زيدون جميل الشوفي: باحث دكتوراه – كلية الآداب قسم اللغة العربية – جامعة دمشق
يعد المكان الجغرافي في الشعر الفلسطيني أحد أهم الخصائص البنيوية في القصيدة ، و مكون من مكونات هوية النص الشعري الفلسطيني ، و لذلك عمد الشعراء الفلسطينيون إلى صياغة الأماكن و المعالم المحملة بصور مثالية إنسانية ، متجاوزين بذلك الأماكن الجعرافية المجردة إلى كونها تشكيلا روحيا ووجدانيا يزخر بالحياة و النشاط ، فاستنطقوا هذه الأمكنة و تناولوا أحاديثها و تاريخها من خلال أشعارهم ، و كانت هذه الأمكنة متنفسا لهم و تعويضا عن افتقادهم لوطنهم فلسطين و مدنها و قراها و شوارعها ، فالمكان أحد أهم الروابط بين الواقع و الممكن و المتخيل ، باعتباره وسيطا بين النص و القارئ في تشكيل نماذج العلاقات التي تحكم إعادة تركيبه ، كما أن المكان يقدم حلا للمبدع حين يريد الهروب أو يعمد إلى عالم غريب عن واقعه ليسقط عليه رؤاه التي يخشى معالجتها ، و هنا يتحول المكان إلى رمز و قناع يخفي المباشرة و يسمح لفكر المبدع أن يتسرب من خلاله ، و قد يكون المكان تقنية مستقبلية يتجاوز بها المبدع مكانه وواقعه ، فيصعد إلى السماء و الفضاء ، و قد ينزل إلى أعماق الأرض و البحار ليبث الرمز نفسه ، و يتسرب من خلاله ، فعلاقة الإنسان بالمكان الجغرافي علاقة وجود ، ذلك أن المكان أسبق في وجوده من الوجود الإنساني الذي ارتبط بالأرض بوصفها مأوى و موطنا و مصدرا لعيشه و قوته “فمنذ القدم و حتى وقتنا الحاضر كان المكان هو القرطاس المرئي و القريب الذي سجل الإنسان عليه ثقافته و فكره و فنونه ، مخاوفه وآماله وأسراره وكل ما يتصل به وما وصل إليه من ماضيه ليورثه إلى المستقبل ” 1 و لذلك حاول الإنسان تجسيد الأشياء المجردة بأشياء محسوسة ، و إخضاع العلاقات الإنسانية و النظم لإحداثيات المكان الجغرافي و يمكن القول : ” إن نماذج العالم الاجتماعية و الدينية و السياسية و الأخلاقية العامة التي ساعدت الإنسان عبر مراحل تاريخه الروحي على إضفاء معنى على الحياة التي تحيط به ، نقول إن هذه النماذج تنطوي دوما على سمات مكانية ” 2 و لعله من الطبيعي أن يكون لهذا الالتصاق المكاني علائق متجذرة في عمق التجارب و الخبرات الإنسانية المرتبطة بالمعرفة الفطرية التي جبل عليها الإنسان ، متخذا منها مسوغات لصياغة مفاهيم لقيم أخلاقية و اجتماعية و نفسية و جمالية ، كون المكان يدرك إدراكا حسيا مباشرا ، من خلال خبرة الإنسان لجسده الذي هو مكمن القوى النفسية و العقلية و العاطفية و الحيوانية للكائن الحي ، و معرفته بما يحيط به بدءا من المتناهي في الصغر إلى المترامي في الكبر ، فالرحلة تبدأ من البيت الذي يمثل عالم الطفل و مكان الألفة ” وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه إنه بيت الطفولة ، إنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة و تشكل فيه خيالنا “3 ، كما أن المكان يؤثر و يتأثر بالإنسان الذي يسكنه نظرا للعلاقة التواصلية التي تجمعهما ، فالأول يسكن كيان الثاني لأنه لا يحقق وجوده بدونه ، و من هنا يستدعي كل عنصر منهما وجود الآخر ، و يظل المكان خلوا باهتا من أي معنى إذا لم يمنحه الإنسان بعضا من تفاعله و روحه ، فيصبح المكان في هذه الحالة قسيم القيم الاجتماعية و الروحية التي جبل عليها الإنسان ، و توارث الإحساس بشاعريتها ، فكم من أمكنة خلدها الإنسان و أفرغ فيها من وجدانه و روحه ، و الحق أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين الإنسان و المكان ، فثمة ألفة و حميمية تجمعهما ، و لذا يعد المكان بالنسبة للإنسان ” جسدا و روحا و هو عالم الإنسان الأول ” 4، فلا وجود للمكان إلا بالإنسان ولا وجود للإنسان إلا بالمكان ، كما أن الحضور الزماني غير منفصل عن الحضور المكاني فهما وجهان لعملة واحدة في سياق الأعمال الأدبية ، فالزمان يدرك إدراكا غير مباشر من خلال فعله في الأشياء بينما يدرك المكان إدراكا حسيا مباشرا فـ ” الزمان أزمنة و المكان أمكنة بحسب التأويل و التلوين ، و لكنهما مع التباين و التشابه يمثلان دائرة واحدة ، حتى نحت (الزمكان ) حلا وسطا لإشكالات لا حصر لها ” 5 ، فثمة ارتباط جوهري بين الزمان و المكان ، إذ في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن ، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني ، الذي يرفض الذوبان و الذي يود أن يمسك بحركة الزمن ، فالمكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها يحتوي على الزمن مكثفا ، و هذه هي وظيفة المكان تجاه الزمن إلى جانب وظائف أخرى تتصل بتقنيات النص و بنوعه الأدبي و بالموضوع المعالج ، و لا بد لنا في سياق حديثنا عن المكان الفني من الإشارة إلى البعد النفسي للمكان داخل النص الشعري و الصورة الشعرية علاوة على وظائفه الفنية و أبعاده الاجتماعية و التاريخية و العقائدية ، التي ترتبط بالمكان ولا تفارقه ، حتى إننا نسترجع هذه السياقات و الأبعاد عند استرجاعنا للمكان نفسه أو ما يرتبط به 6 فجماليات المكان في القصيدة ذات طبيعة مزدوجة ، فهي تتعامل مع المكان كإطار يشترك مع الزمان من ناحية ، و تتعامل مع المكان داخل الصورة الشعرية من ناحية أخرى ، و من هنا كانت جماليات المكان تشكيلية وظيفية.
المكان الفني في الشعر :
إن المكان من أبرز العناصر التي تشكل جمال النص الشعري ، فالمكان ( الجغرافي ) ينبني من خلال اللغة ليشكل الجمالية المكانية ، حيث تبرز رؤية الشاعر من خلال تعامله الفني الجمالي مع العنصر المكاني ، و جوانب رؤيته له ، فالشاعر العربي ارتبط ارتباطا وثيقا بالمكان الذي ولد فيه وعاش فيه ، فشده هذا المكان إليه و تغنى به في أشعاره ، و حتى عندما كان المكان بعيدا عنه جغرافيا ، فقد بدا قريبا منه نفسيا و روحيا ، و مأثور الشعر العربي يعج بهذا المكان من خلال وصف الأطلال الذي كان تقليدا يحتذى عند الشعراء الجاهليين ، و ما المقدمة الطللية إلا وجه من تلك الأوجه التي سرعان ما غابت عن النص الشعري العربي بفعل التطور الفكري و الاجتماعي الذي أثر في العقلية العربية ، و جعل الشاعر يدخل في علاقات إنسانية أكثر تعقيدا و انفتاحا على عوالم متعددة ، و قد كان دفاع الشاعر عن قضايا الإنسان و نضاله من أجل الحرية سببا في تشابك الأمكنة و تعددها في النص الشعري ، فلم يعد الحديث عن الوطن الأم هما خاصا بالشاعر، بل تعداه إلى أماكن و أوطان أخرى متجاوزا الأفق المحدود للمكان ، و بذلك قدم الشاعر إنجازا ضخما تمثل في وعيه بزمانه و مكانه و إنسانيته.
و كثيرا ما تشبث الشعراء بأماكن بديلة عن أوطانهم ، و تجلى ذلك في الشعر الوطني حيث أضحى المـكان ( الوطن ) عندهم مفردا بصيغة الجمع ، فهو الذي يهيج الأشواق بما يحتويه من ذكريات ، لذلك شكل الوطن هوية و انتماء وقضية ، و كلما كان ارتباط الشاعر به قويا كلما تحققت إنسانيته ، و كملت مثله العليا ، فالوطن هو المكان الوحيد الذي يتجذر في الذات الإنسانية ، و هو البؤرة المركزية التي تستقطب تفاصيل الحياة الشاملة و النواة الخفية التي تتمحور حولها التجربة الشعرية ، و قد امتزج ذكر الوطن بالحديث عما يعانيه الشاعر من ظلم و قسوة و فقد و ضياع ، كما ارتبط بالدعوة إلى الثورة و النهوض ، فالشاعر آمن بالوطن خلاصا له ، و أصبح حب الوطن عنده شريعة فـ ” الوطن فكرة غافية لا يوقظها إلا الشعراء بالتحنان و الغناء ، و إن كان الإنسان يرتبط شعوريا بالمكان الذي ينبت فيه و تمتد فيه جذوره ، فإن توسيع دائرته ليشمل رقعة عريضة تتمثل في خواصه الطبيعية و البشرية ، و تعميق وعيه الفطري به يعد نموذجا لصناعة المثال و التعلق به ، و هي صناعة شعرية في صميمها حيث بوسع الإنسان عند ممارستها أن يرى ذاته و ينشد أحلامه و يشكل انتماءه للعالم الصغير ” 7 ، و قد كان الشعراء أكثر الناس تشبثا بالوطن و أملا في المستقبل لأنهم تجردوا من الأهواء و المنافع و المطامع ، فكانوا صادقين مع أنفسهم و مع شعوبهم ، و تركوا قصائد تنبض حبا و ارتباطا بالوطن ، و كان الشاعر العربي محمود درويش من أكثر الشعراء تغنيا بالوطن ، فقد شكل الوطن عنده العلاقة المحورية في شعره يقول :
” علقوني على جدائل نخلة
و اشنقوني …فلن أخون النخلة
هذه الأرض لي …و كنت قديما
أحلب النوق راضيا و موله
وطني ليس حزمة من حكايا
وطني ليس قصة أو نشيدا
ليس ضوءا على سوالف فلة
وطني غضبة الغريب على الحزن
و طفل يريد عيدا و قبلة ” 8
الوطن عند الشاعر مرادف للنخلة الرامزة إلى الأصالة و التشبث بالأرض ، و المتجذرة زمانا و مكانا ، والنخلة عنوان الارتباط العربي الذي ارتبط بالقدس ، و هي الأمل الحلم الذي بقي للشاعر بعد ضياع وطنه ، فالشاعر لن يخون النخلة المرادفة للوطن ، و هنا يأخذ لفظ الوطن بعدا روحيا يسمو من خلاله الشاعر في رحلة العودة المنتظرة إلى الوطن الأصل إن مجرد ذكر الوطن كمكان جغرافي لا قيمة له إذا لم يعانقه وطن روحي فها هو الشاعر يرى في دمشق بديلا مكانيا و معادلا موضوعيا لفلسطين ، و منطلقا للعودة الحتمية التي يحلم بها ، فدمشق تشكل علامة مميزة في شعر درويش :
” من الأزرق ابتدأ البحر
هذا النهار يعود من الأبيض السابق
الآن جئت من الأحمر اللاحق
اغتسلي يا دمشق بلوني
ليولد في الزمن العربي نهار
أحاصركم : قاتلا أو قتيل
و أسألكم شاهدا أو شهيد
متى تفرجون عن النهر حتى أعود إلى الماء أزرق ” 9
إن فلسطين فضاء الشاعر الذي لا يمكن الاستغناء عنه ، لأنه الحياة كلها ، ففلسطين هي النهر و الماء الذي يحيا به الشاعر فكيف له أن يتصور نفسه بلا ماء .
لقد شكل المكان عند درويش مرتكزا للإبداع الشعري فهو ليس مجرد صورة أو شكل مرسوم هندسيا ، وإنما أحد العناصر الفنية التي يشتغل عليها العمل الأدبي ، وبذلك لم يعد المكان مجرد خلفية مشهدية أو ديكورا يملأ الفراغ ، إنه يتجاوز هذا الطرح ليصبح ذا بعد رمزي يعكس مفهوما جماليا أو فلسفيا داخل العمل الفني ، أو أحد أهم العناصر الفاعلة في البنية النصية ، فالمكان الفني مدين بشكل أو بآخر للمكان الفعلي ، لذلك يعمد الشاعر إلى اختيار أماكن حقيقية في عمله الأدبي ، فيتشظى مفهوم المكان و يأخذ موضعه و أبعاده الجمالية في النص الشعري وفق استعمالاته و أنساقه ، انطلاقا من تصور أن المكان ليس بأبعاده الجغرافية و لا بهندسته ، بل بأبعاده الاجتماعية و التاريخية و السياسية و النفسية التي تظهر من خلال تخلق المكان في العمل الشعري ، وهذا حال العمل الإبداعي الرفيع الذي ” لا يستحضر أو يبتكر فضاء معينا إلا إذا أوجد له منظورا ، ووزع ظلاله و أضواءه بما يخدم استراتيجية الكتابة و القراءة معا ” 10، فحضور المكان في النص الشعري استجابة لمثيرات الواقع في كل أبعاده ، فهو يختزل التفاصيل الوصفية الناجمة عن الطبيعة الرامزة للأبعاد المكانية ، ومجرد ذكر المكان يوحي للمتلقي معنى معينا ارتبط بهذا المكان ، و هو ما يشير إليه ( باشلار ) بتعليق القراءة فيتحول تصوير المكان إلى استراحة و فسحة لا يمكن للقارئ مغالبتها ، بحيث تملأ عليه كل حواسه و مشاعره ، و تجعله يستعيد تجربة مكانه الأليف ، و ينطلق هذا كله من فكرة دينامية الخيال ، أي أن الصورة الفنية و المكان الأليف و الذكريات ليست معطيات ذات أبعاد هندسية ، بل مكيفة بخيال المتلقي و أحلام يقظته 11، و بالتالي تلغي موضوعية الظاهرة المكانية ، و تحل محلها تلك الطاقة الشعرية التي يمسك بها الشاعر متجاوزا المكان كما هو متمثل في الواقع الخارجي ، إلى مكان يحمل أبعادا رمزية و يعكس مفهوما نظريا أو فلسفيا داخل العمل الأدبي .
لا تتجسد جمالية المكان من خلال تحديد اسمه و أبعاده و صفاته فحسب ، و إنما من خلال مرجعيته وواقعيته و طبيعته الخاصة ، فهو مكان يحدد شعريا عن طريق أسره داخل مجموعة من المفردات ، فمادته الأساس هي اللغة الشعرية التي يصاغ منها على لسان الشاعر، وعليه فإن انتقاء المكان في العمل الشعري يتطلب من الشاعر مزيدا من الدقة و الإبداع ، و الشاعر المبدع هو الذي يقدم لنا لوحة فنية يمكننا من خلالها أن نرى الزخرف كاملا ، فمن خلال التقنية الوصفية العالية فنيا و جماليا يصبح المكان أكثر حيوية و خصوبة من الكثير من الأماكن الواقعية المشابهة ، ويضحي المكان في هذه الحالة سجلا يطرز عليه الإنسان ثقافته و فكره و فنونه و آماله و أسراره ، و كل ما يتصل به في سبيل الإبانة عن قيمه الاجتماعية و الإيديولوجية و الجمالية التي يحملها فـ ” الحاجة الجمالية هي أرسخ الحاجات التي تميز الكائن البشري ، و من أكثرها ثباتا و قوة ، و هذه الحاجة لا يصار إلى ممارستها في الميدان الخاص و المحدود للفنون الجميلة فقط ، حيث تجد في الحقيقة كفايتها الأكثر شمولا و صفاء و كثافة ، وإنما تلقاها أيضا كقوة محركة و موجهة و متممة و مشرفة و مستشرفة معا في مختلف ميادين النشاط الإنساني ” 12 ، و لذلك يعالج المكان كدال و رمز و قناع من خلال التعرف إلى وظيفته التقنية و الجمالية و الدرامية ، فالقصيدة تشترك مع غيرها من الأنواع الأدبية في التشكيل المكاني ، و عندئذ يأخذ الشاعر كل الحق في تشكيل الطبيعة و التلاعب بمفرداتها و صورها الناجزة ، فيجعل من المكان بطلا دراميا له سياقاته الحلمية و الطفولية التي تتسرب إلى تشكيل المشهد و النص 13 ، حيث البيت و الراحة و الاستقرار أو المتعة و الدفء الإنساني حين يشحن البيت الذي ولدنا فيه بقيم الحلم التي تبقى بعد زوال البيت.
– صور المكان عند محمود درويش:
شكل المكان ( الجغرافي ) حيزا كبيرا في شعر محمود درويش ، فهو من أكثر الشعراء المحدثين ارتباطا بهذا المكان و اندماجا بمكوناته المختلفة ، فالمكان عنده ليس مجرد مأوى يسكنه أو يأوي إليه و إنما ” المكان مكمل للإنسان فهو الذي يحتوي الإنسان و يعطي للأحداث التي يقوم بها الحيوية و المعنى و القيمة ” 14 ، فافتقاد المكان ( الوطن ) شكل عنده مأساة كبيرة و كان سببا في شقائه و شقاء كل فلسطيني سلب وطنه و شرد منه و نفي عنه ، و المتتبع لشعر درويش يجد أنه يعج بذكر الأمكنة التاريخية و الحضارية ، يقول الشاعر معبرا عن حبه لوطنه و تعلقه به : ” أنا لا أكون إلا في الأرض ، و كل وجود لي خارجها إنما هو ضياع و تيه نهائي ، لتكن الأرض داخلي تكتبني و أكتبها ” 15 ، و عليه فقد شكل المكان عنصرا رئيسا في بناء القصيدة عند درويش ، حيث وظفه الشاعر توظيفا مثمرا يعكس رؤيته الشعرية للواقع الإنساني و الفلسطيني على حد سواء ، فقد امتحن الشاعر في بيته ووطنه و عانى الويلات و الاغتراب و عاش صراعا مريرا مع المحتل الذي سلب بيته ووجوده ، فلم يجد الشاعر وسيلة لامتلاك هذا المكان إلا من خلال تثبيته في اللغة عبر صوره الشعرية اللامتناهية التي ارتبطت بالمكان و بالأشياء المكونة له ، فكان لتفاعل الواقع مع الخيال دور في استرجاع ذكريات الماضي و ما فيها من جمال على الرغم من التغييرات التي طرأت على المكان ، فحولته من مكان أليف إلى مكان موحش ، فلا مرابع الصبا و لا ذكريات الطفولة ، لكن ذلك المتغير الغائب المفقود و الموجود الذي بقي ثابتا في الذاكرة فهو نبض الحياة و أمل العودة وإشارة النصر:
” المكان الرائحة
قهوة تفتح شباكا ، غموض المرأة الأولى
أب علق بحرا فوق حائط
المكان الشهوة الجارحة
خطوتي الأولى إلى أول ساقين أضاءا جسدي
فتعرفت إليه و إلى النرجس فيَّ
المكان المرض الأول …..
أم تعصر الغيمة كي تغسل ثوبا و المكان
هو ما كان و ما يمنعني الآن من اللهو
المكان الفاتحة ………….
المكان الأرض و التاريخ فيَّ
المكان الشيء إن دل عليَّ
لا شيء يضيء الاسم في هذا المكان ” 16
إن هوية المكان في شعر درويش تنبعث من كل الصور المكانية منها و غير المكانية ، فإذا كانت الصور المكانية الحسية تقدم نفسها بوضوح للقارئ من مثل ( المكان – الشباك – الحائط – البحر – الأرض ) ، فإن الصور الشعرية غير المكانية ( الرائحة – القهوة – النرجس – المرض – التاريخ ) تنحو منحى تجاوزيا يتداخل فيه الأنا مع الآخر ، و الحقيقة مع الخيال ، فيغدو المكان حالة عالية الكثافة يمثلها التداخل بين العناصر الطبيعية و ترابط العلاقات الإنسانية بالأرض ، فتكتسب هذه الصور أبعادا مكانية ثقافية و حضارية فتبدو فيها ” غالبا أن كلمات الإنسان تنفث حيوية إنسانية في كينونة الأشياء ” 17 ، فتولد مسافة بين اللغة الشعرية و مرجعيتها ، و بين المتطلبات الجمالية و ما يمليه الواقع
إن لغة درويش لغة إشارة تستلزم من المتلقي تشغيل آليات التأويل لمعرفة تفاصيل الأحداث في مسيرته كإنسان و شاعر، حتى يتمكن المتلقي من فك شفراتها و معرفة كنه أبعادها الدلالية و الإشارية يقول :
” لم يكن للكواكب درر
سوى
أنها علمتني القراءة :
لي لغة في السماء
و في الأرض لي ” 18
لقد امتلك الشاعر المكان لغويا عن طريق تثبيته في اللغة ، فمهما تغير المكان فهو في تواصل دائم مع مفردات الأرض الفلسطينية من مدن و قرى و نبات و أزهار و جبال ووديان و بحار و طرق …..، و قد مثلت هذه الأمكنة أبجدية الحياة اليومية عنده ، فتاريخ القصيدة الدرويشية هو في أحد وجوهه ” تاريخ أمكنتها ولدت القصيدة في مكان و نمت في مكان و أينعت في أمكنة ، لم يكن المكان محايدا أمام تجربة القصيدة ، لم يمنحها جغرافيا ترابية كي تقيم فيها كما يقيم العابرون ، كان المكان لها رحما ، تربة ازدرعت فيها كان ماءها و شمسها و هواءها ……… خرجت القصيدة من فلسطين و عادت إلى فلسطين ، و في رحلة العودة تألقت أكثر في المكان الذي يقولها و تقوله” 19، فالمكان في البنية النصية للقصيدة عند درويش لا يستقر على شكل واحد ، إنه مشكل من خيال اللغة يستقي منها خطوطه و مادته و لونه و حركة هندسته و رائحته ، مما يجعله خاضعا لتقسيمات متنوعة و أبعاد منتشرة على طول أبيات القصيدة ، و تلعب اللغة دورا بارزا في حمل دلالاته و تكثيف رموزه و إيحاءاته في سبيل توضيح القيمة الاجتماعية و الإيديولوجية و التاريخية و الجمالية المستكنهة في هذا المكان.
تعددت صور المكان في أشعار درويش و اتخذت تقسيمات عدة وفقا لدلالة هذه الأمكنة و رصيدها الكاشف عن الحالة النفسية و الاجتماعية للشاعر ، فتغير الأحداث و تطورها يفترض تعددية هذه الأمكنة و اتساعها ، لذلك اتخذت التشكيلات المكانية عنده عدة أشكال بحسب أهميتها و درجة كثافتها ، و سنحاول في الصفحات التالية رصد أبرز التشكيلات المكانية في شعر درويش.
– المكان المغلق ( فضاء البيت ):
ينهض المكان المغلق في شعر درويش بأدوار محورية على صعيد البنية الشعرية للقصيدة ، فهو من أكثر الأماكن حضورا في المتن الشعري ، و قد يعود ذلك إلى دور هذا المكان في ” رسم العلاقات الإنسانية و النفسية و الوجدانية التي تنشأ بين الشاعر و الأماكن التي يعيش فيها أو يألفها أو يتنقل من خلالها ، و بقدر ما تكون الألفة و العشق أو النفور و الكراهية تتجلى صورة المكان في وجدان الشاعر ” 20، و يأتي البيت في مقدمة الأمكنة الأثيرة عند الشاعر ، ذلك أن البيت هو مكان الطفولة و الألفة ، و هو المبتدأ الذي نخرج منه إلى الدنيا إنه مركز تكثيف الخيال ، و عندما نبتعد عنه نظل دائما نعيش على ذكراه ، فشعرية البيت لا تؤول بالضرورة إلى صورته أو هندسته بقدر ما يثيره هذا البيت فينا من أحلام الطفولة و معاني الألفة ، فهو مكون من مكونات الانتماء ، وهو الملجأ عند الشعور بالخطر، فالبيت ينتظم في مجموعة قيم نفسية وأخلاقية ترتبط بتجاربنا في الحياة ، ” فالمكان الذي نحبه يرفض أن يبقى منغلقا بشكل دائم ، إنه يتوزع و يبدو كأنه يتجه إلى مختلف الأماكن دون صعوبة ، و يتحرك نحو أزمنة أخرى و على مختلف مستويات الحلم و الذاكرة ” 21 ، و على هذا الأساس يمكن اعتبار البيت مكانا كونيا يضم الدار و المنزل و غيرها من المسميات التي أطلقها الشاعر عبر تجربته الشعرية ، يقول :
” و من يسكن البيت من بعدنا
يا أبي
سيبقى على حاله مثلما كان
يا ولدي ” 22
إن هذا البيت الكوني الذي تساءل الشاعر عمن يسكنه مع والده ما هو إلا الوطن ، و ها هو الوالد يؤكد لابنه أن العودة للبيت حتمية ، و أن البيت سيبقى في انتظاره لأن البيت معادل للوطن ، فأحد معاني البيت في اللغة هو الوطن ، و يتواصل الحوار ليكشف طبيعة هذا البيت و ملامحه و هويته :
” لماذا تركت الحصان وحيدا ؟
لكي يؤنس البيت يا ولدي
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها ” 23
إن البيت قادر على الصمود و المقاومة و هو هنا يرمز إلى الوطن ، و هذا هو الهاجس الذي يعيشه الشاعر ، و يحاول تجسيده من خلال عنصر البيت المتناهي في الصغر الذي حولته الرؤية الشعرية إلى بيت كبير يضم الوطن و ما فيه من ذكريات و أحلام .
يبرز البيت في النص الشعري لدرويش من خلال التأملات الشعرية التي توحد العام مع الخاص داخل إطار التجربة الشعرية ، فالبيت خاص لأنه مرتبط بتجارب فردية تخص الشاعر ، فلكل شاعر ذاكرته الطفولية و زمنه المكثف المتصل بالألفة و الحنين ، فالشاعر يتعرف إلى نفسه بوساطة زمنه الخاص و بيت الطفولة الحميمي ، و من ثم يصبح في تأملاته الشعرية ” أمام تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان ، و الذي يود حتى في الماضي حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة أن يمسك بحركة الزمن ، إن المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها يحتوي على الزمن مكثفا ” 24 ، يقول محمود درويش :
” في بيت أمي صورتي ترنو إليَّ
و لا تكف عن السؤال :
أأنت يا ضيفي أنا ؟
هل كنت في العشرين من عمري
بلا نظارة طبية و بلا حقائب ؟
[ . . . ]
فمن منا تنصل من ملامحه ؟
أ تذكر حافر الفرس الحرون على جبينك ؟ ” 25
يتعرف الشاعر إلى نفسه من خلال بيت الأم و الأشياء الموجودة فيه ، و التساؤلات الكثيرة التي قابلته في هذا البيت تركته في حيرة من أمره ، يتنازعه شعور بالغربة عن بيت الأم ( الوطن ) والشوق إلى تلك الأيام الخوالي المليئة بعنفوان الشباب ، كل ذلك جعل الشاعر في حالة بحث دائم عن ذاته القديمة المتمثلة في الصورة التي تذكره بشبابه ، غير أن الشاعر قد استعجل السفر و لم يتذكر أيام الطفولة ، و قد تولت صورة البيت عنده لتشمل أفقا تأمليا إنسانيا مفتوحا على الوطن و العالم من خلال دمج الخاص بالعام ، فالبيت ينظر إليه كونه ” واحدا من أهم العوامل التي تدمج أفكار و ذكريات و أحلام الإنسانية ، و مبدأ هذا الدمج و أساسه هما أحلام اليقظة ” 26 .
إن درويش قد اختزل الوطن بمعانيه الكبيرة في مفردة البيت ، فهو عندما يعبر عن فقدانه لبيته إنما يعبر عن فقدانه لوطنه ، فيصبح البحث عن البيت بحثا عن الوطن في أجل معانيه فالبيت بالنسبة للشاعر هو الحلم و السكينة ، وهو مكان الولادة و الوجود الأول ، لذلك فإن الذاكرة تسترجع كل تفاصيله المادية ذات الأثر النفسي عند الشاعر ، و يتحول البيت إلى رمز لا يرتبط بمرحلة الطفولة فحسب ، بل بكل ما يكمن خلف صورة هذا الرمز من طمأنينة و شعور بالحماية و الدفء :
” أطل كشرفة بيت على كل ما أريد
أطل على صورتي و هي تهرب من نفسها
إلى السلم الحجري و تحمل منديل أمي
و تخفق في الريح : ماذا سيحدث لو عدت
طفلا ؟ و عدت إليك و عدت إلي ” 27
إن علاقة الفرد بماضيه البعيد و بذكريات الطفولة مكون أساسي من مكونات السيرة الذاتية للشاعر ، فاستعادة الذكريات تتطلب استعادة اللحظات العميقة من مخزون الذاكرة ، والبيت مركز تنشيط الذاكرة و مثار أحلام اليقظة ، لذلك شاع ذكره كثيرا في أشعار درويش كتعويض عن الوطن الضائع و الأمل في العودة إلى حضن الوطن ، و نسيان حالات الاغتراب التي تسيطر على الروح .
– المكان المغلق ( فضاء القبر ):
إن كلمة القبر كلمة موحشة توحي بالخوف و الفزع من المجهول ، و تدل على نهاية دورة الحياة عند الكائن الحي ، و قد وردت مفردة القبر بكثرة في أشعار محمود درويش ، إذ شكل الموت و الحداد بؤرة دلالية في أشعاره ، فها هو الشاعر يواجه الموت و القبر الذي يشكل عدوا لدودا فيحقق الشاعر نصرا رمزيا في مواجهته:
” ….حيث تعب روحي
سورة الرحمن في القرآن. و امشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي و لا
تضعوا على قبري البنفسج فهو
زهر المحبطين يذكر الموتى بموت
الحب قبل أوانه و ضعوا على
التابوت سبع سنابل خضراء إن
وجدت و بعض شقائق النعمان إن
وجدت و إلا فاتركوا ورد
الكنائس للكنائس و العرائس
أيها الموت انتظر …..” 28
يستقي الشاعر في هذه المقطوعة قاموسه الشعري من الحداد و الموت ، فيجعل من الموت بؤرة دلالية تلتقي عندها المعاني ، غير أن الشاعر لا يسمح للموت أن يهزمه فيحقق عليه نصرا رمزيا من خلال ترتيب الجنازة و انتظار الموت ، فالقبر تحول عند الشاعر من مكان موحش مخيف إلى مكان للراحة و نهاية رحلة العذاب و الألم إنه ” وسيلة من وسائل البحث عن السكينة و الاطمئنان و الشعور بالذات ، و كأن درويش يريد أن يقول لنا : إن الشيء المر قد يبدو حلوا إذا ما قيس بما هو أمر منه ” 29، و هذا يعكس بدوره روح التحدي التي يتمتع بها الشاعر ، و الثبات النفسي إزاء الموت الذي ينتظره من عدوه .
وفي مقطع آخر يؤكد الشاعر تحديه للموت ، فلم يعد القبر عنده ذاك المكان الموحش و لا بيت الوحدة ، إذ تحولت صورته عند الشاعر إلى صورة جميلة مليئة بالأحلام التي تنسج في المنام ، يقول الشاعر :
” تقول سيدة : أنا أيضا . أنا لا
شيء يعجبني
دللت ابني على قبري
فأعجبه و نام و لم يودعني ” 30
إن رؤية الشاعر للقبر على هذا النحو إشارة واضحة إلى ما يعانيه الفلسطيني من عذاب و مآس بعيدا عن وطنه السليب ، لذلك جعل الشاعر من صورة القبر على الرغم من سوداويتها مكانا للسكينة و الاستقرار، وتعويضا عما يلاقيه الفلسطيني في المنافي من عذاب ، فلا أرض يزرع غرسه فيها ، و لا يدفن شهداءه تحت ترابها ، فالقبر بالرغم مما يحمله من شعور بالخوف و القلق و الرهبة إلا أنه جزء من الأرض ، تلك الأرض التي يبحث عنها الشاعر ليعوض بها عن وطنه الذي افتقده ، و قد أخذت مفردة القبر في شعر درويش أكثر من منحى ، فليس القبر عنده إشارة إلى نهاية المطاف ، و الشعور بالراحة و السكينة بعد ما لاقاه من ويلات الغربة و تعبها ، إنما هو نهاية مؤقتة يبحث عنها عندما تضيق به السبل و يتعب من مواصلة المسير في دروب الحياة المليئة بالأشواك ، فالقبر محطة استراحة ينطلق بعدا الشاعر بحيوية أكبر و إصرار أشد نحو هدفه :
” و كل قصيدة حلم
(حلمت بأن لي حلما )
سيحملني و أحمله إلى أن أكتب السطر الأخير
على رخام القبر :
نمت : لكي أطير ” 31
تبدو علاقة الشاعر بالقبر علاقة مثمرة ينسجها من وحي خياله و إحساسه بالمشكلة المؤرقة له و للكثيرين من أبناء شعبه ، فهو الملاذ و السكينة و الاطمئنان في مواجهة الخوف و العذاب ، و بذلك يتحول القبر إلى معنى مضاد لمعناه اللغوي إذ يأخذ على يدي الشاعر أفقا جديدا ، فيضحي سكنا و موطنا و تعويضا عن افتقاد الشاعر لوطنه ، و هو من ناحية أخرى ينهض رمزا للتحدي و كسر حاجز الخوف من العدو ، ودليلا على حب الشاعر لأرض وطنه و عشقه لها .
– المكان المغلق ( فضاء البئر ) :
شكل البئر مكانا أثيرا في شعر محمود درويش ، فهو تأكيد لاستمرار العلاقة الحميمة بين الشاعر و الأماكن المغلقة التي تولد في نفسه الرضا ، و لا سيما أن البئر جزء من تفاصيل البيت الذي ” من أعماق ركنه يتذكر الحالم كل الأشياء التي تتماثل مع الوحدة ” 32، كدرج البيت الحجري و ساحة البيت و الصفصافة و الحصان …. ، هذه التفاصيل التي تشكل ذاكرة الطفولة عند الشاعر :
” هل تعرف البيت يا ولدي
مثل ما أعرف الدرب أعرفه
ياسمين يطوق بوابة من حديد
و دعسات شمس على الدرج الحجري
و عباد شمس يحدق في ما وراء المكان
و نخل أليف يعد الفطور لجدي
على طبق الخيزران
و في باحة البيت بئر و صفصافة و حصان
و خلف السياج غد يتصفح أوراقنا ….. ” 33
يقدم الشاعر المكان الأليف الواقعي بكل جزئياته بعين الطفل الذي التصق بهذا المكان ، فغدا المكان جزءا من مكونات نفسه التواقة إلى الدفء و الخلاص من عذابات الغربة ، فالبئر عند درويش ” يمثل مستودعا للمشاعر و الأحاسيس و الذكريات، إنه موطن الأسرار و سجل لتاريخ طويل طالما اشتاق إليه الشاعر ، و شاهد على الأحداث و الأيام ” 34.
شكل المكان في شعر درويش تشكيلا نهائيا لا يمكن أن يمحي و بالتالي لا يمكن أن يصبح مفهوما مجازيا لشدة ارتباطه بالطفولة ، و الطفولة معطى ثابت لا يتحرك و لا يقبل التعديلات ، و هو محمل بجملة من الجماليات يزيدها البعد توهجا ، فالشاعر لا يستطيع العودة إلى قريته لأن قريته امّحت تماما ، و لم تعد موجودة إلا في طيات الذاكرة ” فتشت عن مرتع طفولتي فلم أجد إلا الأشواك …….لا منزل لا شيء إلا الشوك لن أعود إلى ذلك المكان ” 35، لقد أسهم غياب المكان بشكله المادي عن الشاعر في بعثه و حضوره في شعره و قد كساه الشاعر بطابع من القداسة فغدا خليطا من القداسة و الأسطورة ، و لم يعد ذكره ضربا من السيرة الشخصية أو التاريخ الشخصي للشاعر ، و إنما لون من استرجاع الحلم الضائع ، فالبئر ليس مجرد مصدر للماء إنه كاتم الأسرار بعد أن امحى المكان و أصبح أطلالا ، وظهرت مكانه أبنية اسمنتية صامتة جدباء لا روح فيها ، و لذلك حافظ عليه الشاعر في نصه ، يقول :
” عم مساء و سلم على بئرنا
و على جهة التين و امش الهوينى على
ظلنا في حقول الشعير و سلم على سرونا ” 36
إن البئر مكان محفور في ذاكرة الشاعر ، إنه كاتم الأسرار و حافظها ، فهو صديق حميم للشاعر يرسل له السلام و التحيات ، و هو من ناحية أخرى يحيل ضمنيا على ظمأ الشاعر هذا الظمأ المادي الذي ولده البعد عن القرية و المكان ، فوجد الشاعر في البئر معادلا لسنوات الغربة و التهجير ، فبثه لواعج نفسه و حنين أشواقه ، و في مكان آخر يربط درويش البئر برموز دينية و حضارية متعددة ، محملة بالدلالات و الرموز فيقول :
” و قلت للذكرى سلاما يا كلام الجدة العفوي
يأخذنا إلى أيامنا البيضاء تحت نعاسها
و اسمي يرن كليرة الذهب القديمة عند
باب البئر أسمع وحشة الأسلاف بين
الميم و الواو السحيقة مثل واد غير ذي
زرع و أخفي تعبي الودي ” 37
يستحضر الشاعر مشهدا من مشاهد الطفولة عندما نودي عليه باعتباره سقط في البئر ، و يثير من خلاله مشهدا متولدا صوتيا ، فصوت حرف الميم و الواو و هما حرفان من اسم ( محمود ) عندما أطلقا على نحو ممدود تجاوبا مع أصداء البئر ، و هذه الصورة الرمزية التي قوامها الصوت الذي يتردد صداه في البئر ، تستدعي قصة سيدنا ( يوسف ) عليه السلام عندما ألقاه أخوته في البئر الذي يشكل بؤرة خوف عميق في نفس الشاعر ، تماما كما شكل اقتران يوسف بالبئر حالة الخوف و التوحد و التوجس في نفسه ، و هو هنا ينبئ بمدى الوحدة التي يعانيها الشاعر و يبدو ذلك واضحا في قوله : ( مثل واد غير ذي زرع ) فهو يرمز بذلك إلى تخاذل العرب الذين تركوه وحيدا في ساحة النضال ، غير أنه كان متيقنا من العودة رغم كل الصعوبات التي عاناها :
” أعرف أنني
سأعود حيا بعد ساعات من البئر التي …..
أشاء ، كبرت ليلا في الحكاية بين أضلاع
المثلث : مصر سوريا و بابل ” 38
لقد شكل البئر في شعر درويش رمزا عضويا بارزا حمل أحلام الطفولة ، و ما فيها من شوق و حنين و ذكريات ، و أثار جملة من التحديات المستقبلية إزاء حالة الغربة و الضياع و التهجير التي عاشها الشاعر ، و لذلك صنع الشاعر حياته كما أراد هو ، و استدعى الأرض و التاريخ و الجغرافيا ( مصر ، سوريا ، بابل ) التي ترمز إلى أرض فلسطين في بعدها القومي و الحضاري ، فلسطين الحلم الذي لم يفارق مخيلة الشاعر رغم مرور الأيام و تغير الأماكن ، ففلسطين هي الرمز الثابت الذي لا يمّحي ، إنه محفوظ في البئر كاتم الأسرار و حافظها .
– المكان المغلق ( فضاء السجن ) :
يثير فضاء السجن في النفس العدمية في المكان و الزمان ، فهو يحيل إلى الشعور بفقدان الحرية ، و يمكن القول إن العلاقة بين الإنسان و المكان في هذه الحالة تظهر بوصفها علاقة جدلية بين المكان و الحرية ، تلك العلاقة التي تعكسها ابتهالات البوح و المناجاة المهداة لهذا المكان ، و لا يقف السجن عند حدود المكان ، و إنما يتصل بشكل مباشر بكل مدركات الإنسان ، فالعتمة و ضيق الحيز و الرطوبة و برودة العلاقات الإنسانية كل ذلك من السمات اللصيقة بهذا المكان ، و قد عبر الشاعر عن هذا الإحساس بالعزلة و القسوة في أكثر من مناسبة ، إذ جمعته بالسجن علاقة وطيدة ، و هو الذي جرب السجن في أكثر من مناسبة يقول واصفا تجربة السجن : ” إنه كان مستريح النفس في هذا السجن ، فلقد كان الواقع خارج السجن مؤلما بعد الهزيمة العربية ، و في هذه الحالة يبدو السجن مريحا للنفس إلى أبعد الحدود ” 39، لقد ولدت حالة النفي و الحصار و الاعتقالات المتكررة وأوامر الإقامة الجبرية متنفسا للحرية و التواصل و الخروج من العالم المعتم و الضيق إلى عالم مضيء وواسع في تأملات الشاعر ، و قد عبر الشاعر عن هذا الإحساس قائلا : ” الكثيرون من أصدقائي يتألمون من أجلي ، هذه الملاحقات ، الاعتقالات و أوامر الإقامة الجبرية ، التي تحدد حرية تجولي في وطني أصبحت جزءا من حياتي اليومية ، ولكنني أنظر إليها باستهتار يكاد يكون خبيثا ، لست متوترا أو لست مندهشا ” 40
اتخذ درويش من السجن أفقا للحلم و الحب و التسامح ، فالسجن يبقى مجرد فضاء ذاتي يعبر عن حساسية مفرطة تجاه الواقع ، و تجاه الآخر ، و لذلك سعى الشاعر إلى تحويل هذا السجن إلى عوالم بديلة تتجاوز فضاء العزلة إلى البحث عن الحميمية و الألفة ، و كانت وحدة السجن أو الزنزانة من أهم المثيرات التي تحفز التأملات إلى اختلاق مكان الألفة في الداخل :
” و زنزانتي اتسعت في الصدى شرفة
كثوب الفتاة التي رافقتني سدى
إلى شرفات القطار و قالت : أبي
لا يحبك أمي تحبك فاحذر سدوم غدا
و لا تنتظرني صباح الخميس
أحب الكثافة حيت تخبئ في سجنها
حركات المعاني ، و تتركني جسدا
زنزانتي صورتي لم أجد حولها أحدا
يشاركني قهوتي في الصباح و لا مقعد
يشاركني عزلتي في المساء و لا مشهدا
أشاركه حيرتي لبلوغ الهدى ” 41
إن الزنزانة التي اتسعت لتأملات الشاعر، اتسعت أيضا لشذرات من حياته خارج السجن في محاولة لتجاوز المعاناة النفسية و قهر الوحدة ، بخلق فضاء حميمي داخلي ، فالزنزانة لا تنحصر في ذلك المكان ذي الخصوصية الهندسية المحكمة الإغلاق ، و الأسوار العالية المزودة بأسلاك شائكة ، والسجن قد يتخذ أشكالا أخرى فيصبح البيت سجنا ، لأن السعة في السجن الحقيقي أكبر من مساحة الحرية في البيت عندما يتحول هذا الأخير إلى سجن ، فأن تكون مسجونا غير مسمى سجينا ، وهذا الأمر يترك شعورا أقسى بكثير من أن تكون سجينا وتشعر أنك حر ، و هذا ما تمثله حالة الحصار التي مورست على الشاعر ، فعلى الرغم من أن الشاعر خارج أسوار السجن المادي إلا أنه يعاني معاناة شديدة تفوق معاناة السجن الحقيقي ، بسبب ما يمارس ضده من قبل سلطات الاحتلال التي تحجز حريته داخل أسوار وطنه :
” يجد الوقت للسخرية :
هاتفي لا يرن
و لا جرس الباب يرن
فكيف تيقنت من أنني
لم أكن ههنا ” 42
لقد تحول الحصار عند الشاعر إلى سجن رهيب يحجز حريته و يكبله بقيود أبدية ، فلا الهاتف يرن و لا الجرس يرن ، إنه معزول عن الآخرين ، يمارس حياة معطلة عديمة الجدوى ، و كأنه غير موجود ، غير أن الشاعر لا يستكين لهذا الوضع إذ تبقى روحه طليقة فالرجل العظيم لا يموت و لا يستسلم ، ها هو يلعب النرد و يقرأ جرائد الأمس الجريح و زاوية الحظ التي تبشر بالمستقبل: ” نجد الوقت للتسلية :
نلعب النرد أو نتصفح أخبارنا
في جرائد أمس الجريح
و نقرأ زاوية الحظ : في عام
ألفين و اثنين تبتسم الكاميرا
لمواليد برج الحصار ” 43
إن روح التحدي و الإصرار حولت السجن عند الشاعر إلى مكان إيحائي يبشر بولادة جديدة قادرة على صناعة المستقبل الذي يحلم به الشاعر، من خلال المواليد الجديدة التي يحمّلها مسؤولية تحرير الوطن ، و يبث فيها من روحه التواقة إلى فك الحصار ، و تحرير الإنسان من ظلم الغزاة ، و بذلك يتغلب الشاعر على سجانه عن طريق مفردات صوره الشعرية ذات الأثر البارز في نفسية كل من المحتل و الجيل القادم الذي يحمل بوادر النصر.
– الخاتمة : لقد تفتقت صورة المكان ( المغلق ) عند درويش عن جماليات جديدة ، تصب في أفضية الألفة و العزلة التي لم تنقطع عن الخط العام الذي تمحورت حوله التجربة الشعرية لمحمود درويش ، ممثلا بالعلاقات المكانية المرتبطة بالتجربة الشاملة للأرض و الوطن فقد كانت مفردات البيت و السجن من أهم المعالم المكانية التي شكلت بوضوح تأملات الألفة و العزلة ، باعتبارها تقنية جمالية تستحضر المكان الأليف و ذكريات الطفولة و مفهوم الحميمية ، فجماليات المكان الشعري عند درويش تتطلب بحثا دقيقا و دراسة عميقة و شاملة بالنظر إلى كثافة حضورها في النص الدرويشي ، و تبقى هذه الدراسة خطوة صغيرة في استكناه الأبعاد الجمالية للمكان الجغرافي عند الشاعر ، ذلك أن المكان الجغرافي مكمل للإنسان يعطي للأحداث التي تدور فيه الحيوية و المعنى و القيمة و الرمز ، فالأحداث لا تتم في فضاء فارغ ، و لا في أجواء سماوية وهمية ، فمجرد ذكر المكان يوحي للمتلقي بمعنى معين اقترن به ، كتاريخ هذه الأحداث و قدسيتها و أهميتها في لاشعور المتلقي ، فتحول المكان إلى جغرافيا شعرية حاضرة في النص ، استطاع الشاعر أن يستلهم مظاهرها الحسية و اللاشعورية ، و جعل من المكان خلفية لقصائده التي شكل الشاعر من خلالها وطنا بديلا لوطنه ، بتأملاته و عماراته الشعرية التي شيدها بمفردات قصائده الموحية.
اترك رد