي تلقت تكوينا دينيا تقليديا متطرفا لا يعترف بالعمل وفعالية الإنسان وتغيير الإنسان نفسه بنفسه مصداقا للآية الكريمة ((لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (سورة الرعد الأية11) تتسابق إلى بلاد الشام تنتظر معركة دابق الكبرى التي تجتمع الروم في ثمانين راية في المكان المسمى الأعماق او دابق حسب الحديث الذي ورد في صحيح مسلم تضم كل راية اثني عشر ألف مقاتل. ويتم قتال كبير فينهزم ثلت لا يتوب الله عليهم ثم يستشهد من المسلمين خيارهم واخيرا يظهر الشيطان وعيسى بن مريم فيذوب الشيطان .
كما ننتظر ان تقوم الساعة لكن قبل أن يقاتل المسلم اليهودي فيختبئ اليهودي وراء حجر او شجر، فينطق الحجر والشجر قائلا : يا مسلم إن ورائي يهودي فاقتله.
ويسهب علماء الدين كالشيخ العريفي الذي له كتاب بهذا العنوان ، في سرد علامات قرب قيام الساعة الأمر الذي يشيع الكسل واليأس فمادامت الساعة ستقوم ومادام النصر قادم على يد المهدي المنتظر أو المعجزة الإلهية التي سوف تتحقق فما الداعي للنهوض والعمل على تغيير الحال .
وأساس هذا الفكر رد جميع الظواهر إلى مبدأ واحد ، أو الحديث عن معنى واحد موحد للدين لا يعلمه إلا العلماء او علماء الدين بوجه خاص ،والنتيجة المتوخاة من هذا المبدأ –ليس على مستوى الشعور الإيماني- ، إنما هي آلية فكرية تشل قدرات الإنسان على التفكير والتغيير، ورد كل الأحداث إلى الغيب ردا عقليا خارج دائرة الشعور الديني، وإنكار مبدأ السببية الذي يسعى إلى اكتشاف الأسباب والعلل المباشرة لتفسير الظواهر، لحساب فكر جبري شامل.
وعلى المستوى الاجتماعي إهدار قوانين الثواب والعقاب في السلوك إذ يمكن تبرير ذلك برده مباشرة إلى الإرادة الإلهية كما يحدث في الكوارث والزلازل، ويرد كل الظواهر بما فيها الطبيعية والاجتماعية إلى المبدأ الأول ومن ثم يتم نفي الإنسان وإلغاء جميع القوانين الطبيعية والاجتماعية ومصادرة أي معرفة لا سند لها من الخطاب الديني (نصر حامد ابو زيد: نقد الخطاب الديني .ص81).
وبهذا الخطاب المتخلف ننتظر ان يحارب الله بدلا منا الأعداء في معركة دابق، والانتصار عليهم ،وننتظر أن يحارب الشجر والشجر اليهود ،وأن يأتي الإمام المهدي فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.
اما الحديث عن التعايش والاعتراف بالآخر المختلف، وإقصاء الإثنية المركزية ، فليست واردة حتى فيما بيننا، إذ يكفر بعضنا بعضا فكل الفرق ضالة مبتدعة ما عدا الفرقة التي أنتمي إليها أنا، سواء كنت سنيا أو شيعيا وهابيا أو صوفيا أو معتزليا …إسلاميا أو علمانيا….الخ


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد