د. محمد محمود بن أحمد محجوب: خبير لغوي موريتاني بمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية
أوّلًا: إضاءةٌ مدخليّةٌ:
تتميّزُ الأعمالُ الفنيّةُ الخالدةُ بقدرتِها على توفيرِ مساحاتٍ جماليّةٍ تتّسعُ لتعدُّدِ القراءاتِ وفْقًا لتعدُّدِ أدواتِ المقاربةِ، واختلافِ زوايا النّظرِ، وتبايُنِ القُرَّاءِ: مَشارِبَ وأَزْمِنَةً. في هذا الإطارِ تَتنزَّلُ القراءةُ (أقول: “القراءة” على رغمِ أنفِ كلٍّ من: رولان بارت Roland Barthesورونان ماكدونالد Ronan McDonald اللذيْنِ بَشَّرَ أوّلُهما بموتِ “المؤلِّفِ”، وأعلنَ الثاني موتَ القارئِ الحصيفِ أي “الناقدِ”) الجزئيّةُ التي أقدّمُها لروايةِ “الحدقيِّ” للكاتبِ الموريتانيِّ أحمد فال ولد الدّين، الصّادرةِ عن دارِ مسكلياني بتونس 2018، مؤرِّخَةً لحياةِ أحدِ أبرزِ وجوهِ الثّقافةِ والأدبِ في العصرِ العبّاسيِّ عمرِو بنِ بحرٍ الشّهيرِ بالجاحظِ. وسأقتصرُ، فيما أقدِّمُ، على “الفضاءِ المكانيِّ” للرّواية بوصفه مقوِّمًا جماليًّا لا ينالُ، عادةً، حظَّه منَ القراءةِ والتّأويلِ.
وقبلَ ذلكَ أرى من المفيدِ أن أعرِّجَ قليلًا على عَتَبَةِ النَّصِّ الرئيسةِ (العنوانِ) متسائلًا، من منظورٍ تأويليٍّ، عن دوافعِ عَنْوَنَةِ العملِ “بالحدقي” بدل “الجاحظ”؛ فربما يُسهمُ الكشفُ عن تلك الدوافع في تبيُّنِ بعضِ خصوصيّاتِ الرّوايةِ: رُؤْيَةً وَمَغْزًى.
ثانيًا: مسوِّغاتُ العَنْوَنَةِ “بالحدقيّ”:
1) يُحِيلُ لقبُ “الحدقيّ”- تأويلِيًّا- إلَى التّراثِ العربيّ الإسلاميِّ في أبعادِهِ المعرفيّةِ والحضاريّةِ من خلالِ الوسيطِ اللُّغويِّ الممَثَّلِ بياءِ النَّسَبِ في آخرِهِ. فهذا الوسيطُ يَسْتحضرُ الانتماءَ الفكريَّ (معتزليّ/ أشعريّ)، والمذهبيّ (شافعيّ/ حنبليّ) والأدبيّ (جاهليّ/ إسلاميّ) والنحويَّ (بصريّ/ كوفيّ)… كما يستحضرُ كثيرًا من أعلامِ اللغةِ والفكرِ والأدبِ (الفراهيديّ، والكسائيّ، والزّجّاجيّ، والكنديّ، الفارابيّ، والغزاليّ، والبحتريّ، والمعريّ …) فنِسْبَةُ الأعلامِ إلى مُدُنِهِمْ ومِهَنِهِمْ- عَبْرَ وسيطِ ياءِ النَّسَبِ- هيَ الغالبةُ مقارنةً بغيرهَا.
وهكذا يكونُ العنوانُ خادمًا لمشروعِ الرّوايةِ السّاعِي إلى تقديمِ حياةِ علَمٍ من أعلامِ التّراثِ في أحدِ أزْهَى عصورِهِ بطريقةٍ فنيّةٍ.
2) ويَستبطنُ العنوانُ، كذلك، الانْحيازَ المبكرَ من المؤلفِ لبطلِ روايتهِ؛ ذلك بأنَّ “الحدقيَّ” لقبٌ أطلقَه الجاحظُ على نفسِه[1] استِملاحًا واستظرافًا مقابلَ لقبِه الحقيقيِّ “الجاحظِ” الذي أطلقَهُ عليهِ العامَّةُ. فَابْتِعَاثُ لفظِ “الحدقيّ” من مَرْقَدِهِ، واصطفاؤُه اسمًا لبطلِ الرّوايةِ، وعنوانًا لها، فيه انتصارٌ ضمنيٌّ للجاحظِ باختيارِ ما لَقَّبَ به نفسَهُ على ما لقَّبَهُ به النّاسُ.
3) ويُحقِّقُ العنوانُ، أيضا، ضرْبًا من التّوازنِ -على مستوى البنيةِ الشّكليّةِ- بينَ بطَلَيِ الرّوايةِ “الْحَدَقِيِّ – القَرَوِيِّ” وهوَ توازنٌ يخدمُ العلاقةَ القويّةَ بينهما كمَا تَبْدُو من ملامحِ شخصيّةِ كلٍّ منهما: عشْقًا للغةِ، وخسارةً في الحُبِّ، ومواجهةً للتحدياتِ … وَجَلِيٌّ أنَّ هذا التّوازنَ الشّكليَّ بينَ اسميِ البطلينِ- الذي جسَّدَهُ التّعادُلُ في عددِ الصّوامتِ والصّوائتِ- ما كانَ ليحصلَ لو اصْطُفِيَ لفظُ “الجاحظِ” عنوانًا للرّوايةِ بديلًا عن لفظِ “الحدقيِّ”.
4) يَقِلُّ الجهدُ العضَلِيُّ المبذولُ عندَ النّطقِ بالحدقي” مقارنةً بالنّطقِ “بالجاحظِ”؛ إذْ يَغيبُ المدُّ بما يُمثّلُه من امتدادٍ في الزّمنِ، ويَخْتفِي ما ثقُلَ من الأصواتِ (الجيم والظّاء) إيحاءً بأنّ السّرعةَ التي يُنطَقُ بها اللّفظُ، والخِفّةَ التي يَظهَرُ بها على اللّسانِ تُواكبُ العصرَ الحديثَ بما فيه من حركةٍ وسرعةِ إيقاعٍ، فكأنَّ العنوانَ يهمسُ في أذُنِ القارئِ أَلَّا انبِتاتَ بين واقعِهِ والعصورِ السّحيقةِ التي يُطِلُّ منها بطلُ الرّوايةِ.
ثالِثًا: مقاربةُ الفضاءِ المكانيِّ للنّصِّ:
1) “البيتُ” معادِلٌ للنّفسِ:
لمْ يكنِ المكانُ في (الحدقيِّ) مجرّدَ معطًى فيزيائيٍّ يُؤطِّرُ الحدَثَ، وإنّما كانَ قطعةً منَ الشُّعورِ يَنعكسُ عليها ما يَعْتَلِجُ في أعماقِ نفوسِ الشخصياتِ. “فالبيتُ”- مثلًا- ليسَ غرفةً لحفظِ المالِ والمتاعِ والبدَنِ؛ بل هوَ سَكَنٌ للنفسِ: “إن بيوتنا تختزن نفوسنا”. فالنّظر إلى “البيتِ” من الداخلِ، يُظهرُهُ “عَدِيلًا مَوْضُوعِيًّا” “لنفسِ” الحدقيِّ، وخزّانًا أمينًا لتجارِبِهِ وأحلامِه وآمالِه، فيُحْكِمُ إغلاقَه، لا خوفًا عليهِ من السّرقةِ ولكن صوْنًا للسّرِّ الذي يحويه، وحفاظًا على الخصوصيّةِ المودعةِ فيهِ أن ينالَها فضولُ الغرباءِ: “وما أدراكَ أنَّ الإنسانَ لا يُغلقُ بيتَه إلّا خوفًا من سرقةِ متاعهِ؟ إنّ بيوتَنا تختزنُ نفوسَنا، ونكرَهُ اطّلاعَ الغريبِ على ما بداخلِها”. هنا يرتقِي المكانُ/ البيتُ من جدرانٍ خرساءَ إلى مستودعٍ للسّرِّ، وملتقًى للحسِّ والشّعورِ والوجدانِ والتّجرِبةِ الذّاتيّةِ.
2) المكانُ مُكافئٌ للشّخصيّة (البصرةُ = الحدقيَّ):
يُكافئُ المكانُ الشّخصيَّةَ في ملامحها الدّاخليّةِ والخارجيّةِ! وأبرزُ مظاهرِ ذلكَ، في الرّوايةِ، مُكافأةُ “البصرةِ” “للحدقيِّ”: جمالًا وقُبحًا، وتفوّقًا وانحطاطًا.
– فمن حيث الجمالُ والقبحُ: نرى الحدقيُّ يتحدّثُ عنِ البصرةِ، أمامَ طلبةِ العلمِ، فيجَهَرُ بالقولِ: “لذلكَ ترونَ أحسنَ النّاسِ أجسامًا، وأجملَهم ألوانًا أهلُ هذهِ البلادِ، وذلكَ لوقوعِ إقليمِنا وسَطَ الأرضِ، فلمْ نَنْحرفْ شمالًا ولا جنوبًا”.
وَصْفُ البطلِ، البصرةَ، بالحُسْنِ والجمالِ، هوَ في الواقعِ، وَصْفٌ لنفسِهِ بهاتينِ الصّفتينِ؛ لأّنُه بصريٌّ حتّى الّنخاعِ. فلا بدَّ أنْ يكونَ حَسَنًا جميلًا! غيرَ أنّ الرّوايةّ تُصوِّرُه- على حقيقتهِ:- “شائهَ الخلقةِ” “بشيعَ المنظرِ”، “شديدَ الدّمامةِ”. وليسَ ثَمَّةَ تناقضٌ بينَ الوصفِ الإيجابيِّ الضّمنيِّ الذي أسبَغَهُ الحدقيُّ على نفسِه وما تَفيضُ بهِ الرّواية ممّا يُباينُ ذلكَ. فالجمالُ والحُسْنُ الحِسّيّانِ انْحَلَّا في شخصيّةِ الحدقيِّ جمالًا معنويًّا أَخَذَ طريقَه إلى “مَدارِكِ الفِكْرِ”، و”مَعاقِدِ الكلامِ”؛ فإذا الجُحوظُ وسيلةٌ للرّصدِ والمقارنةِ، وإذا الدّمامةُ المفرطةُ محفِّزٌ على الإحساسِ المرهَفِ بالجمالِ ونبضِ الحياةِ.
وممّا يعزّزُ هذا أنّ “الرّاويَ” ينعتُ الحدقيّ – عندمَا يتحدّثُ، في بعضِ المشاهدِ الخاصّةِ- بأنّه “جميلُ اللّفظِ والصّوتِ”، و”حَسَنُ الكلامِ والأسلوبِ” ليكافِئَ الجمالُ المعنويُّ، للحدقيِّ، الجمالَ الحسّيَّ لأهلِ البصرةِ، ومن ثَمَّ يكافئُ الاثنانِ الجمالَ المكانيَّ للبصرةِ.
– ومن حيث التفوقُ: نجدُ الحدقيَّ، وهوَ في حضرة الوزير ابن الزّيّاتِ، في بغدادَ – حيثُ مقرُّ الخلافةِ، ومحلُّ إقامتِه الجديدِ- يؤكّدُ تفوُّقَ البصرةِ العمرانيَّ والاقتصاديَّ رخصًا: في الأسعارِ، وكثرةً في الخَرَاجِ؛ بل يصفُها بما يجَعَلُ منهَا عالَمًا يتضمَّنُ العالَمَ الفعليَّ: “إنّ البصرةَ عالَمٌ صغيرٌ ينطوِي في تَلافيفِه العالَمُ الأكبرُ…إنّ للبصرةِ ما ليسَ لغيرها من المدنِ، فالسّعرُ فيها أرخصُ …وخراجُــ [هَا] من أكثرِ الخراجِ”.
ليسَ مهمًّا معرفةُ ما إنْ كانَ ما قالَهُ الحدقيُّ صحيحًا أم لَا – وهو صحيحٌ فعلًا منَ النّاحيةِ التّاريخيّةِ- بَلِ المهِمُّ أنَّ المشهَد الحواريَّ يقتضِي منه أنْ يُظهرَ تفوُّقَهُ ومهاراتِه إظهارًا غيرَ فَجٍّ، فلا يجدُ غيرَ المكانِ (البصرةِ) مُعينًا لهُ على تحقيقِ بُغْيَتِهِ: فإذَا كانتِ البصرةُ عالَمًا في مدينةٍ فإنّ الحدقيَّ أُمّةٌ في رَجُلٍ. وإذا كانتْ متفوقةً على بغدادَ والكوفةِ وجميعِ مدنِ الدّنيا عمرانًا واقتصادًا- وهيَ الأمورُ النّافعةُ للنّاسِ في عيشتِهِمْ وتدبيرِ أمورهمْ- فإنَّ الحدقيّ متفوّقٌ على أهل بغدادَ، وأهلِ الكوفةِ، وجميعِ أهلِ الدّنيَا: فِكْرًا وأدَبًا نافعًا، تَحْيَى به القلوبُ، وتَتَغذّي به الأرواحُ.
– ومن حيثُ الدُّونيّةُ والانحطاطُ: نُلْفِي الحدقيَّ، في أحد حواراته مع جاريته (علية/عريب) يسعَى جاهدًا- وإن بغيرِ قناعةٍ داخليّةٍ منهُ (لأنه في مقامِ المنتصِر)ِ – إلى الإعلاءِ منْ شأنِ الجاريةِ، والتّقليلِ منْ شأنِ نفسِهِ تطييبًا لخاطرها، وإيناسًا واسترضاءً لها، فلا يجدُ غيرَ البصرةِ مشجَبًا يُعلِّقُ عليهِ مَثالِبَهُ المزعومَةَ؛ إسقاطًا لصفاتِ المكانِ على الشّخصيّةِ، فيصِمُها بما هي منه براءٌ، ويجعلُها (أي البصرة) تهبِطُ أدْنَى الدّركاتِ بعدَ أن كانتْ تتَبَوّأُ أعلَى الدّرجاتِ: “هذهِ المدينةُ ليستْ كأصبهانَ، فهيَ لا تُنبتُ منَ الأشجارِ إلّا ما فيه شوكٌ، ولا منَ النّباتِ إلّا المرَّ… أمّا نساؤُها فيضرِبْنَ رجالَهُنَّ”!
وعندمَا ردّتْ عليهِ الجاريةُ: “إنّها تُنبتُ الرّياحينَ والنّارنجَ والتُّفاحَ”، أجابَها: “هذهِ النّباتاتُ وإنْ نَبتتْ هنَا إلّا أّنهَا غَريبةٌ في هذه التُّرْبَةِ، فقدِ انْتُزِعَتْ من مَنبتِهَا ونبتتْ مُكرهَةً … فَيَنْعَكِسُ ذلكَ في الطّعمِ”! فهوَ في مقامِ الحاجةِ إلى التّفوّقِ جعلَ البصرةَ تعكسُ تفوّقَهُ، ولَدَى العكسِ جعلَها ترجعُ القهقرَى أمامَ أصبهانَ!
فالثّابتُ: مكافأةُ المكانِ للشّخصيّةِ، والمتغيِّرُ: جنسُ الصّفاتِ حسبَ المشاهدِ والمقاماتِ.
3) المكانُ ونسبيّةُ الحقائقِ:
لعبَ المكانُ في الرّوايةِ دورَ المحفِّزِ على “استبهامِ الحقيقةِ”، والْمُظْهِرِ مدى نسبيّتِها، انطلاقًا من جدليّةِ العلاقةِ بينَ “الواقعِ” و”الذّات المدْرِكَةِ” لهُ: فالقُرْبُ المكانيُّ يَحْجُبُ الجمالَ، والبُعْد يكادُ يصْطنعُه ويتخيَّلُهُ. ذاكَ شأنُ الحدقيِّ معَ البصرةِ، يشعرُ بجمالِها إن نظَرَ إليها من قريبٍ، وتَتجلَّى له عروسًا كلَّما ابتعدَ عنهَا، وذاكَ شأنُ القُربِ والبُعدِ المكانيّيْنِ، يؤثّران في حُكْمِنا على الأشياءِ، وفي تقويمنا لهَا، فتَنْأَى عنّا الحقيقةُ المحايدةُ بقدرِ حضورِ أحدِهِما.
إنَّ استنتاجَ الحدقيِّ لهذا الأمرِ من تأمُّلِهِ البصرةَ- وهيَ المكانُ الأثيرُ عندَهُ- جعلَ الكوْنَ في نظرِهِ – على مستوى البنيةِ اللَّا شعوريةِ -مبنيًّا على “الوهمِ” و”التّضادِّ” و”المفارقاتِ”؛ ولذلكَ اكتسبَ القدرةَ على تفسيرِ السّلوكِ بالأمرِ ونقيضهِ، وعلى مدحِ الشيءِ وذمّه في آنٍ واحدٍ.
إنَّ سُلْطَةَ المكانِ- في صلتها بالحقيقة والقِيَمِ ومرونةِ رَوائزِ القياسِ- تفسِّرُ لنا- ولو جزئيًّا- ذلكَ الصِّراعَ النّفسيَّ الرّهيبَ الذي عاناهُ بطلا الرّوايةِ في تجارِبِ الحبِّ التي خاضاهَا: فمُنطلَقُ تجربةِ الحدقيِّ معَ تماضرَ “مكانٌ” سُجِّيَ فيهِ أبوهَا جنازةً! حيثُ المقامُ مقامُ مأتمٍ لا مأثمٍ، ودخولُ (مطوعة بريدة/ حصّةَ) “المستشفَى”، بسببِ توابعِ علاقتِها بالقرويّ، دفعَهُ- في البدايةِ- إلى الزّهْوِ بدلَ التَّألُّمِ!
وإذا كانَ الحدقيُّ يجدُ سنَدَه في “العقلِ”، بوصفه متكلِّمًا معتزليًّا، وفي “الكِتابِ”، باعتبارِهِ أديبًا بليغًا – فإنَّ ذَيْنِ خَذَلَاهُ في غمرةِ صراعِه العاطفيّ الفكريِّ الجامحِ ضَنًّا بالحقيقةِ وحَجْبًا لهَا عنهُ: فالعقلُ “طائش”، أو “غائب” والكتابُ يمنعهُ ماهيتَهُ ولا يمنحُهُ منها “إلّا ما كانَ مطمورًا في دهاليزِ نفسِــ”ــــــهِ. فخداعُ الحواسِّ المعهودُ تواطأتْ معهُ الأبعادُ المكانيّةُ على تغييبِ الحقائقِ استجابةً لدواعِي أنفسٍ مكلومةٍ دلَّهَها العشقُ فلمْ تعدْ ترَى منَ الحقيقةِ إلّا ما بداخلهَا!
4) أثَرُ البيئةِ المكانيَّةِ في الشّخصيّةِ (القرويّ: نموذجًا):
يبدُو تأثيرُ البيئةِ المكانيَّةِ قويًّا في شخصيّةِ القرويِّ الذي لمْ تروِّضْهُ قناةُ العروبةُ، ولمْ تَسُسْهُ بُروجُ الدّوحةِ وكورنيشُها، فظَلَّ وفِيًّا لما جَبَلَتْهُ عليه “الصّحراءُ”: اندفاعًا في السّلوكِ، واعتدادًا بالنّفسِ، وجرأةً على الصَّدْعِ بما يراه حقًّا، بَيْدَ أنَّ الذي وَسَمَتْهُ به صحراؤُهُ وَسْمًا باقيًا سمتان رئيستانِ: أولاهما: “عشقُ اللغةِ”، وهي السّمةُ الناظمةُ جُلَّ سلوكِه بما له وما عليه: فهي التي أوحتْ إليهِ بالمجيء إلى “الدوحةِ”- تلك المدينةُ التي يحبُّ أهلُها اللغةَ العربيةَ وكلَّ من علا كعبُه فيها- وهي التي اختطّتْ مشوارَهُ المهنيَّ، وضمنتْ مستقبلَه الوظيفيَّ، وفوقَ هذا وذاك جمعَتْ بينه وبينَ الحدقيِّ.
وثانيتُهما: عشقُ الحريَّةِ؛ فهوَ في صدِرِ الرّوايةِ يعلنُ عنْ نفسِهِ أنّه “مِن مجتمعٍ تعوَّد المشيَ في فيافٍ منبسطةٍ لا ازدحامَ بهَا، يمشي كيفَما شاءَ”، وعندَ قبولِهِ كتابةَ روايةٍ عنِ الجاحظِ اشترطَ “أنْ يكتبَ كما يحْلُو لهُ”، و”على مزاجِهِ”، وفي ختامِها نراه يسرِّحُ ذهنَه إلى بلادِه التي هيَ “”صحراءُ” لا سلطانَ لأحدٍ عليهِ فيهَا”.
إنّ اللغةَ أداةٌ للفكرِ وصانعةٌ له معًا؛ والفكْرُ مَبْعَثُ الحريّةِ ومُنطلَقُ الوعيِ بالواقعِ: حُبًّا وجمالًا… فعشْقُ اللغةِ ما هو إلا ضَرْبٌ من الوعيِ ينشأُ عنه تعلُّقٌ بالحريّةِ، فيَغْدو معهما الجمالُ الأنثويُّ – ممثَّلًا في (مطوعة بريدة)- جمالًا لغويًّا جديرًا بالعشقِ، وتغْدو (مطوعة بريدة) نفسُها رمزًا للغةِ، حَرِيّةً بالعشقِ، وتغْدو مغالبةُ الحواجزِ والموانعِ الاجتماعيّةِ المانعةِ من تحقّقِ الزّواجِ منها شكْلًا من أشكالِ ممارسةِ”الحريَّةِ”.
5) الفضاءُ المتحرّكُ:
إذا كانَ الثّباتُ من أخصّ خصائصِ المكانِ في الكونِ الوجوديِّ فإنّه ليسَ كذلكَ في الكونِ الرّوائيِّ، ولا سيَما في لحظاتِ الانفعالِ والتّفجرِ العاطفيِّ التي يتعرَّض لها شخوصُ الرّوايةِ؛ إذْ يكتسبُ المكانُ صفاتِ الشَّخصيَّةِ ويتبادلُ معهَا الدَّوْرَ ثباتًا وحركةً، فترَاهُ كأنما يسيرُ، والشّخصيّةُ ثابتةٌ. تقولُ (مطوعة بريدة/ حصّةُ): “أَنا في السّيتي سنترْ أشترِي بعضَ الأغرضِ”. فيردُّ عليها القرويُّ: “صحيحٌ. مركزُ المدينةِ حيثُ أنتِ”! فالمعهودُ أنّ مركزَ المدينةِ ثابتٌ والإنسانُ هوَ الذي يتحرّكُ ليصلَ إليهِ إلّا أنّ خضوصيّةَ اللّحظةِ التي يعيشُها القرويُّ سوَّغتْ أنْ يكونَ مركزُ المدينةِ هو الذي يتحرّكُ، فينتقلُ إلى المحبوبةِ!
وربمَا حضرَ المكانُ في الرّوايةِ، عبرَ أفعالِ الحركةِ، فتماهَى مع الحدثِ، دالًّا على تكْثِيفِهِ، ومُضيئًا أحدَ جوانبِ الشّخصيّة: فهذا الحدقيُّ عيناهُ “تسافرانِ بينَ الوجوهِ وسقفِ الدّكانِ، والكتبِ، والبَاعةِ، والمارّينَ في الزّقاقِ”، وذاكَ القرويُّ “سافرَ أيّاًما في عالَمِ” حصّةَ، “وأَبْحَرَ في تلافيفِ شخصيّتِها دونَ أنْ يدريَ”.
رابعًا: صياغاتٌ ختاميّةٌ:
لَا يجدُ قارئُ (الحدقيّ) كبيرَ عنَتٍ في استنتاجِ أمريْنِ هامّينِ:
– أوّلهمَا أنّ عنوانَ الرّوايةِ مهَّدَ – بمعناهُ ومبناهُ- لِمَتْنِها الحكائيِّ، إنسانًا وزمانًا (الجاحظُ، والعصرُ العباسيُّ في أوجِ عطائهِ)، وعَكَسَ التَّعالُقَ بين المؤلِّفِ والبطلِ، ووَضَعَ في الاعتبارِ القارئَ المعاصرِ لسانيًّا ونفسيًّا.
– وثانيهمَا: ذلكَ التّفاعلُ؛ بل التّماهِي أحيانًا بينَ شخوصِ الرّوايةِ والفضاءات التي تحيطُ بهَا وتتحرّكُ ضمنَها؛ إذِ انصهرَ المكانُ في بوتقةِ الشّخصيّةِ، وغدَا أحدَ أبعادِهَا النّفسيّةِ، ومكوِّنًا من مكوّناتهَا الدّاخليّة: يحفّزُها على السّلوكِ، ويفسّرُ مواقفَها وتصرُّفاتِهَا، ويكتسبُ منها القدرةَ على الفاعليّةِ والحركةِ.
إنّ ذلكَ التّفاعلَ-التّماهيَ يفسِّرُ هيمنةَ “الخطابِ التّأَمُّليِّ” – وصْفًا وتحليلًا نفسيًّا – على الرّوايةِ مقارنةً “بالخطابِ العمليِّ”، أي: الحوارِ والسّردِ (من النّاحيةِ النّوعيّةِ، على الأقلِّ). وليسَ ذلكَ بغريبٍ في عملٍ يترجمُ حياةَ رجلٍ قالَ عنه الرّافعي: إنّه “خُلقَ للإحساسِ والوصفِ” و” أُرسِلَ لتدقيق النظرِ[2]“!
ولعلَّ التعلُّقَ بالعالَـمِ الباطنيِّ للإنسانِ (مشاعرَ وأَحاسيسَ، وفِكَرًا وأخْيلةً) والغوْصَ في أعماقِ النّفسِ البشريّةِ (نوازعَ، وكوامنَ، وبواطنَ، ودواخلَ، ودهاليزَ، …) وما استتْبعَ ذلكَ واقتضاهُ من صراعٍ هُزمتْ فيه القيمُ الإنسانية- ولوْ إلى حِينٍ- حيث بَدَتِ الحريّةُ نقيضًا للحياةِ، وبَدَا الجمالُ مُفْضِيًا إلى سُوقِ النّخاسةِ، والحبُّ مطيّةَ للإخفاقِ، والعلمُ مصيدةً للفقرِ والجوعِ، والعقلُ رهينًا للشّقاءِ، وخادمًا طيّعًا “للميولِ والأهواءِ وزوابعِ الوجدانِ”- لعلَّ ذلكَ ممَّا قرَّبَ (الرّواية) إلى المتلقّي بِحُكْمِ أنّ إنسانيّةَ الإنسانِ إنّما تتحقّقُ منْ خلالِ نفسِه، لا من خلالِ بدَنهِ، فيشعرُ قارئُها- وهوَ يغرقُ مع الشّخصيّةِ في بحرِ المعاناةِ، أو يتجرّعُ معها كأسَ الصَّدِّ، أو يَمْتَحُ معها من سلسبيلِ الظَّفَرِ- أنّه المخاطَبُ المعنيُّ، فتشْتَدُّ صلتُهُ بها.
والواقعُ أنَّ مَكْمَنَ قوّةِ الرّوايةِ ليسَ، فقط، في توظيفِ المكانِ توظيفًا جماليًّا، ولا في إحكامِ الحُبْكَةِ الفنيّةِ على الرّغمِ من تداخلِ الأزمنةِ، وكثرةِ الأصواتِ، ضمنَ البنيةِ السّرديّةِ؛ بل في لَبُوسِهَا اللُّغويِّ الذي تجلَّتْ فيهِ، فقدْ صِيغَ هذَا العملُ الإبداعيُّ بلغةٍ رصينةٍ “عاليةٍ”.
[1] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، الراغب الأصفهانى، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت1420هـ: 1/ 90
[2] وحي القلم، مصطفى الرافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م: 3/ 64 – 65
اترك رد