كريم النافعي: باحث بماستر الفكر الإسلامي والحضارة بالمغرب، بكلية أصول الدين، تطوان، المغرب
من أخطر الأمراض التي ابتلي بها المسلمون اليوم ظاهرة الغلو إفراطا وتفريطا، وهو مرضٌ عضال،ظهر منذ تاريخ البشرية الأولى (مع قابيل وهابيل)، فالإنسان غالباً ما تجده يجنح بين الإفراط والتفريط،والإسلام طريق وسط مستقيم لا عوج فيه، فلا إفراط ولا تفريط !.
و(الغلو) يعني: المبالغة في تضخيم بعض الجوانب في الدين على حساب أخرى؛ تصورا، أو ممارسة، أو هما معا! من مثل قلب ما هو مندوب إلى ما هو واجب! أو ما هو مكروه إلى ما هو حرام! أو ما هو وسيلة إلى ما هو غاية! كل ذلك ونحوه يعبر عنه إسلاميا بالغلو في الدين.
ومن هذا التعريف، يمكن القول أن العلّة الجامعة،عند كل غال أو مفرّط،هي سوء الفهم عن الله ورسوله. وسوء الفهمهذا يمكن إرجاعه إلى أصلين كبيرين؛ فنقول أنه بقدر امتلاك المكنة العلمية و الشحنة الإيمانية ، تكون درجة تفاعل وتعامل الشخص مع النص !
فينتج عن طبيعة هذا التفاعل الميكانيكي بين الشخص والنص؛ علماء هداة، ومتعلّمٌ على طريق النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق !.على قول الإمام علي رضي الله عنه.
فالفهم الرديء إذا انظم إلى القصد السيئ، زاد الطين بلّة، فأفضى إلى تحريف الكلم عن مواضيعه، وإلى الانتحال المبطل الذي يحاول أهل الباطل أن يدخلوا على الدين الإسلامي الحنيف،ما ليس منه، ولذلك كان حسن الفهم عن الله ورسوله، أصل كل استقامة وهداية في الفكر والمنهج والسلوك في تاريخ الأمة، وسوء الفهم عن الله ورسوله كان سبب كل انحراف وبدعة وضلالة نشأت في الإسلام.
وعند التأمل في كتب الفرق الإسلامية على وجه الخصوص نجد أنّ معظم الفرق الضالة والطوائف الخارجة، والفئات المبتدعة والجماعات المنحرفة من فرق الأمة، إنما أهلكها سوء الفهم عن الله ورسوله .
وللعلامة ابن القيم كلمة مضيئة في ضرورة حسن الفهم لسنة رسول الله ﷺ ذكرها في كتابه (الروح)، يقول فيها رحمه الله: “ينبغي أن يفهم عن رسول الله ﷺ مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمّل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع”!
ومن هذه الطوائف،التي حادت عن الجادّة، فتنطعت وتشدّدت وكفّرت وقتلت بسوء فهمها لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،_ الخوارج _ سيما فرقها المتشددة (الأزارقة والنجدات) ـ التي شقّت طريقها عبر العصور و كان لها امتداد في فكر بعض التيارات الإسلامية المعاصرة ، ونقصد هنا التكفيريين على وجه الخصوص !
وما حملني على كتابة هذا المقال هو التعامل الذي يتعامل به مع هذا التيّار، بحيث علمنا أن من ضبط متبنيا لهذا الفكر مباشرة ما يتم تعذيبه وإقحامه في غياهب الزنازين والحكم عليه بعقوبات قاسية تصل إلى حد الإعدام، وهذا في حقيقته خطأ جسيم ،وذلك لعدة اعتبارات يمكن إجمال الكل في اعتبار واحد_ ناتج عن طبيعة هذا الفكر _وهو كالآتي:
إن التكفيري عندما يزجّ به في الزنزانة، يعتبر ذلك ابتلاء من الله عز وجل فيصبر ويحتسب ،كما أنّه يعتبر ذلك هو الجهاد الأكبر الذي يتقرب به إلى الله عز وجل في مثل تلك الحالات، وهذا التعامل لا يزيده إلا استماتة وتقوية لمناعته الفكرية وصلابة في التمسك بفكره داخل السجن وخارجه !
فالخروج من السجن بقناعة أقوى من قبل دخوله أو بنفس القناعة هو مربط الفرس ،فعندما لا يُتمكَّن من تحقيق علّة إدخاله في السجن وهي العدول عن فكره فما الجدوى عندها من السجن؟ فبدل هذا العدول المنشود نجده يخرج من السجن قنبلة موقوتة مستعدة للانفجار في أي وقت !فمن هنا يتبين مدى سلبية التسجين والتعذيب … إن ما يجب معرفته يقينا، أن الفكرة عندما ينطوي عليها الفؤاد وتتغلغل في الأعماق الفكرية، يصعب استئصالها بطريقة غير الطريقة التي دخلت بها ،والعرب تقول ” لاَ يَفُلُّ الحَدِيدَ إلاَّ الحَدِيد ” وبالتالي فلا يمكن قهر قوة ما إلا بإخضاعها لقوة أخرى لا تقل عنها صلابة وبأسا ! ومن ثم فإنه لا يمكن فلّ الحديد بدون الحديد ! وإن قامت العملية بغيره فالنتيجة هي ضرب في حديد بارد. !
إن التكفيري شخص تعرّض للدمغجة والبرمجة، فكيف تؤثر فيه سنون السجن ،وهو له قابلية واستعداد للانفجار عندما تتاح له الفرصة ؟
كيف لإنسان يفرح للتضحية في سبيل أفكاره يغيّره عدة سنين من التسجين والتعذيب ونحن نعلم أن من أسباب ظهور هذا الفكر هو السجن الذي تعرضت له أبناء بعض الجماعات الإسلامية؟
إن المسألة تحتاج إلى تأنّ وفكر عميق، وإلى إعادة النظر في طرائق التعامل مع هذا الإنسان ،كما إنها تستوجب دراسة معمّقة ومركزة تسبر أغوار كل ما يتعلق بفكر هذا الإنسان… فالتسجين والتعذيب لا يعطي نتائجه المرجوة مع هذا الصنف من الناس . وهنا يمكن العودة قليلا للوراء ونقول: إذا كان ظهور هذه التيارات منوط بسوء فهمها لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتضي ذلك منا ضرورة حتمية الرجوع إلى هذا الفهم ودراسته وعرضه على الفهم الصحيح للوحي.. فهذه الفرق بترت النصوص وخرجتها من سياقاتها وملبساتها ، فبدل قيامها بالنظرة الشمولية العلمية المنضبطة بالضوابط الشرعية قامت بالنظرة التفاضلية التجزيئية البعيدة عن العلمية . وعندما نعود إلى سلف الفكر التكفيري وهم الخوارج نجد أن الطرائق الذي تعاملوا به أهل النظر الدقيق والرأي السديد والمنطق الصحيح معهم ليس هو التسجين ولا التعذيب ،وإنما تعاملوا معهم بمنطق عجيب محتكم فيه إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كأنهم يقولون لهم إذا كنتم تبنون آراءكم على الوحي فبهذا الوحي سنحاجكم، وهذا ما وقع في المناظرة التي قام بها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه مع الخوارج، وكانت النتيجة ولله الحمد عدول الكثير منهم عن تلك الأفكار المتشدّدة كما تنقل الروايات، حيث رجع من القوم ألفان !
يردّ حبر الأمة على الخوارج في كل شبهة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونفس الطريقة يجب إتباعها في التعامل مع أصحاب هذا الفكر، فإقاحمهم في السجن ثم الإهمال لا ينفع ولا يعطي نتيجة بل ما هو في الحقيقة إلا تكريس لهذا الفكر .. فلهذا استوجب تحقيق المثل العربي”” لاَ يَفُلُّ الحَدِيدَ إلاَّ الحَدِيد” نعم إن الفكرة بالفكرة تقرع وتستأصل، فكل عاقل يقول “إذا مرض المريض عالجناه، ولا يقول سجناه” ! ،فإذا برئ وتعافى من مرضه، علّمناه أسباب الوقاية، وقديما قيل”الوقاية خير من العلاج”، ومن لم يؤثّر فيه الدواء، وأبى إلا المهارشة والممارشة، حجرنا عليه وعزلناه !.
ويجدر بالذكر هاهنا أن العلامة ولد الددو الشنقيطي حفظه الله قد قام بحوارات عديدة مع هاؤلاء الشباب في كل من موريطانيا وليبيا وغيرها من البلدان وكانت نتائجها إيجابية ولله الحمد وإنما الموفَّق من وفقهُ الله.
ملاحظة: لكي لا يتسّرب سوء فهم لقارئ هذه السطور كان ولا بد من الإشارة إلى ملاحظتين سريعتين، وهما كاللآتي:
إنه لا يمكن معالجة أي ظاهرة من الظواهر إلا بمعرفة أسباب نشأتها ، فإذا تبين أن الغلو سببه الرئيسي_في نظرنا_سوء الفهم عن الله ورسوله،وأن علاجه القويم، ودواءه الفعّال هو فتح قنوات الحوار بمصارحة ومكاشفة تامة، بدل التسجين والتعذيب،الذي لا يزيد الفكر إلا ثباتا ورسوخا !
فإنّه لا يعني أنه ليست هناك أسباب وعلاجات أخرى تسهم في استفحال ظاهرة الغلو إفراطا وتفريطا كالمواقف السياسية، غير الحكيمة، التي تتخذها الدولة وخصوصا ماكان له طابع شرعي (كمحاولة منع بيع النقاب مؤخرا على سبيل المثال) دون مراعاة العواقب ، وكالظلم والتعسّف الأمني في استخدام السلطة ، والانحراف من خلال الحريات المفتوحة في المجتمع والإفساد ، ومصادرة الآخر حقه في الحياة والعيش والمشاركة السياسية ، وتوسُّع الفوارق الاجتماعية وانتشار الفقر والبطالة مع وفرة المال بيد الطبقة الحاكمة، وعدم التوزيع العادل للترواث….
2.ارتأينا في هذه المقالة أن نستعمل مصطلح ”الغلو” بدل مصطلح”التطرّف” ؛ نظرا لإسلاميته من جهة، ولدقته، وبراءته من جهة أخرى! (كما أكّد على ذلك فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه”البيان الدعوي وظاهرة التضخّم السياسي) ذلك أن مصطلح (التطرف) هذا التعبير السياسي المعاصر، استعمل أولا لنقد ظاهرة (العنف)، والنزوع الاستئصالي، بشتى أنواعه الفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية، والعرقية، لدى الدول، والطوائف، والأفراد، وكذا الحركات ذات الطابع الاجتماعي العام.
لكن استعماله (السياسي) اليوم، صار دالا فقط على إدانة الحركات الإسلامية دون سواها، ودون تمييز بين هذا التوجه أو ذاك، ولا بين هذا التصور أو ذاك؛ حتى صار الأمر: كأن هذه العبارة ـ في الحقيقة ـ إنما المقصود بها كل سلوك (ديني)! بالمعنى الإسلامي للكلمة، أو بعبارة أخرى: الإسلام نفسه! وإذن نحن أمام مصطلح (إيديولوجي)، لا أمام مصطلح علمي محايد!
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإنّما الموفّق من وفقه الله تعالى.
اترك رد